حاوره: عاطف محمد عبد المجيد
مضت سنوات على صدور كتاب “الحداثة اللامتناهية الشبكية.. آفاق ما بعد الحداثة. أزمنة النص ميديا” للكاتب والأكاديمي والشاعر اليمني هاني الصلوي، الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، وتوالت بعد ذلك طبعاته في الوطن العربي وخارجه، وهو كتاب يدخل فيه الصلوي أرضًا بكْرًا لم تطأها أقدام قبله، يدخلها متناولًا موضوعًا يُعتبر في اللحظة الآنية أهم الموضوعات المثارة على الساحات الإبداعية والثقافية في العالم، بل والفكرية. مؤخرًا ناقش الصلوي امتدادًا لهذا الاهتمام في جامعة عين شمس بالقاهرة رسالة دكتوراه بعنوان “الرقمية والنظرية النقدية.. دراسات في التحولات المفاهيمية” وحصل بموجبها على مرتبة الشرف الأولى. على الرغم من تمرد مثل هذا البحث على الأطر والسياقات الأكاديمية، وتمثل هذه الأطروحة جهدًا نظريًا وتطبيقيًا لما قدمه في الحداثة اللامتناهية الشبكية، ذلك الكتاب الذي دفع بي إلى محاورة هذه التجربة الجريئة منذ صدوره في العام 2014م، ولظروفٍ ما تأخر هذا الحوار المكتوب، فكانت فرصة حصوله على الدرجة العلمية سانحة ومناسبة للعودة للحوار مع الصلوي والاشتباك معه في جدلٍ وتفاوضٍ مع هذا المشروع المهم.
يقدم الصلوي في “الحداثة اللامتناهية الشبكية” ويعزز ذلك في جهده الأكاديمي سالف الذكر ما يفترض أن يكوِّن ويشكِّل نظرية جديدةً في التعامل مع الفن والأدب والفكر والفلسفةِ ومع اليومي والافتراضي والواقعي والمتخيل، على الرغم من رفض الكاتب لمصطلح النظريةِ في الأصلِ ومباحثته سقوط هذا التصور وتلاشيهِ مع العصر الرقمي، وعلى الرغم من استنادهِ إلى سقوطِ الحواجز بين كل التقسيمات المذكورة والواقع والمتصوَّرِ، وهو بهذا الكتابِ وتلك الأطروحةِ، وأبحاثهِ المنشورة في كثير من المنصاتِ، ينتمي إلى منظري وفاعليِّ ما عرفِ في الغربِ والشرقِ الأقصى بنظرياتِ بعد ما بعد الحداثةِ، تلك النظريات التي ظهرت مطالعها في العالم بعد انتهاء مراحل ما بعد الحداثة ِ في نهاية ثمانينيات وبدايةِ تسعينيات القرنِ المنصرم، واشتدت رؤاها بعد العام 2004م من مطلعِ الألفية الثالثةِ، ولعل الصلوي العربي الوحيد الذي جرؤ على تقديم مثل هكذا طرح ليوازي به ما طرح في العالم من رؤى جديدة مستفيدًا من تلك الرؤى في تجاوزٍ لأطرها وسياقاتها كونه الأحدث المستفيد من سابقيهِ.
من هنا ، وبغية إشراك القارئ والباحث والمتتبعِ في الجدلِ والبحثِ، كانَ هذا الحوار الذي أتمنى أن يفي بما رسمتُ لمسارهِ من حركةٍ سعيًا إلى معرفةِ ظروف نشأة هذا الاتجاهِ المتشعبِ عند الصلوي، وأهم مقولاتهِ، وسياقاتهِ، وتجاذباتهِ، والعمومياتِ منه، والفرائد.
* بداية لنفترض أن كثيرًا من القراءِ لم يطلعوا على الحداثة اللامتناهية الشبكية، فكيف ستحدثنا عن فكرة هذا الكتاب ودافع كتابته، وإن كنتُ في المقدمةِ أشرتُ باختصار إليهِ ومكانته في المنجز الحديث، أو لنقل لماذا اللاتناهي الشبكي بحسبِ مصطلحك الملتبس؟ هل كانَ هذا الجهد وما تلاه من بحوثٍ قدمتها إلى الذهنية الجديدةِ رؤى حية ومتقدمة أحببت أن تبرهن من خلالها على سعة اطلاعك وتعدد معارفكَ ومن ثمَّ القدرة على منافسةِ الآخر، أيًا كان، والوقوفِ على ما عجز عنه، ومن ثمَّ ثانيةً طرح ما يتجاوزه؟ سأترك لك حرية الإجابةِ على السؤال بالانطلاقِ من أي نقطة تريد أو بتقديم هذا العمل في أي من جوانبهِ، أو في كلِّيًّتِهِ، لك مطلقُ الحرية.
** سؤالك الملتبس هذا، والمتعدد في آنٍ، والمحاول الإلمامَ، وطريقة ورودهِ بهذه الصيغةِ أو الصيغ، بعض دليلٍ على التباسِ الحياةِ الإنسانية وما بعد الإنسانية الأجدِّ في الظروفِ الراهنةِ متراميةِ الرحابةِ واللانهاياتِ، ظهور الإنترنت مثَّل حدثًا فاصلًا في حياةِ البشريةِ، وأرمي هنا إلى شبكة الإنترنت بعد منتصفِ العقد العاشرِ من القرنِ العشرينِ، أي عَقِبَ أن أصبح الإنترنت شعبيًا، ومتاحًا، وأكثر مشاعية، نقول هذا حتى لا يزعم آخرون أن مثل هذا كانَ مع ظهور الشبكاتِ الإلكترونية الأولى في مراحل ما بعد الحداثةِ، فمجتمعات تلك الشبكاتِ، منها شبكة بلاتو، لم تكن غير مجتمعات ضئيلةٍ متشكلةٍ من ذوي الاهتماماتِ الخاصة، وهي مجتمعات محصورة في هذا الإطار، هي في الغالب مجتمعات عمل، أو مجاميع بحثية جامعية أو حرة السياقات، لكن مع الإنترنت انتقلَ الجميع إلى عوالم أخرى افتراضية وواقعية في آنٍ، من الأفضل أن ندعوها الآفاق اللامتناهية الشبكية، بالطبع، حتى أكونَ صريحًا في هذه التناولةِ، قبل ظهور الإنترنت بهذا الزخم أنجزت ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ــ إن تناولناهما في مساحة واحدة تجاوزًا ــ الكثير من الرؤى تستشرف ما نحن فيه أو بمبالغة تقدم ما نحن فيه اليوم، ولكنها كلها بلا استثناء راوحت في المستوى الذهني والرمزي منه، ولم تقترب من التطبيقي الممارساتي والبرامجي، على الرغمِ من أنَّ تلك المرحلة تسمى بمرحلة التكنولوجية والرقمية أيضًا. بعد مطلع تسعينيات القرن الأخير من القرنِ الماضي انبجستْ نظريات كثيرة تباحث وتناقش الفضاءات المستجدة، وتنوعت تلك الكتل الفلسفية والمعرفية بين قائلين بنهاية ما بعد الحداثةِ أو موتها على فريقين، وقائلين بآوان الاعتراف ببعد ما بعد الحداثةِ والدخولِ في بواتقها مقدمين سياقات رقمية جديدة، ومنظرين ظلوا يرددون في دراساتهم ومقولاتهم ورؤاهم وتصريحاتهم الصحفية والإعلامية وفي الحوارات الأكاديمية والندواتِ أنهم ما بعد حداثيين وهم في الأساس أصحاب استراتيجيات جديدةٍ مناهضة لما بعد الحداثةِ تنتمي إلى ما يمكن وصفه بالفكر الفائق الذي يعد القنطرة الحقيقية للوصلِ بين ما بعد الحداثةِ وما بعدها، من هؤلاء جان بودريارد، ومفكرين نادوا بعودةِ الحداثةِ، ومعاودتها بسبب واضحٍ، في رأيهم، من فشل ما بعد الحداثةِ، واتجاهات أخرى متنوعةِ المشاربِ والأفعال، والمواقفِ. تنوعت نظريات ما بعد بعد الحداثةِ، وتأتي اللامتناهية الشبكية، يفترض أن يكشف الباحث هذا وليس المؤلف، واحدة من هذه الرؤى ولكنها تختلف معها من نواحٍ عدةٍ لعل أهمها التفاوض الدائم مع الجديدِ اللامتناهي الشبكي والاشتباكُ كل لجظة مع حيثياتهِ في محاولةٍ لا لاستيعابها بل لممارستها ومقاربتها بأساليب حديثة متجددة هي الأخرى كل لحظةٍ ما دامنا نقف على أراضٍ وسماوات دائمة الحركة.التقلبُ أسمى سماتها وأكثر فعلية وحضورًا. من جانبٍ آخر لم تهمل اللامتناهيةُ الشبكيةُ المجتمعات التي ما زالت تعيش في ظلال ما بعد بعد الحداثةِ غير قادرةٍ على الخروجِ النهائي من أقفاصها، كما أنَّ اللامتناهية الشبكية بحثت في تعدد فواعل الحيوات الأحدث وعدم اقتصارها كالسابقِ على الإنسانِ بوصفه الفاعلَ المطلقَ في الوجودِ بل مدَّت آلياتها إلى التعاملِ مع شركاءِ اللامتناهياتِ الجديدةِ ممن كانوا يدعون سابقًأ الجمادات من الآلات والأدواتِ، والمفاهيم، والأفكار. هناك ممارسون مستخدمون جدد في العوالم الشبكية اللامتناهية منها الإنسان، وجهاز الكمبيوتر الذي كان أداة من قبلُ، والوسائلُ الأخرى ذاتُ الهيئاتِ الحاسوبيةِ الكمبيوتريةِ المرتبطةِ بشبكة الويبِ، وهناك كذلك البرامج الذكيةُ، سواء منها القادرة على التطور وتبديل هيئاتها كل لحظة، ومنها تلك التي اختطفت انحصار القدرة على إنشاء البرامج الرقمية الشبكية على الكادر البشري وطفقت تنشئ برامج جديدة متطورة وقادرة أيضًا على التفكير والحدس، مما جعل أصوات العلماء ترتفع بقوة وعنف أكثر من قبلُ، منددة بما تفعله البرامج والكيانات الأخرى ذات الماضي المادي وما تجترحه من سياقات هائلة الإمكانيات والإمكانات والقدرات، فهذه المخلوقات في نظرهم ستنتصر على الإنسان في النهاية، وتبيد هذا الكائن الآدمي المستخلف في هذه الأرضِ، والمؤتمن عليها، وهي شكوك في غير محلها من وجهات نظر اللاتناهي الشبكي، لكل ذلك ولأسبابٍ غير قابلة للحصر كان ميلاد اللامتناهية الشبكية وتخلقها بهذا الشكل.
إشكالية الورقية
* في كتابكم “الحداثة اللامتناهية الشبكية” جاء أحد المباحثِ تحت عنوانِ “الرقمية بين إشكاليتيْ الورقية وهدم الأطر الفلسفية والنقدية”..هل لك أن تبسط لنا هذه الفكرة في بعض الأسطر قبل أن نعودَ إلى بعض الإشكاليات والمفاهيم الأسبق؟
** المبحث الذي تفضلت في الإشارة إليه هو دراسة قدمت لإحدى المؤتمرات العلمية الباحثة في المسارات الرقمية وعواصفها، وقد جعلته بالفعل مبحثًا في اللامتناهية الشبكية؛ لاعتقادي بأهمية مناقشةِ العوالم الحاضرة وتقلباتها من هذا المدخل، كيف ذلك؟ أين تكمن أهمية هذا الباب وضرورة دراسته؟ الأسئلة في هذا المضمار عاجزة عن التمظهر بمظهر واحد ٍ أو ببضع هيئات ولذا سيكون من الأفضل عرض ما فعلت الرقمية بالذهني والفلسفي والنقدي وإشكالية الورقية من خلال سؤال: أين ذهبت اتساعات ورحابات وتعدد الفضاءات والمقولات والمفاهيم النقدية والفكرية الفلسفية والإنسانية الما بعد حداثية بعد استفحال اللامتناهيات الشبكيات، وسيطرتها ؟ أين ذهب ما كان عند ما بعد الحداثة غامضًا وعميقًا وصعب الفهم؟ أين صار المتفلت الما بعد الحداثي والمتمرد الما بعد بنيوي؟ أين؟ يمكن عرض التأثير أيضًا من خلال الإضراب عن الإجابة.إشكاليتا الواقع الجديد في الحياة العلمية والإبداعية فقط قد تنحصر، مع دفق من الإخلال بالطبع، أولًا في اتسام جل الأعمال الإبداعية التي تدعي الرقمية الشبكية في عدم قدرتها على تجاوز البعد الورقي للإبداع، عربيًا وعالميًا، ومن هنا يأتي التخبط بين الإلكتروني والورقي عند معظم المبدعين الرقمين في المجال الإبداعي النصي والنقدي، وليس بين اللامتناهي الشبكي المرتبط بشكل أساسي بالإنترنت وعوالمه، يكتبون النصوص على برامج إلكترونية غير معنين باتصالها باللامجتمعات الشبكية من غيرها، ومن غير إدراك لما تتمتع به من عدم ثبات واستقرارية، ربما كانت الحياة اليومية للإنسان العادي على الإنترنت أكثر فعالية وممارساتية وبلاشك رؤى الباحثين في تأثيرات الرقمية من أصحاب الفروع الإنسانية الأخرى كعلم الاجتماع والفلسفة وقبل ذلك الإعلام وكتاب ومنتجي برامج الأطفال.كتاب ما يعرف بالأدب الرقمي خير مثال على إشكالية الورقية لدى المبدعين الواصفين أعمالهم بالرقمية؛ لذا فهم بعد أن ينشروا أعمالهم على الإنترنت ــ في اليوتيوب مثلا ــ وأقصد إلى عرضها كما هي ثابتة في الفيدو المسجل على الشبكة لا يمكن التصرف المطلق في هذا الأعمال من قبل المستعمل المستخدم، والأخطر من ذلك أنهم يقومون بعد مدة بنشر هذه الأعمال في كتب ورقية ورقية بغلاف خلفي وأمامي ورزم من الورق بين الدفتين، ” وكأنك يا بو زيد ما غزيت ” كما يقول المثل المتوارث.الإشكالية الأخطر عدم استناد المبدعين إلى ما أصبح مسلمات من انتهاء الأطر النقدية والفلسفية السابقة لما بعد بعد الحداثة ولللاتناهي الشبكي.لنا أن نعود قليلا إلى الوراء إلى الحداثة أو ما بعدها لا فرق ونختبر بعض المفاهيم والمقولات بلا اطناب فغرضنا هو التمثيل ليس إلا.هناك مفهوم نقدي يقول بأن النص حمَّال أوجه وهو مفهوم عميق بالنسبة لعصره الما بعد حداثي، عصر التجلي الحقيقي لهذه المقولة المفهوم..مفهوم خطير ويدعو إلى التفكير ..كم يبدو هذا المفهوم سطحيًا وساذجًا اليوم مع اللاتناهي الشبكي..انبهر نقاد ما بعد الحداثة، وحتى من قبلهم في الأشكال الأولى للمفهوم ــ نجد المعنى في بعض العلوم القديمة في أشكال بسيطة ــ فالنص يحمل معنى وله معنى آخر، وثالث، وربما رابع، وربما خامس، سادس، عاشر حتى.ماذا سنقول عن نص على الإنترنت يحيلك الرابط منه إلى مئات الروابطِ، بل الآلاف، وما هو أكثر من ذلك، وربما ينتهي عمرك في تتبع رابط في نصٍ ما، بلا مبالغة، ألا يبدو المفهوم إذن في قمة السذاجة ِ والبدائية، والسطحية الآن..بلا شك هو كذلك.وقس على ذلك كل المصطلحات سالفة العمق، منها تداخل الأنواع، البينية، تداخل الفنون، تعدد الأصوات، تشظي الزمن، واقعية الفن، التأثير والتأثر، الصدق الفني، الوحدة العضوية، الجمال، التفكيك، البنيوية، ما بعد البنيوية، سياقية فيرث، أنثربولوجية كلود ليفي اشتراوس…إلخ..أظننا توصلنا إلى بعض الإيضاح الضروري لبعض الجوانبِ اليسيرةِ من إشكالات الرقميةِ ولا تناهيها.
* في كتابك تتحدث عن ما قبل الإنترنت، عن الحداثة، ما قبل بعدها وما بعد بعدها، عن اللاتناهي الشبكي وانهيار المثقف، وعن الفن اللامتناهي الشبكي، فهل لك أن تحدثنا عن الفرق التاريخي بين هذه المراحل؟
** ما قبل الإنترنت يشير إلى كل الأزمنة السابقة على ظهور الإنترنت بشكله الشعبي منتصف التسعينيات الماضية.التفريق بين الحداثة وما بعدها وبعد ما بعدها مختلف فيه كثير، هناك غير تصور لبدايةِ كل فترة ونهايتها.أهم هذه التصورات ــ لعله المعتمد في الدراسات الباحثة في ماهيات هذه المراحل ــ هو أن فترة الحداثة أعقبت عصر التنوير الأوروبي واستمرت إلى خمسينياتِ القرن العشرين وربما إلى بداية الستينياتِ، حيث تبدأ مرحلة ما بعد الحداثة التي تنتهي مع سقوط جدار برلين، لتبدأ بعدها عصور وأزمنة ومراجل بعد ما بعد الحداثة وهي ما نحن اليوم في تشعباتهِ، واللاتناهي الشبكي هو ما نعيشه اليوم ليس من أزمنة بعد ما بعد الحداثة فحسب، بل وفعالياتها، ولا مجتمعاتها، وممارساتها، وحيواتها، وآفاقها.الفن اللامتناهي الشبكي فن الحداثة اللامتناهية الشبكية ولا إطاراتها وتغيراتها، يمكن معرقة الكثير عن هذا المفهوم من خلال قراءة الفصل المعنون بالعنوان نفسه في كتاب الحداثة اللامتناهية الشبكية.انهيار المثقف هو ما صار إليه الفعل الثقافي ما قبل الألفية مع اللاتناهي الشبكي، فلم يعد للمثقف بالمعنى السابق أي وجود، سواء المثقف في تصورات ما بعد الحداثة والفكر الماركسي ومتوازياته، أو قبل ذلك.لم يعد هناك في العصور الجديدة المتسارعة غير المستخدم الفاعل والمستعمل بمصطلحات عدة تقوم على الفعل والتغير والعبورية، وعدم الثبات.
* في مقدمتك التي وضعتها، على غير العادة، في نهاية الكتاب، تقول إن ما قمت به طيلة المحاور السابقة لم يكن سوى تفكيرنا جميعًا بصوت عال ومخاتل لاستنباط ” لا نظرية ” لامتناهية لا تؤطر ما نحن عليه في أقفاص مركزية أو رسمية، بل تشتبك مع هوياتنا وتتدافع معنا ـ في كل الاتجاهات، تُرى هل انتهى مشروعك في هذا الصدد بهذا الكتاب، أم ما زلتَ لديك تكملة له؟
** انظر كيف غدا هذا السؤال قديمًا الآن، كان سؤالك هذا أوان صدور الحداثة اللامتناهية الشبكية ــ بحكم أنَّ الحوار تأجل منذ تلك اللحظة ــ وهو الآن مع أطروحة تمثَّلت اللامتناهية الشبكية وطورت في مفاهيمها واستجلت الكثير من الغامض فيها، ومع كثير من الأبحاث التي أشرت إليها في المقدمة.
* هل يمكنك أن تحدثنا عن القارئ الجديد والكاتب الجديد والنص الجديد؟ وما الفارق بينهم وبين سابقيهم؟
** ثمة اندماج تام مع اللاتناهي الشبكي بين هذه المفاهيم جميعها، والأخطرمن ذلك اندماج الفاعل الإنساني بالوسائلي بالبرامجي، وإذا شئنا بعض التفصيلِ يمكن الحديث عن مستعمل أو مستخدم بديلًا عن القارئ والكاتب.النص أيضًا مستعمل والمستعمل هذا أو ذلك قد يكون إنسانًا قارئًا أو كاتبًا أو برنامجًا أو جهاز تلفون ــ كمبيوتر.بعض الكتاب أو المفكرين والنقاد اقترحوا مصطلحات دامجة مثل مصطلح نبيل علي الكارئ، ومصطلح سعيد يقطين القاتب وله مصطلح القتابة الذي يدمج بين القراءة والكتابة ــ العملية ــ وهناك مصطلح الكاتوب إلى غيرها من المصطلحات عربيًا وغربيًا.
مخاوف الحال الشبكي
* كتابك يؤكد كون النص الجديد رؤيا وواقعًا وافتراضًا..هل لك أن تفسر هذا؟
** تجد ذلك مبسوطًا في ما سمي في كتاب الحداثة اللامتناهية الشبكية بالمتن مكونًا من قسمين، وهو في الأصل، كما هو، تلك الورقة المنشورة في بعض الصحف الثقافية، والمنشورة لاحقًا في منتدى المشرحة في منتديات أروقة والتي دارت نقاشات جملة من الكتاب هناك، حينها، حولها وكان عقب ذلك الملتقى الأول للنص الجديد المنعقد في القاهرة في فبراير 2010م، والتي اختصرت لجنة الملتقى إلى ما عرف لاحقًا ببيان النص الجديد.
* من وجهة نظرك ما هي المخاوف التي وصل إليها الحال الشبكي؟
** كثيرون منذ فجر التكنولوجيا، وليس التقنية، كون التقنية تعود إلى بداية استعمال الإنسان العاقل للأداة لمختلف الأغراض رغم كون تلك الأغراض عضلية في الغالب.منذ فجر التكنولوجيا والآلية قبلها أي مع انبثاق العصر الصناعي.كثيرون منذها تحدثوا عن مخاطر الآلية فالتكنولوجية.ظهرت جماعات عرفوا بالعداء لكل وسيلة جديدة تمتلك قدرات أعلى تقنيا واختصارا للوقت والجهد من سابقاتها.على المستوى المجتمعي ظهرت في بريطانيا على سبيل المثال جماعة سموا بأعداء الآلة حاولوا تدمير كل ما هو آلي.فلاسفة عديدون تحدثوا بوضوح عن عدائهم للآلة ومنهم الفيلسوف المعروف شبنحلر فيما تحدثت مجموعة غير يسيرة من الفلاسفة عما تسببه الآلية من الاغتراب بحيث تضيع مع ذلك إنسانية الإنسان وتتلاشى وتضمحل. واجهت التكنولوجيا بشكل عام عداءات وانتفاضات جماعية لكنها بقيت فيما توارى أعداؤها واعتراهم الفناء.تكنولوجيا الحاسوب بعد ذلك واجهت انتفاضات أشد كادت أن تدفع علماء الحاسوب إلى التراجع عن ابتكاراتهم وإيثار مسالمة الماضي لولا أن البدايات الحاسوبية ارتبطت في البدء بالأبحاث العسكرية وفي أمريكا تحديدًا.مع بدايات ما عرف بالأدب الإلكتروني أصبح الرفض أعتى.ماذا يعني أن الآلة تكتب أدبًا وتنتج فنًّا؟! إن الأدب أخص خصائص الإنسانية.من وجهة نظر المعارضين لذلك فإنتاج الأدب من خلال آلة اعتداء صارخ على الإنسانية بتاريخها الطويل وحميمياتها.مع الإنترنت في صيغته الشعبية بعد منتصف تسعينيات القرن الماضي اشتد الرفض والعداء.ولكن النصوص الأحدث كانت قد فرضت نفسها بقوة ومارست لا تناهياتها على الفضاءات العنكبوتية المفتوحة اللاتناهي على كل الآفاق والافتراضات.هنا أصبح سؤال المخاطر مختلفًا عما سبق.بالطبع عند أغلبية المهتمين من أصحاب الوعي الجديد ومن الفلاسفة وعلماء الفيزياء وعلماء الاجتماع والعلماء والمختصين النفسيين.لا أتحدث بلاشك عن ذوي الفكر الجامد من التقليديين وذوي النزعة الكلاسيكية العتيقة.أصبح سؤال المخاطر أكثر اختلافًا وإنتاجية مع مدركيه الجدد.كيف ذلك؟ صار سؤال المخاطر أو بالأصح أسئلة المخاطر صارت مداخل فاعلة لقراءة الجديد والتفاوض معه ومحاولة تهذيبة المستحيلة.الحقيقة أن الشعور بالخطر / الأخطار فعالية / فعاليات فاعلة للدخول في اللاتناهي الشبكي وممارسته بإبداعية ويومية واكتشافية ومن ثم الحياة فيه والعمل في سياقاته الحادة السريعة هائلة التحول والتبدل والتمدد والتشعب واللاخطية.لا وجود حقيقة لمخاطر.لو سلمنا أن هناك مخاطر حقًّا فالحل لتجاوزها والتقليل من آثارها هو التوغل في بواتقها ورحابتها .الدواء بالداء حسب المقولة الشعرية العربية القديمة داوني بالتي كانت هي الداء.ثمة مقولة مشهورة إضافة إلى ذلك تقول بأن القليل من التقنية يبعد عن الإنسان والكثير من التقنية سيعيدنا إليه.لقد جعلتُ تلك العبارة كما رأيت مستهلا لكتاب الحداثة اللامتناهية الشبكية .نتيجة لذلك تقول الحداثة اللامتناهية الشبكية مثل بعض موازياتها من نظريات بعد ما بعد الحداثة بالمتعلم المنشغل وهو المتعلم الذي يقوم بأنشطة عدة في نفس الوقت: يحدِّث أصدقاءه على برنامج شات، يقرأ في رواية يحل، واجبه المدرسي، يسمع اغنية، يشاهد فيلم….وسمه روبرت صموئيل بنموذج بنيامين.لا خوف من اللاتناهي الشبكي.إنه الفضاءات اللامتناهية التي نمارس بها وفيها ومنها وخلالها إنسانيتنا في شكلها الخصب والمثمر.كما تمارس فيه الآلات الحاسوبية المتصلة بالإنترنت لا تناهيها الشبكي وكذلك تفعل البرنامج والنصوص الجديدة والفعاليات اللامجتمعية الأجد.بصورة أكثر لا تناهيًا وشبكية نجزم أنها اللامتناهيات الشبكية المفتوحة الأحدث التي نمارس عليها جميعًا ما بعد إنسانيتنا وقد أصبحنا متساويين وشركاء .
* ماذا تعني بالسرد اللامتناهي الشبكي؟
** سوف أستعين في الإجابة على تساؤلك هذا بفقرة من كتاب الحداثة اللامتناهية الشبكية، وبالتحديد من خاتمتهِ الأولى التي تبعت الخاتمة الثانية “حيث يأخذ السرد اللامتناهي الشبكي ـ بوصفه سرد بعد ما بعد الحداثة ـ ببعديه الرقمي والكتابي المتحول صيغًا غير ثابتة، إذ تظهر ـ مرة أخرى ـ في فضائه المعتمد موجات من السرود الوثائقية (دان براون مثلاً ـ عربياً عزازييل وأخواتها) كما عاد الشكل في فاعليات جديدة ويستحسن التأكيد هنا على فقدان الفارق بين المادي الحسي والمعنوي أو بالأصح على تغير فكرة المادي والمحسوس تمامًا. إلى جانب ظهور نمط من الروايات التي تعتمد الشكل الرقمي ـ سردًا خالصًا ـ مثل روايات الشات والحيل الرقمية (الروايات التي استخدمت هذه التقنية على الورق )..
في المرحلة الفائقة ـ الجسر ـ عادت جملة من تقانات السرد الحداثي وإن بشكل مختلف وبالأخص تلك التي تختص بالانسجام والتوليف كرد فعل على فوضى ما بعد الحداثة واستمرت تلك التقانات الحداثية في سرد بعد ما بعد الحداثة لكنها اختلفت عنها في حقبة التسعينيات إذ أخذت تتنقل من كون عودتها بمثابة رد فعل على ما بعد الحداثة إلى كونها تقانات غير ثابتة وغير مستقرة تستمد حركياتها من طبيعة اللامجتمع البعد ما بعد الحداثي وأزمنة النص ميديا على وجه الخصوص.
استطاع الواقع أن يعود مرة أخرى وبأشكال أحدث، وأصبح الكشف اللامتناهي الشبكي أحد تقانات حضورية الواقع، وهو ـ الكشف ـ سمات مقابلة للوضوح الحداثي والغموض المـا بعد حداثي (رغم زعم ما بعد الحداثيين أن السطحية سمة ما بعد حداثية)، كما مال السرد اللامتناهي إلى استيراد الشخصيات التاريخية إلى الأعمال الأجـد بحمولتها وفاعلياتها.اقتضى ذلك ظهور الشخصيات الدينامية (الشخصية الجدلية اللامجتمعية) واقترب السرد من فعاليات الموقفية والوقوف على علامات رؤيوية وقد تدرج حضور كل مامر من ملامح وتقنيات لها إيمانياتها بالتواصل المبدأ بما هو خاصية فائقة حتى الاندماج ـ الآفاق ـ بصفاته اللامتناهية.
يعمل السرد اللامتناهي الشبكي على موضعة نفسه بشكل دائم باعتباره حوارًا وتفاوضاً (حوارات) وهنا ـ تكرارًا ـ تسقط الفوارق بين التهكم والجدية والمسئولية واللامبالاة (تتجلى اللامبالاة المسؤلة في بعض أشكاله).تتحرك أسئلة الكتابة وجدواها ـ مجازًا ـ بحدية،ـ وربما كانت فكرة موت فكرة الموت الما بعد حداثية في هذا السياق ملهمة.كما تنتعش هياكل دينامية من السرود البدئية ـ شبيهة ببدء الإنسان الحكي والكلام ـ في فضاء من سيطرة رمزية وذهنية عالية (الشخصية الذهنية / الرمزية ـ/ الافتراضية ـ الفاعلة مقابل الحالمة ـ المستقبلية مقابل الماضوية) وكل ذلك بالتوزازي مع انبثاق أنماط جديدة من الشعرية السردية ذات علائق رقمية وبرامجيـة إشكالية ويتحرك كل ذلك في مساحات من الجدل العنيف بين سمات وعلائق كل من: ما بعد الافتراضي المحض (اللامتناهي) والمعتمد (المجتمع المعتمد على الافتراضي[1] أو الافتراضي الفائق).إنها أهم سمات السرد اللامتناهي الشبكي وبالاشتباك مع الرواية التكنولوجية بمفهوم دوقلاس كلنر في بعدها الفائق وما بعد الحداثي.
الأدب الرقمي
* ربما حاول كثيرون الوصول إلى تعريف للأدب الرقمي..هاني الصلوي كيف يرى الأدب الرقمي من وجهة نظره؟
** من الأفضل أن نقول الفعل النصي اللامتناهي الشبكي لأن هذا أجدى بالفعل من باب الانغماس في المخاطر والتوغلات اللامتناهية الشبكية.لكن استعمال مصطلح أدب رقمي لا بأس به ما دمنا كما تقول الشبكية ما زلنا رغم استفحال اللا تناهي مقسومين إلى فسطاطين بالتعبير العريق أو لنقل إلى قسمين مجتمع الظلال أو المجتمع المعتمد وهو المجتمع المعتمد على القسم الآخر اي اللامجتمع اللامتناهي الشبكي كامل التبدل شديد السرعة . لكن هل سيعني قبولنا بمصطلح أدب رقمي التواطؤ مع التقسيمات المتوارثة للأدب فنقول شعر رقمي رواية رقمية مقال رقمي مسرحية رقمية أدب أطفال رقمي….إلخ.ربما كان علينا القبول بهذه التسميات لردحة قصيرة من الوقت الأدب الرقمي أو الأدب اللامتناهي الشبكي هو ذلك النوع من الأدب الذي لا تعد اللغة فيه المكون الأساسي والرئيس بل تصبح عنصرًا من عناصر متعددة كالموسيقى والصورة والحركة.الأدب الذي لا هيئة غير حاسوبية له.وليس الأمر قراءته على الحاسوب كأي نص ورقي لا سيما بعد انتشار قراءة نسخ البي دي اف من الكتب على أجهزة الكمبيوتر المكتبية أو المحمولة أو على التلفونات الذكية الحديثة فتلك نصوص ورقية إلكترونية لا علاقة تقنية لها بالقراءة اللامتناهية الشبكية.هذا الأدب يتخذ من النص التشعبي لغة خاصة متجددة له مرتبطًا في كل مراحله بالشبكة العنكبوتية الإنترنت.لا وجود له بدونها البتة.يأخذ هيئة البرنامج وهو برنامج نشط في الأساس.ويتساوى في هذا الفعل النص ما كان يسمى سابقا بالمؤلف والقارئ والنص والجهاز والبرنامج.تضم هيئة أو مصطلح ممارس أو مستعمل او مستخدم كل تلك الكيانات السابقة فيستطيع كل منهم الإضافة والتعديل والحذف وإدراج الجديد أو نزع قديم.ولا يقف هذا النص الفعل عند هيئة ما كما نرى في بعض ما ينعت بأنه أدب رقمي فيضع مؤلفوه بنية ثابتة له داخل برنامج فيديو ويعددون الخيارات التي يمكن أن يدخل منها القارئ الجديد لكن يظل النص مغلقا على عدد من الخيارات التي أرادها المؤلف الأول،الأديب الرقمي.ومن هنا تخرج تلك الأعمال من الصيغ الحقيقة للأدب الرقمي.فالنص الرقمي اللامتناهي الشبكي ينمو باستمرار كلما جد جديد على الشبكة العنكبوتية ( لا يكون لا متناهيًا بدونها) اتصل هذا الجديد بموضوعه أو لم يتصل سيان.
* شعريًّا، ماذا استفادت قصيدة النثر من الشبكية الرقمية؟
** قصيدة النثر بما هي نص ورقي وأصبحت تكتب وتنشر رقميًّا مثل غيرها من فنون ما بعد الحداثة والتي استمرت في مجتمع الظلال المعتمد أفادت كثيرًا من الرقمي فعلى المستوى اليومي العادي لم تعد الكتابة حكرًا على أحد ومن ثم لا أوصياء لا نقاد ولا دور نشر أو مؤسسات ثقافية حكومية تعطي شرعية أو تسحب الشرعية من أي نص أو ناص هذا من جانب، ومن جانب آخر ظهرت لغة الشبكة العنكبوتية بوضوح في نصوص قصائد النثر الجديدة كما شاعت فيها الأيقونات التي ولدت داخل القصيدة الكونكريتية.من جانب ثالث فقد النص النثري الشعري مجانيته وتخلقت أغراض جديدة ينتظمها غرض أكبر شاسع به الكثير من المنطق ولكنه منطق الدفق والشعر لا منطق الاستنباط والاستقراء والقضايا والمحمولات.قليل من العقل ميز هذه النصوص الجديدة ولكن بسياقات جدلية وديناميكية. غدا كما سبق نص افتراض إلى جانب رؤيويته وواقعيته…وليس هذا فحسب.العودة إلى المتن ستكون أجدى لمعرفة خصائص الأجد بشكل عام.
* أين تضع كتابك اللامتناهية الشبكية بين كتبك الأخرى؟
** وإن كنت أفضِّل أن يقوم غيري بذلك، وأعني الناقد المحايد أو البحث المتأمل الفاحص بعيدًا عن التماس الذي يحدثه تداخل الذات الكاتبة أو المنتجة عمومًا مع ما أنتجته، على الرغم من أنَّ الحداثة الشبكية الكتاب أورد في المستهل منه فقرة واضحة تشير إلى أنَّ هذا الكتاب منتج بواسط الجيل الذي يعيش هذه اللحظة كلِّهِ، كما أورد في مقدمته التي تموضعت في نهاية الكتابِ تنبيها للقارئ أنه بإمكانه الآن أن يكتب حداثته اللامتناهية الشبكية بنفسهِ.وإن رأيتُ ذلك أحبُّ أنْ أؤكد أن ميلادَ كتابي الحداثة اللامتناهية الشبكية، آفاق بعد ما بعد الحداثة، أزمنة النص- ميديا، تميَّز عن ولادة أي من كتبي الأخرى من نواحٍ عدة وقد رأيتَ ذلك في سردي لقصةِ هذه المغامرة في خاتمتي الكتاب، وكيف تخلَّقت والمراحل التي مرت بها من اصطدامي بمصطلحات الأدب الرقمي بتفريعاتهِ، وبعد ما بعد الحداثة، وتجاوز الحداثية، وكتابتي لمنفستو النص الأجد الذي صار متن الكتاب، وما مرت به الفكرة من نقاشات داخل مشرحة أروقة المنتديات وفي كتابات المهتمين في الصحفِ مناؤينَ ومناصرين ، لا فرق، ثم ملتقياتِ النص الجديد ــ ما بعد قصيدة النثر ــ من الأول إلى الثالث، حتى تموضعت اللامتناهية الشبكية في كتاب هذا من زاوية.
من شرفة ٍ موازية مثّل هذا الكتاب تطوُّر وعيي الكتابي والفلسفي، بعيدًا عن الشعري، وإن كانت الشعرية واحدة من ميزاتِ الكتابة في الحداثة الشبكية، مع أنَّ الشعرية التي اعتورت هذا الكتاب شعرية مختلفة عن مفهوماتها المدروسة المتصلة بما ترجم من مصطلح رومان ياكوبسون بالشعرية أو الأدبية في ترجمتين مختلفتين للمصطلح، كما يختلف البحث في اللامتنامية الشبكية عن دراساتي الأخرى لا سيما الأكاديمية منها مثل كتاب التماسك النصي في البلاغة العربية: ستجد فصلًا في الشبكية عن اللامجتمعات يفتتح المبحث بإقرارٍ يقول بأنَّ هذا المبحث في هجاء التماسك الذي قضيت في دراسته سنتين وتسعة أشهر.كان الكتاب تجربة مغايرة لي ولمسيرتي ناهيك عن كونهِ كذلك بالنسبةِ للقارئ، اختلفَ مع أطروحاتِ اللاتناهي الشبكي أو اتفقَ معها، أو تقبل بعضها ورفض بعضها الآخر.حاولت الحداثة اللامتناهية الشبكية التفاوض مع المجال العام للاتناهي الشبكي في الأدب والفن بأقانيمهِ المتعددة، وفي الفلسفةِ، والإعلام ،والتربية، وغير ذلك من المجالات والحقول المختلفة للوعي والممارسة الذهنية الرمزية والتطبيقية.كتبت في هذا الكتاب ما عنَّ لتنيقبي في الحيواتِ الأجد بعواصفها ومستجداتها ولا تناهياتها، من المعاني والتشظياتِ والأفعالِ، ومن هنا دعت مقدمة الكتاب القارئ في النهاية ، كما ورد آنفًا، إلى إنشاء وبناء وهدم وبناء حداثته الشبيكة اللامتناهية الخاصة.مثَّل هذا الكتاب القناعات التي ستعمل عليها رؤايا اللاحقة وأبحاثي، مع إيمانٍ مني بالحاجة الملحة إلى التطوير والتحوير في القادمِ؛ كونَ الحيوات الجديدة والممارسات دائمة العبوريَّة والتقلبِ والمحو والانفجار والتشظي، في طرق متشعبة ولا خطية من الانقلابات العنيفةِ على اليقين الذهني والتطبيقي والاستقرار والهدنِ المميتةِ المؤديةِ إلى التحلل والفناء.
التفاوض اللامتناهي
* من هنا كانت أطروحتك للدكتوراه التي ناقشتها في جامعة عين شمس مطلع سبتمبر الماضي والتي جاءت تحت عنوان: الرقمية والنظرية النقدية، دراسة في التحولات المفاهيمية..أعني هل تعد هذه الأطروحة الذي أثنت عليها لجنة المناقشة واعتبرتها خوضًا في أراضٍ جديدة بكر امتلكتَ من خلالها ــ بتعبيرهم ــ رؤية خاصة بك وجرأة في شقِّ المصطلحاتِ لم يمتلكها غيرك.إذ بتعبير خيري دومة الأكاديمي المصري المرموقِ والمترجم الذي رأى في الإطروحة إلمامًا هائلًا بكلِّ السابقِ، بعبارة دومة أنك امتلكت جرأة غير مسبوقة لكنها خطرة أشد الخطورة.هل كانت هذا الرسالة استمرارًا بحثيًا وعلميًا لجانب من الجوانب المتعددة التي طرقتها في الحداثة اللامتناهية الشبكيةِ، وأعني الحقل الفكري النقدي والأدبي؟ هل كانتْ كذلك؟ وهل يعني هذا أنك ستفعل نفس الفعل مع كل ِّ حقل من حقول الحداثة اللامتناهية الشبكية من الفنِ إلى لا مجتمعات اللاتناهي الشبكي؟
** من ناحية أنَّ الأطروحةَ استمرار للبحث والتفاوض اللامتناهي الشبكي الذي تشكَّلَ لدي في ” الحداثة اللامتناهية ِ الشبكية ِ” هو بلا شكٍ استمرار لتلكَ المغامرةِ والفعلِ، ولكن دعني أوضِّح بعضَ الأمورِ المتعلقةِ بهذه الشؤون اللامتناهية الشبكيةِ، أول هذه الأمور يتمحورُ في كونِ الحقولِ التي حدثَ التفاوضُ مع حيثياتها هي حقولٌ وفضاءات وآفاق ملتئمة في كلٍّ لا متناهٍ شبكيًا، ومتشظِّيةٌ متطايرة داخل اللاتناهياتِ الشبكية في آنٍ.بمعنى أنه حتى لو فاوضتْ إحدى هذه الحقولِ في دراسةٍ أو بحثٍ أو أيةِ فعالية لا متناهية سيكونُ لزامًا عليكَ أن تجعلَ أعينك المنتشرة، في سبل وطرق ومسالكِ التفاوض الأجدِّ، على الحقولِ الأخرى.فمثلًا من ينتجُ النص اللامتناهي الشبكي على الآفاق الأجد، اللامجتمعات الأجد بالضرورة هي من يفعل ذلك، وهي مجتمعات ولا مجتمعات ما بعد الصورة، وما بعد الإعلامِ، وما بعد الاستهلاكِ، مجتمعات ولا مجتمعات الإشاعةِ العارية، مجتمعات إلى السطح حيث العمق وهكذا.الأمر المناظر أنَّ في ” الرقمية والنظرية النقدية” الأطروحة التي تعدُّ الآن كتابًا في أكثر من جزئين تحت عنوان :” شبق المتاهات” من التقنية اللاتناهي الشبكي، في تحويروتعديلات كثيرة وفقًا لما استجدَّ، وفي إضافات تربو على أكثر من حجم الأطروحة الأصليةِ.يقترح شبق المتاهات حقولًا أخرى، ومباحثات جزئيات دقيقة لم يحدث التفاوض معها داخل حقول اللامتناهية الشبكية المدروسة، مثلما يبحث ” شبق المتاهات” في التحول الثقافي العام، وماهيات الأفعال الجديدة بصورة أوضح وأغزر من قبل ، رغم أنَّ هذا العمل لن يستوعب كل التحول اللامتناهي الشبكي، وأنى له أن ينجح في ذلك في عوالم أجد تتحول فيه المفاهيم وتتبدل كل لحظة، وآن. وهكذا سيستمر الفعل / الأفعال إلى ما لانهاية .
*هناك من يقول: إنَّ بيان النص الجديد، المختصر عن دراستكم التي وضعتها في الحداثة اللامتناهية تحت تصنيف المتن ــ ما بعد قصيدة النثرــ ، يصلح ليكونَ رؤية لقراءة النصوصِ الجديدة أكثر من كونه بيانًا للنص الجديد.كيف تنظرُ إلى مثل هذا الرأي؟ وهل يمكن اعتباره رأيًا هادمًا أكثر منه رأيًا نقديًا بحيثيات ومعطياتٍ أدتْ إليه؟ ما الذي يمكن أن يكون عليه رأيك في هذه المقولة؟
بغضِّ النظرِ عن تحديدية هذا الرأي، وسحبه مقولات بيان النص الجديد إلى النقد، وإجلائهِا عن تماوجاتِ النص وخصائصهِ الإبحاريةِ والمُجَازِفةِ، إلا أنَّه لا يمكن إنكار وجاهة مثل هذا الزعم المتأمِّلِ شئنا أم أبينا.لمثل هذا الطرح الكثير من الوجاهة والمعقولية.حيالَ ذلك سيكون لزامًا علينا أن نتساءل بجدية ومسؤولية: ما الذي أدَّى إلى هذا الرأي؟ لا يمكن إلا التسليم بأن التعدد المهول للفضاءات اللامتناهية الشبكيةِ، وتمددها، وتنوع شعرياتها، وعدم استطاعة الباحث والممارسِ القبض على يسيرها، ناهيك عن لا تناهياتها، وتقلباتها، واتساعاتها المفرطة، قد أدَّى إلى مثل هذا الحكم النقدي، فالباحث يحتاج أحيانًا إلى كتلة يعكف عليها لمدة معقولة يتدارسها ويفحص بنودها، ويجرب معاييره معيارًا إثر آخر يختبر الأصلح منها والأنسب لمناقشةِ تلك الكتلة، حتى يصل بعد مناورات حثيثة، وتروٍ فاعلٍ إلى حكمٍ قويمٍ غير متسرِّعٍ.ولكن حين تكون المادة والنص أمامه متشظينِ وهلاميين وصعبينِ على التثبت فإنه ــ الناقد/ الباحث/ المتصدي للنص ــ لا يكون أمامه إلا واحدة من طريقتينِ: إما الانغماس في الفعلِ الشبكي وممارساته في تناسٍ عامدٍ إلى إغفالِ كلِّ الإرثِ النصي والنقدي والفكري العام السابق، وإما التروي وإعمال المعايير الفاحصة حتى لو استغرقَ الفعل منه زمنًا طويلا، وهذا الخيار غير معيب ٍ من بعضِ النواحي كون مراكز الأبحاث في العالم ومعاهد الدراسات والأكاديميات والمختبرات العلمية لم تعتمد النص التشعبي وسيلة للبحث حتى اللحظة، فما زالت الكتابة سيدة الموقف في هذا الشأن حتى إن كانت الفضاءات اللامتناهية الشبكية بتماوجاتها وأعاصيرها مدارات البحث والفعل والمقامرة .
*بحسب أحد النقاد المتابعين لتجربتكم فإنك تستخدمُ لغة ما بعد الحداثة في دراسة بعد ما بعد الحداثة، كونك أيضًا تتخذ الكتابة وسيلة للدرسِ وبالأخص في أطروحتكم موضوع النقاش..ألا ترى في هذا بعض التناقض والنكوص إلى الما قبل السالف؟ أليس في هذا اعتراف من قبلكم بأنَّنا ما زلنا في أزمنة ما بعد الحداثة ولم نفلت من مراحلها بعد؟
** على الرغم من أنَّ الإجابة على السؤال تحوي بعض الرد على مثلِ هذا الحكم أيضًا ولكن لا بأس من بعض التكرار اللازم.فكما سبق ما زالت الكتابة هي وسيلة البحث في الدول المتقدمة والمتخلفة على السواء.لم أكن لأقدر على كتابةِ أطروحتي من خلال النص التشعبي، فذلك مخالف للأعراف الأكاديمية التي ما زالتْ لا تعتمد غير الكتابة وسيلة وحيدة للبحث كما تمت الإشارة وتكررتْ.حاولت ــ كما لاجظتَ ــ في الحداثة اللامتناهية الشبكية أنَّ أجعلَ الكتابة لا خطية إلا حدٍ ما، وهو ما لم أتمكن منه في الأطروحة كونها مقدمة للتقييم الأكاديمي، ولكنني أحاول الآن في إعدادي لها في شبق المتاهات الكتاب أن أمارس في ترتيبها وإعدادها بعض اللاخطية والتشعبية ، وإن كان ذلك في صورتها الذهنية، وأتمنى، حقيقةً أتمنى، أن أنجح في ذلك .
……………………..
[1] – بدأ المجتمع الافتراضي مع نهايات مابعد الحداثة وداخل متواليات المرحلة الفائقة واستمر مع المجتمع المعتمد اللامتناهي .