قرر ليل كثيراً أن يقتل جابر ، تمنى لو كان لا يزال محتفظا بمطواته العتيقة الهائمة الآن ، ليرفعها لحظة اقترابه منه ويتركها تذكاراً في عنقه ، ثم يهرب. فعلها ليل كثيراً قبل ذلك.. قاتل محترف لم يعد يذكر حتى عدد قتلاه. أقنعة غائمة ، متوحدة ، بابتسامات غير مبررة.. ابتسامات من غادروا الدنيا دون أن يقرروا ذلك ودون أن يعترضوا عليه بحسم في الوقت ذاته. كانوا ـ فقط ـ يهاجمونه في أحلامه التي كان يستيقظ معها غير مصدق أنه لا يزال على قيد الحياة.
أخبرني ليل بنواياه بينما يؤكد أنه لم يعد ينام. يجيء ضحاياه القدامى في الأحلام حاملين جميعاً ساق جابر الضخمة الملساء ثم يدقون بكعب حذائها القوي ـ المليء بالمسامير التي ثبتها ليل بالذات ـ رَأسَه حتى يتناثر.
لم أكن أعلق ، وكنت أريد أن أخبر ليل أنني أيضاً قاتل ، قاتل شاب متوحد.. وأنه – من خبرتي المحدودة – فإن قتله لجابر لن يحل المشكلة. على العكس ، ستزداد تعقيداً ، لأن جابر سيأتي بعد ذلك بنفسه في مناماته ، سيرفع ساقه بيده القوية هابطاً بها على رأسه ليقتله في الواقع.. وليستيقظ ليل مفاجئاً بفتات جمجمته على ملاءة السرير.
بيت ليل ليس سوى غرفة في قلب المقابر ، ويعتقد الكثيرون أن جابر ليس سوى شبح أزرق يزوره في صباحاته .. خاصة أن أحداً لم ير جابر سوى كحاملٍ للنعوش ، يزك قليلاً بينما “يؤاجر” بقدمين غير متساويتين: واحدة غائصة في الحصى والأخرى معزولة في فردة حذاء عالية الكعب.. لتهتز النعوش مع اهتزازه تحت أركانها. يعرف ليل ذلك ، وربما لهذا السبب فكرَّ ليل كثيراً ، عرف أن قتله لجابر سيكون آمناً: إما أن تخترق المطواة جسده الشبحي ليتأكد أنه ليس سوى حلم يقظة.. وإما أن تنفجر الدماء مخلصةً إياه من ذلك القاتل الشخصي. لم يكن ليل يخاف من الحل الثاني ، ولكنه كان يموت رعباً إن هو قتل شبحاً ، لأن لعنة المنامات بعدها ستتحول إلى انتقام معلن سيتحول معه الإسكافي الخائف إلى مجذوب.
“إذا أردت الإنتقام من ألد أعدائك دعه يحيا”. هكذا تركت لديَّ الحياةُ بعضَ حكمتها. لم أعرف شخصاً قبل ذلك عاقَبَه الموت.. بينما أستطيع أن أحصي لك عشرات بل مئات .. آلاف.. ملايين الأشخاص ممن تكفلت بهم الحياة.
على أية حال لا أستطيع أن أقول ذلك أمامه. على القاتل – خاصة ممن ينتمون للنوعية النادرة التي أنتمى إليها – أن يخفي فلسفته ، لأن فلسفة القاتل هي نفسها آثار جرائمه .. اللحظة التي يستطيع فيها شخصٌ أن يعرف كيف تفكر – وليس كيف تُنَفِّذ جرائمك – هي دائماً اللحظة التي تموت فيها ، وهو أيضاً.. لأن من يكشف عن قاتل حقيقي هو بالضرورة – وكما تعلمنا – قاتلٌ مبيَّت.
ليل رأى دماءً كثيرة قبل ذلك.. لكن يده أبداً لم تلوث. أعرفُ جيداً يدَ القاتل الأصيل: إنها تشبه – على نحوٍ ما – يدَ عازف. أناملها مخنثة ، أطرافها ناحلة ووردية ، لابد أن تكون أطرافها وردية : لها ذلك اللون الذي لا تخطؤه عين خبيرة : يدُ القاتل تحتفظ دوماً بتاريخها ، لأنها لا تملك سواه.. وهذا هو الفارق الجوهري ، وربما الوحيد ، بينها وبين يد الشاعر: فرغم التشابه الرهيب بينهما إلا أن الثانية تبقى آمنة ، نعم آمنة ، لأنها بينما تستحضر لحظات زائلة.. تكون الأولى – بالتزامن – منهمكة بكل إخلاص ، في تأكيد حيواتٍ مبتورة.
،
أعرف الاثنتين بشكلٍ شخصي. يدي اليمنى تستريح في قفازها القطيفي الداكن.. تبدو أصابعها المتطاولةُ أشباحاً مشهرة، أما اليسرى فأكتب بها القصائد. عارية دائماً وملوثة بالأحبار. مبتردة ومرتعشة عكس أختها المتدثرة الواثقة.. خاصة أنني قاتل شتائي ، أحب التحرك في الليالي المظلمة الباردة. أقدم الطعام للقطط والسم لأصدقائي. أعبر بين بشر قليلين بينما يتساقط المطر بلا هوادة ليغرق سترتي الجلدية وكوفيتي التي تخفي تجاعيد الرقبة ، التجاعيد التي تليق بقاتلٍ شاب أثقلته الحيوات. يفسد المطرُ السيجارةَ في ركن فمي ، ويُشوِّشُ رؤيتي بينما يحوِّل أحلام يقظتي لجثة كبيرة بلا دماء.. بلا نظرة رعب ولا شحوب يدفع يدي اليسرى للتململ.
أعبر كأي شخص ، وقد يصطدم بي أجبن رجل ، يؤلم عظمة كتفي دون كلمة اعتذار.. دون أن يتخيل أن هذا الشبح الهَرِم – ذي الثلاثين عاماً – الذي غادره ، يمتهن الطعنات.
يدي اليمنى خشنة ، ليس بفعل القتل بالطبع ، ولكنها اليد التي أعمل بها في الحقل .. أحمل بها الفأس دون أن أجرؤ على دعوة اليُسرى للمشاركة. أجعلها مصيدةً للأشواك لتستريح الوردة بلا نصل في اليد اليسرى ، الناعمة ، المرصعة بالخواتم ، البذخة ، المترفة ، التي أخشى على يتمها من بعدي. أُنفِق كل أجري على تزيينها ، أغذي نرجسيتها ، أطيل أظافرها وأنسقها وأطليها.
أستطيعُ أن أقول – وليرحمني الله ويغفر لي – إنني أقهر يدي اليُمنى لأغذي كبرياء يدي اليسرى. أخاطر بحياة اليُمنى لصالح خلود اليُسرى.
بيدي اليُمنى أصافح أعدائي ، وأمنح التحية لكل من أكرههم ، وأقتل من لا أعرفهم. يدٌ تحمل آثار ملايين الأشخاص في راحتها: خليط روائح ولزوجة عرق وعطور ودماء.. بخلاف اليسرى ، النقية. يدي التي لا تحمل سوى رائحتها ولا تصافح سوى الهواء الملاصق لمدارها.
أحب الاثنتين بالقطع ، ولكن هكذا علمتنا الحياة: لابد دائماً أن يموت أخٌ ليحيا توأمه.
أنا القاتل الذي يخاطر بحياته ليترك للعالم قصائده كما يبغي أن تكون: كتبتها يدٌ بلا تاريخ ، بدماء الضحايا ، على نفقة أخت كادحة.. وعما قليل سينتهي ليل من إصلاح كعب حذائي كإسكافي مخلص ، وسأؤكد له أن جابر ليس سوى شبح بدليل أنني لم أره بينما كانا منهمكين في حديثهما: كان ليل في الحقيقة يخاطب الهواء.
سأتجه إلى غرفةٍ شحيحةِ الضوء ، في أحد البيوت ، أقتلُ ضحية جديدةً في سريرها. أترك سطراً جديداً من الشعر القاني على ملاءة سرير، على حائط، أو بامتداد الأرضية .. سطر في قصيدتي النهائية المكتوبة بامتداد صفحات المدينة المفتوحة أمامي ككتابٍ لم يُكتب. بعدها سأنظف نصل المطواة من آثار الطعنة.. لتنهمك يدي اليسرى في كتابة قصيدة جديدة في ديواني ، وقرب الصباح أنام تاركاً اليدين لشجار الليل الذي يقطعه استيقاظي عادةً ؛ بينما توشك إحداهما أن تفتك بالأُخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــ
* روائي مصري