محمد الفخراني
“هل تَذكُر الرجل الصوفى الذى حدَّثتُكَ عنه منذ يومين؟”، قالت “تَخَيَّلْ”.
“نعم، الموت والمرض والفقر والثراء تجربة على خط الحياة الممتد”، قال “نقَّار الخشب” وهو يتابع حركة قدميها فى ضوء القمر.
“هذا الرجل قال لى شيئًا أعجبنى، تحب أن تسمعه؟”.
“أُحب ابتسامتكِ”.
ابتسَمَتْ “تَخَيَّلْ”، توقفَتْ فى مكانها، وقالت:
“تحدَّث معى الرجل عن شىء أسماه العقل الكُلِّى، والعقل الجزئى، قال إن العقل الجزئى يتوقف عند الأجزاء أو المقاطع التى يراها من العالم، ولا يمكنه أن يرى أو يفهم أَبعدَ منها، هذا العقل الجزئى يستَبِدُّ بما يراه، وما يراه أيضًا يستبِدُّ به، فلا يستطيع أن يتخيَّل صورة، أو فكرة أكبر، تحوى هذا الجزء بداخلها، حتى إن هذا الجزء الصغير لا يكشف له عن حقيقته، قال لى الصوفى، إن هذا هو أكثر أنواع الاستبداد قسوة”.
قال “نقَّار الخشب”: “قرأتُ عن هذا فى بعض كتب الصوفيَّة، والنُسَّاك، والرحَّالة، وكتب تحكى عن حياة متجوِّلين، وفنانين، وكتَّاب، نعم، الفكرة تعجبنى بشكلٍ ما”.
قالت “تَخَيَّلْ”: “العقل الكلِّى يرى بقية الصورة، الفكرة، ويعرف جوهر الجزء المكشوف منها”، تصمُتْ لحظة، ثم تُكمِل: “قليلون من لديهم عقل كلِّى”، تبتسم: ” أنا لستُ منهم، حتى الآن على الأقل، أُحب أن أكون، وأعرف أن الأمر ليس سهلاً”.
“أو ربما أسهل مما تتوقعين”.
“لا أعرف”.
“لا أحد يعرف”.
“فهمْتُ من كلام الصوفى أن قَدْرَ كل إنسان بقَدْرِ ما يرى”.
“تقصدين أن البعض تتوقف رؤيته عند حفنة التراب، أو مشهد لأشخاص يموتون فى زلزال أو فيضان، ولا يمكنه رؤية صورة أو فكرة أكبر؟”.
“ليس بالضبط، أنا أتفهَّمُك فى حالة الزلزال وغيره، لكن”، فكِّرَتْ “تخَيَّل” لحظة، وقالت: “أعتقد أن المشكلة بالأساس فى التخَيُّل، الخيال الفَنِّى لا ينقصك طبعًا نقَّار الخشب، فقط أفكر أن البعض لا يستطيع أن يتخيَّلْ أنه من الممكن أن يحيا مرة أخرى بعد أن يصير ترابًا، أو يتلاشى بطريقة ما”، تضحك ضحكة قصيرة، وتقول: “أنا أستطيع أن أتخيَّلْ هذا، وأُحبه، الصورة نفسها تعجبنى”، حرَّكَتْ يديها فى موجات بين الأرض والفراغ كأن شيئًا أو شخصًا يتشكَّل بطريقة ما، ثم نظرَتْ إلى “نقَّار الخشب”، وقالت: “هل تعتقد أنى كنت لأستمر فى جَلْب الأطفال لهذا العالم لو أنهم سيصيرون فى النهاية إلى لا شىء، أنا أعرف نفسى، كانت ستأتى علىَّ لحظة أشعر فيها بالإحباط واللا جدوى”، نظرَتْ بعيدًا، ابتسمَتْ، وقالت: “عندما أَسحبُ الطفل من رحم أمه، أعتبر أنى آجىء به إلى الخلود”.
قال “نقَّار الخشب”: “أنتم المؤمنون تقولون بلسانكم أنكم مِن التراب وإلى التراب تعودون”.
هرولَتْ إليه، توقفَتْ بمواجهته، وقالت:
“اُنظر كَمْ هى جُمْلة كئيبة عندما تقولها بمفردها، لكن عندما تَذْكُر بقيِّتَها يتغيَّر حالها، هناك شىء بعدها، التراب ليس إلا مرحلة مؤقتة”، نظرَتْ بعيدًا كأنما ترى فكرة لا تُعجبها: “مِن التراب وإلى التراب نعود، وينتهى الأمر؟ لا يكون لى وجود أبدًا، كأنى لم أكن؟ لا تعجبنى هذه الفكرة”.
“آسف أن أُخبركِ من جديد أنها الحقيقة، لا شىء بعد الموت غير فناء نهائى”، قال “نقَّار الخشب”.
تأمَّلَتْه لحظة وقالت: “تخيَّلْ لو أن كل شىء يصير إلى فناء نهائى، سواء بالتحوُّل إلى تراب، أو الحَرْق، الغَرَق، أو أن تأكلنا طيور وحيوانات، أىّ فناء نهائى بأية طريقة، هذا مُحْبِط وحزين”.
“العالم ملىء بالأشياء الحزينة المُحْبِطَة”.
تنفَّسَتْ “تَخَيَّلْ” بعمق، ابتسمَتْ، وقالت: “اِسمع نقَّار الخشب، أنا خالدة، وسأنهض من جديد بعد موتى، وأُقابلكَ من جديد، وأُحبكَ من جديد”.
“رغم أنى أتمنى أن أقابلكِ من جديد، لكنى أعرف أن هذا لن يحدث”.
ضرَبَتْه بقبضتها فى كتفه: “لماذا أنت هكذا؟”، عَرَضَتْ له خصلات شعرها الرقيقة خلف أذنها، وقالت: “هل تقبل ألا ترى هذه الخصلات الحلوة مرة أخرى؟”.
ابتسمَ، أمسكَ بيدها، قبَّلَها، وقال: “لكن، لا تقلقى، فلن تشعرى بالحزن لأننا لم نلتق ثانية، لأنك لن تشعرى بأىّ شىء بالأساس، لن تكونى غير حفنة من تراب، أو أىّ فناء آخر نهائى، أنا آسف”.
نظرَتْ “تَخَيَّلْ” فى عينيه، وقالت:
“تذكَّر ما أقوله لك الآن، سأقابلك من جديد، وأُحبك من جديد”.
……………
*مقطع من رواية: “أراك فى الجنة ـ قيد الإصدار