هاني عبد المريد.. ساحر القبيلة وعالمه

هاني عبد المريد.. ساحر القبيلة وعالمه
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بداية صداقتي بهاني تبدو مبهمة، نقطة لا يمكنني تذكرها جيدا.

ربما لقاء حزين في محطة مترو الأنفاق حيث تجمع عدد منا لحضور جنازة "محمد حسين بكر" نتبادل النظرات، لا اعرفه هو وآخرين سيكونون فيما بعد أصدقائي المقربين، جمعتنا للمرة الأولى قسوة الموت وسخافته .. ثم جمعنا فيما بعد سحر الكتابة والشغف بالحياة.

تبقى مقابلتنا الأولى البعيدة  تلك باهتة وغائمة. رغم أني أذكر ما بعدها كله، طقس جماعي لنا، نحن تلك المجموعة الصغيرة التي تشبه نادياً سرياً للخبل والكتابة، رحلاتنا اللطيفة من وإلى دار النشر سؤالاً عن ميعاد صدور كتبنا نحن وعدد من أصدقائنا، مقهى صالح،  أيام الأربعاء المتباعدة التي نلتقي فيها نتبادل الكتب والأفلام والحكايات وسندوتشات البطاطس والكشري .

المرات الكثيرة التي قرأنا فيها جميعا نصوص بعضنا قبل النشر، ومررنا فكرة أو كتاباً .

ذكريات معرض الكتاب عبر سنوات طويلة ، مكالمات التهنئة والأمنيات الطيبة .. هاني الحاضر دائما لأجل أصدقائه، النبيل الخلوق مثل أساطيره. والذي يجيء لذهني دائما كلما مرت كلمة صداقة ببالي.

ابتسمت لروايته ” كيرياليسون” وهي تعبر الطريق أمامي، كانت في يد رجل يمشي في الشارع، خطر لي أن استوقفه واسأله عن رأيه فيها، واخبره انها جميلة ، وأن كاتبها هو صديقي .

كان ذلك بعد ايام من حصول هاني على جائزة ساويرس  عنها.. بعدها بقليل هاتفته وحكيت له بصخب وبكثير من الحماسة كعادتي، لكن هاني ضحك وقال لي بهدوء راهب زاهد: تلاقيه حد من أصحابنا.

لم أعتز بمجايلة كاتب قدر اعتزازي بهاني عبد المريد، هكذا نتهامس نحن أصدقاؤه – نقول دائما في حضرة هاني أو غيابه “الولد ده كاتب كبير.

لهاني رواية أخرى غير” كيرياليسون” هي “عمود رخامي في منتصف الحلبة” صدرت عام 2002، تحكي عن شاب ينتظر حبيبته في ميدان بجوار عمود رخامي، الرواية تبدأ هناك وتنتهي هناك في حوار من طرف واحد يسمعه الذي يقوله ونتلصص نحن عليه، وعلى عالمه .

رواية بسيطة وممتلئة بالجمال والتفاصيل والألم، تماما كما كانت “كيرياليسون” لبطل وحيد في مكان مغلق يتحدث موجها كلامه لأحد غير موجود .

الغياب والتيه، والمأزق المكاني والنفسي حاضر عند ابطال هاني، يتسرسب بقوة وعفوية لنا، يحتجزنا ويشعرنا برهاب العزلة والوحدة .

بطل جديد، غير مستهلك، يخصه ، يخرج من روحه صادقا وحقيقيا وجديدا.

رغم ضعفه وارتباكه ، يشير لنا على جروحنا ونقاط ضعفنا ، يلقى امامنا بشر من لحم ودم ، وأزمات ، وحكايات سخية ، متماسكة ومؤلمة .

ثمة حياة في هذه الكتابة ، لم أجد مثل تنوعها وثراءها وصخبها في كتابة احد آخر من هذا الجيل ، خاصة في المجموعات القصصية .

لهاني عبد المريد مجموعتان هما “شجرة جافة للصلب” ، “إغماءة داخل تابوت

أنا احب شجرة جافة للصلب، رغم انها أول أعماله المنشورة بسلسلة الكتاب الأول، لكنها بدت تجربة أولى مكتملة بلغة راقية، مجموعة بها تجريب كاتب محترف، بدءا بقصة الخلق الذي ابتدعها في مفتتح المجموعة حيث بوكا الذي لم يبك ابدا، وكان أول شعبه، مرورا بالأزرق اللانهائي الذي كان في الأصل جمال امرأة ..

بينما تصل مجموعته الثانية “إغماءة داخل تابوت” ، ممتلئة بالحكايات والرسائل نصفها كتبه على الورق وجزءها المختفي تركه لنا لنعيد كتابته ونختار ما يناسبنا من نصوصه تلك .

تنسكب روح هاني ، وشجنه المختفي في طيات روحه على الورق ، ينسكب كتابة جميلة ، وشجن شفيف يملأ أرواحنا بخدوش لا يداويها شئ .

لهاني مجموعة  أخرى هي  ” أساطير الأولين”   ، وهي حكايات لبشر آخرين ، متماسكة وشجية وممتعة ككل ما كتبه .

تفيض عذوبة وإنسانية ، لم اعرف بعد ما الذي كتبه في تصديرها كإهداء

لا يعرف هاني اني أحب تصديرات كتبه ، وانه كان صديقي منذ وقت طويل ، لكنه أصبح صديقي أكثر لأجل إهداءات كتبه تلك .

نحن نطمئن عندما يكون لنا اصدقاء يملكون ذلك الصفاء لكتابة إهداء كتاب لإخوة أحتملوا إضاءة نور الحجرة ليلا ، ولأم واب ولرفيقة درب وزوجة .

عندما كتب روايته ” أنا العالم ” بدا واثقا ومكتملا وكبيرا كعادته عندما يكتب، أحببت تلك الرواية ومنحتها في قلبي الرواية الأجمل لذلك العام، كانت مفعمة بالفانتازيا واللعب،. كان هناك خيط شفيف وممتد بينها وبين مشروع هاني الإبداعي كله لكنها كان اكثر ألقا واكتمالا .

صديقي الذي من لحم ودم وكلمات، يتعايش بنبل وصبر مع كونه كاتبا، يحتمل ارق الكتابة وأوجاعها دون أن يلحظ أحد ممن حوله ذلك، يتظاهر بانه يشبه كل من يتعامل معهم في الحياة، ويخفي سره الصغير، حتى يكتمل قمرا وكتابا جديدا

لحظتها يمارس لعبته كساحرالقبيلة  ، ويبوح دون أن يقصد بقصة الخلق التي تبدأ عنده وتنتهي عندنا محبي كتابته وعوالمه الشديدة الطيبة مثله.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم