وائل النجمي
تُقدِّم لنا (مي التلمساني) – عبرَ روايتها «أكابيللا» – وجبةً روائيةً من النوعِ الدسمِ، تثيرُ المواجعَ، وتحفزُ التفكيرَ، وتشعرُكَ أثناءَ القراءةِ أنك تمتطي صهوةَ عقلكِ وتسافرُ في ثنايا الذات – سواءٌ ذاتكَ أو ذواتِ الشخصياتِ التي تتناولها الروايةُ – ويتحولُ فعلُ القراءةِ إلى بحثٍ وتنقيبٍ عن الشخصيةِ الرئيسيةِ في الروايةِ عن (عايدة)، أو (إيدا) كما كانت تُحبُ أن يناديها أصدقاؤها، لكن مع الوقتِ سنكتشفُ أن (عايدةَ) ليست وحدَها الشخصيةُ الأساسيةُ في الروايةِ، بل ربما الروايةُ ليست أساسًا عن (عايدة)، بل عن (الراويةِ) التي تَرْوِي لنا، والتي لا تَظْهَرُ لنا إلا من خلالِ فعلِ التتبعِ لشخصيةِ (عايدة)، وعلاقاتِها بأصدقائها – أقصدُ علاقاتِ كلٍّ من (عايدة) و(الراوية) بذاتِ مجموعةِ الرجالِ الذينَ هم متحلقونَ حولَ (عايدة)، ثم ينتهي الأمرُ بوفاةِ (عايدة)، وتحلُ الراويةُ محلَها، وتسكن (الروايةُ) في شقةِ (عايدة) ذاتها؛ تُمِدُ جسورَ التواصلِ معهم، على أملٍّ؛ أن تحتلَ في حياتهم ذاتَ المكانةِ التي احتلتها (عايدةُ) يومًا.
مِنْ أينَ إذن يُمْكِنُ تحليلُ هذه الغابةِ من العلاقاتِ المعقدةِ، هل نبدأُ من الصداقةِ بين (عايدة) و(الراوية)؟ أم من العلاقاتِ المعقدةِ بين (عايدة) وأصدقائها الأربعةِ المقربين؟ أم من علاقة (الراوية) مع هؤلاء الأربعةِ ذاتهم؟ أم من علاقة (الراوية) مع زوجها – وحماتها؟ وأثرُ الصداقةِ مع (عايدة) على هذه العلاقة؟ أم من علاقةِ (الراوية) و(عايدة) مع نفسيهما؟ مع تخيلاتهما وأحلامهما النسائية ومقدارِ شعورهما بالسعادةِ أو التعاسةِ أو الرغبةِ الجنسيةِ أو القوةِ والضعفِ وغيرها من المشاعرِ؟
على خلفيةِ هذه التساؤلاتِ؛ يمكنني القولُ أن “البطلَ الحقيقيَ” للروايةِ هو البحثُ في الذاتِ عبرَ تداخلاتِ العلاقاتِ بينَ الصداقةِ والرغبةِ والحبِ والطبقةِ الاجتماعيةِ أيضًا، وأن ما يحققُ المتعةَ الجماليةَ للقراءةِ قدرةُ المؤلفةِ على الحبكِ مِنْ الأشجارِ الكثيفةِ لهذه العلاقاتِ المعقدةِ – ا لشرعيةِ وغير الشرعيةِ أحيانًا – لتخرجَ لنا بستانًا متعددَ الثمارِ، أينما اتكأتَ تحتَ شجرةٍ من أشجارهِ، قطفت ثمرةً مختلفةً، إذن ستختلفُ ثمارُ القراءةِ بحسبِ الزاويةِ التي يدخلُ القارئُ منها، فأولا ستختلفُ الرؤيةُ لجوانبِ النصِ إن كان القارئُ ذكرًا عن كونه أنثى؛ فمثلًا أنا أجدُ أنَّ وصفَ (الراوية) في ثنايا حديثها عن (عايدة) وهي تحاولُ أن تكبحَ جماحِها في إهدارِ المالِ؛ فتقول: «لفت انتباهي نوع من ستائر الحمام مصنوع من الدانتيل فتوقفت أمامه ورحت أختبر طراوة القماش وأقلبه بين يدي. كان ظهر الستارة من البلاستيك الرقيق ووجهها من الدانتيل السنتيتيك، وملمسها فخما كأنها ستارة صالون.» صـ20.
بالنسبةِ لي – كرجل – أجدُ هذا الوصفَ مملًا، ما الفارقُ الجوهري بين ستارةِ الحمامِ وستارةِ الصالونِ، وما الدانتيلُ العادي، مقارنةً مع “السنتيتيك”؟ كيف يؤثرُ هذا على مسيرةِ الحكي؟ لكنني توقفتُ أمامَ إشادةِ الصديقةِ (هدى توفيق) بهذا الوصفِ، وهو ما جعلني أنتبهُ للفرقِ العامِ بين رؤيةِ الرجلِ، ورؤيةِ المرأةِ حولَ هذه الأمورِ، وذلك جعلني أفكرُ في سؤالٍ أخر: عندما تكتبُ الكاتبةُ المرأةُ هل تقدمُ كتابَتها للقارئ الرجلِ؟ أم للقارئةِ المرأةِ؟ ولو افترضنا أنها تقدمُها لكلا الجنسين، فلمن تنتصرُ في الرؤيةِ؟ هل تحاولُ أن تشرحَ للقارئ الرجلِ مثلًا طبيعةَ المرأة؟ أو العكسُ، هل تُقَرَّبُ للمرأةِ طبيعةَ الرجلِ؟ هذا السؤالُ جعلني أرى أن روايةَ «أكابيللا» هي في الأساسِ بحثٌ في طبيعةِ المرأةِ ذاتها، لماذا نحن – معشرَ الرجالِ – نفترضُ أساسًا أن هناك رؤيةً واضحةً لدى المرأةِ مستقرةِ وتتعاملُ مع الأحداثِ وفقًا لها؟ هذه طبيعتنا نحن الرجالَ فقط، أما المرأةُ فهي في حالةِ بحثٍ دائمةٍ حولَ ذاتها، في حالةِ تغيرٍ يبحثُ عن وجودِ الملاذِ الآمنِ في الحياةِ، الذي غالبًا ما يكشفُ عن نفسهِ في صيغةِ رجلٍ يبدو لوهلةٍ مختلفًا عن الأخرين.
ربما يؤيدُ ما أذهبُ إليه قولَ الراويةِ: «ما ربطني بها وبالشلة كان أشبه بالبحث عن ملاذ من نفسي، بعيدا عن نفسي، بعيدا عما كنت أعتبره قاموس الأخلاق والقيم الثابتة، ولم يجلب لي السعادة التي كنت أتمناها. بفضل عايدة انفتحت عيناي على اتساعهما، ولم يعد من النظر مهرب: عايدة وحياتها من ناحية، ونفسي وحياتي من ناحية أخرى، متوازيان من الفشل وعدم الرضا.»صـ145، هذا الوصفُ يأتي على نقيضِ ما نظنه عن شخصيةِ الراويةِ، فالراويةُ ناجحةٌ في حياتِها، وفي زواجِها، ولها عملُها الذي يحققُ لها استقلالًا ماليًا عن زوجها، فضلًا عن كون زوجها من عائلةٍ ثريةٍ، وشخصيةُ (الراوية) تبدو متزنةً رصينةً – في بدايةِ الروايةِ – لا مجالَ لديها للخطأِ أو التسولِ، أو الوقوعِ في علاقاتٍ غيرَ شرعيةِ؛ كلُّ شيءٍ يتمُ بمقدارٍ، كيفَ تصلُ لهذا الشعورِ من الإحساسِ بالضياعِ؟
لدى الراويةُ مشكلةٌ كبيرةٌ في تكوينها النفسي، إنها تشعرُ بجوعٍ لطعمٍ مغايرٍ للحياةِ عن التقليديةِ والنمطيةِ التي تعيشُها، إنها لا ترى المثاليةَ الحياتيةَ التي تحياها في كنفِ زوجها وأسرته البرجوازية، ومع طفلها، لا ترى فيهم السعادةَ، لا تشعر بأن زوجَها وطفلَها كافيان لملء حياتِها، تقول: «قلت لزوجي إن عايدة حياتها مليئة بي وبغيري، وأنا حياتي خالية إلا منه ومنها، هو حبيبي وهي صديقتي، وجودهما لا غنى لي عنه»صـ103، وفي ظلِ صداقتها معها، حدثَ لها الكثيرُ، لكنها كانت دائمًا ترى نفسها ظلًا لعايدة، وصداقتها معها هي في الحقيقةِ محاولةٌ للصداقةِ مع الأربعةِ رجالٍ الذينَ من حولها، ليس معها هي، حتى أن الراويةَ لم تضع لنفسها اسمًا، واكتفت بما كانت تطلقه (عايدة) عليها، أقصد (ما هي)، وهي تسميةٌ تثيرُ في حد ذاتها العديدَ من التساؤلاتِ التأويليةِ، فـ(ما هي) قد تكون سؤالًا، ومِنْ ثمَّ تصبحُ القراءةُ عنها بحثًا حولَ هذه الشخصيةِ، وتصبحُ من وجهةِ نظرِ (عايدة) شخصيةً ملغزةً محيرةً، أما لو نظرنا لـ(ما) باعتبارها اسما موصولا، فيصبح المعنى: (الذي هي)، ومن ثم تصبح شخصيةُ الراويةِ في مكانةٍ مرموقةٍ بالنسبة لـ(عايدة)، كل المعاني ممكنة، وأما لو وضعناهما معا: (ما هي عايدة)، نصبحُ أمامَ معنى تأويلي جديدٍ، فتكون شخصيةُ الراويةِ هي بذاتها (عايدة)، وهو افتراضٌ مقبولٌ، ماذا لو كانت شخصيةُ (عايدة) هي من تكتبُ الروايةَ بالفعلِ؟ وأنها لم تحبْ أن تواجهنا بنفسها مباشرةً، فتوسطت إلينا عبرَ شخصيةِ الصديقةِ التي تحاولُ أن تقلدَ (عايدة)، وتكون مثلها في كل شيء؟ ماذا لو كانت النهايةُ هي البدايةُ، وأن مَنْ انتهت بها الروايةُ وهي جالسةٌ في شقةِ (عايدة) هي ذاتُها (عايدة) منذ البدايةِ، وهي تمارسُ لهْوّها تحت مسمى اكتشافِ العالم، لتعيشَ بين عالمين، بين عالمِ زوجها والتزاماتها الأسريةِ، وبين مغامراتها مع الأصدقاءِ الأربعةِ.
على أية حالٍ، سنعودُ في الخاتمةِ لاحتمالٍ آخر قد يبدو أغربَ، لكن ماذا عن رؤيةِ (عايدة) حولَ واقعةِ الحبِ المتكررةِ، تقولُ الراويةُ على لسانِ (عايدة): «كانت عايدة تقول إن الإنسان يقع في الحب دائما وبشكلٍ متكررٍ، على فتراتٍ متباعدةٍ أو متقاربةٍ، لمدد تطول أو تقصر. تقول إن النساء لا يصرحن بذلك من باب العفة، والرجال يعترفون بالحب من باب الزهو. وكنت أصدقها حين تقول إن الحب القليل فرض على النساء، الحب الكثير حق مكتسب للرجال. كأنها أمور طبيعية، ولدنا بها، والحقيقة أننا نشأنا وتربينا لنتقبل الحال على ما هي عليه. أحيانا لا يدوم الحب سوى عدة أشهر، وأحيانا أخرى يمتد بامتداد العمر.»صـ71، وفي اعتقادي أن هذه الفقرةِ من النقاطِ المفتاحيةِ في محاولةِ تحديدِ الرؤيةِ والنظرِ إلى بوصلةِ الاتجاهاتِ في خريطةِ الحكي الروائي، داخل غابةِ العلاقاتِ التي ذكرتها، لكن ربما تجدرُ الإشارةِ إلى أننا معشرَ الرجالِ لا نفهمُ بعدَ مقدارَ ما يحتلهُ الحبُ من أهميةٍ في حياةِ المرأةِ، فنحن الرجالَ نرى الحبَ كواحدٍ من المكوناتِ التي توجدُ في الحياةِ، بينما المرأة ترى الحياةَ من خلالِ الحبِ، فإما يوجدُ الحبُ، فتكون هناك حياةٌ، أو لا يوجدُ، فليس ثمةَ حياةٍ.
ومن ثم تأتي إشكاليةُ العلاقاتِ العابرةِ في الحبِ، هل يمكنُ أن يستمرَ حبٌ واحدٌ فارضًا سيطرتَه على طرفيهِ – الرجلَ والمرأةَ؟، تقولُ الراويةُ: «وكنت أرى أن حبا واحدا كبيرا لا يحدث إلا نادرا، نادرا بشكل يغيظني شخصيا، كأن الأقدار ضدي في هذه المسألة، وكأن كل روايات الحب الرومانسية التي قرأتها في صباي كاذبة.»صـ71، نتفهمُ هذا الحكمَ في إطارِ خيانةِ زوجها لها، تلك الخيانةُ التي ترويها (عايدة) بشكلٍ مختلفٍ في مذكراتها، فتقول: «هي مسكينة، وزوجها يستحق الشفقة أيضا. خيانة واحدة في السنة الخامسة لزواجهما ثم ارتدع وعاد إلى العش ذليلا، وهي غفرت له. تقول من حق الإنسان أن يقع في الحب مرة ومرات، ويقول هو إن الأنسان يقع في الخطيئة أيضا. اعترف لها حين كشفت علاقته بامرأة غيرها، أراد أن يكون صادقا مع نفسه ومعها.»صـ117، فمن وجهةِ نظرِ (عايدة) – الشخصيةُ النموذجيةُ التي ترغبُ (ما هي) أن تكونَ مثلها – فإن زوجَ (ما هي) مسكينٌ، لم يستطع أن يحافظَ على تفلتهِ وتحررهِ من قيدهِ في حياتهِ الزوجيةِ مع (ما هي)، وبينما عاقبتهُ (ما هي) عقوبةً شديدةً على خيانتهِ فاستأصلت الرحمَ لتحرمه من أيةِ أبوةٍ قادمةٍ، بما في ذلك من عقابٍ لها أيضًا، ورغم ذلك فهي تكنُ لزوجها كلَّ مشاعر الحب.
ورغم هذا الحبِ لزوجها إلا أنها تخجلُ من ذكرِ محبته لشلتها، تقول: «أخجل من الاعتراف بأني أحبه وأتخيل رد فعل الشلة على قصة حب بين زوج وزوجته! قد يتقبلها أسامة وقد يتفهمها عادل، لكن عايدة ستسخر منها وكريم سيرغب في تخريبها لمجرد أنه يهوى التخريب. هي أشياء لا تحكي، ليس لهؤلاء؟»صـ122، والسؤال هنا: إن كانت (ما هي) على هذا القدرِ من الحبِ لزوجها، فلماذا ينتهي بها الحالُ بقبولِ الخيانةِ والاستسلامِ لـ(كريمِ) لمجردِ أنه شخصيةٌ غيرِ نمطيةٍ لديه القدرةِ على لفتِ أنظارِ السيداتِ واشعالِ رغباتهم الجسديةِ، نتيجةَ ما اكتسبه من خبرةٍ في علاقاتهِ المتعددةِ؟ لماذا وهي التي تمنعت، ورفضت هذا الاستسلامَ له في حياةِ (عايدة)، تعودُ لكي تلبيهُ من جديدٍ بعد وفاتها؟ هل كانت تخشى (عايدة) في حياتها؟ وتخشى عاقبةَ إقامةِ علاقةٍ مع أحدِ أصدقائها؟ خاصةً أن (عايدة) أشارت في يومياتها لـ(ما هي) بوصفها مَنْ تسرقُ أصدقاءها منها، فهل انتظرت (ما هي) الوقتَ المناسبَ؟ أم هل هو الضعفُ البشريُ المركبُ فينا، والذي ينتصرُ في النهايةِ على ملائكيتنا فيوقعنا في الخطيئة؟ والأهم: لماذا ماتت (عايدة)؟ في البدايةِ شعرنا أنها انتحرت، ثم تأتي الأمورُ غامضةً بشأنِ وفاتها – ربما من المناسب الآن ذكر ان المكان والزمان بعامةٍ في الروايةِ يأتي غامضًا غيرَ محددِ المعالمِ – لكننا لا نعرفُ على وجه الدقةِ كيفَ ولا لماذا ماتت (عايدة)، فهل هناك احتمالٌ أن تكون (ما هي) هي من قتلتها، حتى تحلُ محلها في الشلةِ؟ حتى تحصلُ على أصدقائها الأربعة خالصين لها، بعيدًا عن وجودِها؟ وبهذا نكون أمامَ حالة عكسية من فعل (قابيل) و(هابيل) فبدلًا من أن يكون الأخُ قد قتلَ أخاه مِن أجلِ امرأةٍ، تكون المرأةُ قد قتلت صديقَتها مِن أجل أربعةِ رجالٍ؟! افتراضٌ فانتازي بالطبعِ، لا يوجدُ في الروايةِ ما يدعمه، لكن أيضا لا يوجد ما ينفيه، وفي الختام أتركُ القارئَ مع افتراضاته الخاصةَ به حول الروايةِ عندما يقرؤها.