***
وقت ضائع
خاوٍ دفتري منذ شهور،
بفضل النور الذي تصبِّينه من حولي
لم يعد لقلمي
نفعٌ؛
وها هو ملقى هنا في وهن
غيرَ مأسوف عليه.
لا شيء خير من حياة بلا قصص
لا تلزمها كتابة فيكون لها معنى
وليقل الآخرون بعد رحيلي
إنهم خسروا رجلا سعيدا،
وإن كان أحد لا يعرف بالضبط
كم كنت سعيدا.
***
لا أحد يعرف وليم شكسبير. ربما تكون شخصيات هاملت والملك لير وماكبث غامضة غير محسومة الأمر، ولكن وليم شكسبير أكثر غموضا منها جميعا، وليس من المنتظر أن يقطع أحد بمن كان بالضبط ذلك الشاعرُ والمسرحي الخالد.
ثمة نظريات كثيرة حول شكسبير، بعضها يشطح حتى إلى أنه لم يكن أكثر من اسم مستعار لامرأة لم يكن بوسعها في ذلك الزمن أن تواجه مجتمعها كاتبةً مسرحية أو شاعرة. ولئن كان الغموض يحيط بهذه المعلومة الأولية البسيطة، فأنَّى لنا الوصول إلى القطع برأي فيما إذ كان قد عاش حياته سعيدا أم تعيسا؟
القصيدة الراهنة، تقول لنا إن حياةً سعيدةً بلا كتابة خيرٌ من حياة لا ميزة فيها إلا الكتابة والإبداع. تقول لنا إن حياة تافهة، خاليةً من قصص تستحق التدوين، هي أثمنُ من حياة تعيسة وإن احتوت على القصص المثيرة.
حياة بسيطة كهذه الحياة سوف تجعل الناس يقولون عن صاحبها إنه كان سعيدا. وإنهم خسروا برحيله رجلا سعيدا. ولكنهم لن يعرفوا مقدار السعادة التي عاشها، أكان كبيرا أم زهيدا. لماذا؟ تلمح القصيدة إلى أن السبيل إلى معرفة مقدار السعادة التي عاشها شخص هو كتاباته التي يتركها وراءه، هو الشهادة الخطية التي يعترف فيها أو يمكننا أن نستخلص منها اعترافا بسعادته.
دعنا إذن من كل الكتب التي تأتي عناوينها على غرار “فلان الفلاني: حياته وشعره” ولنعمد إلى الكتب الأخرى التي تحمل عناوين من قبيل “الأعمال الكاملة لـ فلان الفلاني”.
هل ثمة من سبيل لنعرف من ديوانه وحده، إن كان المتنبي نعِم بحياته؟ هل القصائد التي تركها الشاعر الكبير قادرةٌ وحدها أن تكشف لنا عن هذه الحقيقة؟ وأكرر: سنستبعد كل ما قيل خارج الشعر عن علاقته بحكام عصره، عن ثرائه أو فقره، عن شقائه أو سعادته. سنقصر أنفسنا على الشعر، على القصص التي استحقت الكتابة وبقيت من الشاعر شهادة منه لنا.
ولكن شهادة على ماذا؟ على زمنه؟ على مجتمعه؟ على تصوره عن الوجود؟ على ذاته البسيطة؟ ستختلف الحالات من شاعر إلى شاعر، ومن شاعر إلى سارد، ومن سارد إلى سارد، ومن سارد إلى مسرحي إلى آخر أصناف المبدعين وأشخاصهم.
يقول “ها جين”، مخاطبا الحياة فيما نظن، أو الدنيا: خاو دفتري منذ شهور، بفضل النور الذي تصبينه من حولي، لم يعد لقلمي نفعٌ”.
في ترجمة حرفية، كان يمكن أن تبدأ القصيدة بقول الشاعر “دفتري باق على خوائه منذ شهور”، فيكون الدفتر أول ما يقابله القارئ في القصيدة، وفي ترجمتنا هذه، يكون أول ما يقابله الخواء. يأتي الدفتر والخواء في الصدارة إذن، برغم أن الدفتر وخواءه ـ في ظاهر القصيدة ـ لا يعنيان الشاعر طالما بقيت الحياة تصب النور على روحه صبا.
فهل ظاهر القصيدة هذا هو باطنها الحق؟ هل الشاعر حقا مستعد أن يعيش حياة لا تمثل الكتابةُ جزءا منها بشرط أن يكون سعيدا. هل يعلّمنا أن الحياة أثمن من أي كتابة؟ أم هو يعزِّي نفسه ويبحث عن أي قيمة لعجزه عن الكتابة؟ وفي النهاية، هل يقصد الشاعر أن رحيله دون أن يخلِّف من ورائه قصة أو قصيدة، يجعل سعادته الغابرة، بل حياته الغابرة كلها، بعضا من العدم؟
“وقت ضائع” هو عنوان القصيدة. و”إن كان أحد لا يعرف بالضبط/كم كنت سعيدا” هي نهايتها.
أما العنوان فلعله يشير إلى أن الوقت الضائع هو الحياة ما لم تسجِّلها حكاية، أو حتى تخلِّدها كلمات. فأي عاقل يمكن أن يوافق على هذا؟ برغم ملايين العناوين التي يتداولها باعة الكتب ومشتروها، برغم كل حاضري المؤتمرات الأدبية والواقفين في الصفوف انتظارا للمشاركة، برغم حفنة الأسماء في بانثيون الكتّاب الأبدي، يبقى الكتّاب أنفسهم أقلية. أكثر منهم المزارعون في الحقول والعمال في المصانع، أكثر منهم الآباء والأبناء في المدن والقرى والواحات والغابات، يسلم كل منهم العصا لمن يعقبه في السباق العبثي، ويرحل هو بعدما يقضي حياته كيفما يقضيها دون أن يخلف أثرا يذكر. فأي شقاء ذلك الذي يعانيه من تعتمد سعادته على شهادة يتركها بنفسه، وعلى إقرار آخرين بأن ما عاشه هو السعادة؟
وأما النهاية فتقول إنه ما من “أحد” يعرف بالضبط مدى سعادة شخص، ربما حتى الشخص نفسه ليس إلا أحد أولئك الآحاد، أعني الشخص الذي ينبغي أن يجلس ليكتب ليترك من بعده هرما صغيرا من الكلمات يُعرَف من خلاله كيف عاش. ولكن، على ذكر الهرم، أعني هرم الحجارة الكبيرالخالد الباقي عجيبة ومعجزة: هناك من ينظر إليه فلا يرى غير مقبرة، وهناك من ينظر إليه فلا يعرف ما الذي يراه بالضبط. ولا يكاد أحد يفكر في شخص اسمه خوفو، بل في بناء اسمه خوفو، ولا يكاد أحد يطيل التفكير في شخص اسمه وليم، بل في شخص اسمه شكسبير ، وفي بعض الأحيان لا أكثر، أما الجميع، الجميع تقريبا، فيعرفون عن هاملت أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.