نَحفظ لَكُنَّ ذكريات حانِيَة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. إلياس زيدان

إطلالات تربويّة من شبابيك الوطن – 8

نَحفظ لَكُنَّ ذكريات حانِيَة

 

 

تبسّمت الدّنيا في وجوه الأطفال العشرة من العراق والجزائر ولبنان ومصر وسوريّة وفلسطين، خلال فترة ارتيادهم الكَتاتيب ورياض الأطفال والمدارس، فمنَّتْ عليهم بمعلّمات ومديرات في طفولتهم المبكّرة. لماذا أقول “تبسّمت الدّنيا”؟! سنترك الإجابة عن هذا السّؤال لهؤلاء الطّلّاب أنفسهم، من خلال ما سردوه عن تجاربهم مع “الشيخة فاطمة”، و”المعلمات اللطيفات”، و”المعلمات الصالحات”، و”الراهبات الوقورات”، و”الست افلين، و”المس باين” و”أبله فاطمة”، و”مدام بيل”، و”الآنسة رافي”، و”مس سميرة أو سميحة”، و”الست رمزية الحاج سري”، و”الست أمينة أبو رحمة”. سيكرمُ علينا بعضُهم بمشاركتنا تجاربهم مع معلّميهم أيضًا. لكن، يبدو أنّ الدّنيا قد تجهّمت في وجه أخيهم الحادي عشر، الطّالب المَقْدِسيّ-القاهِريّ إدوارد سعيد، كما سيروي لنا بمرارة في “خارج المكان”[1]. لنبدأ مشوارنا في زيارة الطّالب أحمد.   

نِعْمَ الشّيخة والمعلّمات والرّاهبات

في “قصة حياتي” ينوّرنا الطّالب أحمد لطفي السّيّد (1872-1963) ابن قرية برقين الواقعة بمديريّة الدقهليّة في مصر، بأنّ والده قد أدخله كتّاب القرية وهو في سنّ الرّابعة، “وكانت صاحبته سيدة تدعى “الشيخة فاطمة””.[2] قضى الطّفل أحمد في هذا الكتّاب “ست سنوات تعلمت فيها القراءة والكتابة، وحفظت القرآن كله، وكنت أجلس مع زملائي على الحصير، ونصنع الحبر بأيدينا”.[3] وكيف يُقيّم تجربته هناك؟ يذكر أحمد “الشيخة فاطمة” بالخير قائلًا: “وإلى هذه السيدة يرجع فضل تنشئتي الأولى في تلك السّنين”.[4] بعد الكتّاب أدخله أبوه عام 1882 إلى القسم الدّاخليّ في مدرسة المنصورة الابتدائيّة، وهي المدرسة الحكوميّة الوحيدة في الدقهليّة في حينه. وكانت “القَلْبة”، وأيّ قَلْبَة. يشدّد أحمد على أنّ “الضرب والحبس في “الزنزانة” كانا من أنواع العقاب في هذه المدرسة، وقد رأيت في الأيام الأولى تلميذًا وضعت رجلاه في الحديد؛ لأنه ارتكب ذنبًا […]”.[5]

أمّا الطّالب نقولا زيادة (1907-2006) فيكتب في سيرته الذّاتيّة “أيّامي” أنّ أُسرته تنقّلت، خلال طفولته، في سكنها داخل دمشق وبين دمشق والنّاصرة وبلدات أخرى، وبالتالي فقد التحق برياض أطفال ومدارس مختلفة. في سنّ الخامسة انتقلت أسرته للسّكن في منطقة القَدَم في دمشق، ولم تكن هناك مدرسة قريبة من مكان سكناهم، فالتحق بمدرسة صديقه فريد في حيٍّ آخر من المدينة. يُقَيِّم نقولا تجربته في مدرسته هذه كما يلي: “والمدرسة كانت مكاناً سعدنا به كثيراً”.[6] ويؤكّد: “أظن انه لم يعلمنا معلم قط؛ تعليم صفنا لمدة السنتين وبعض السنة كان على يد معلمات لطيفات”.[7] وقد عادت الأسرة للسكن في منطقة الميدان، فالتحق نقولا بمدرسة الفرير، وهناك اختلفت الأمور. كان معلّم اللّغة العربيّة في مدرسة الفرير راهبًا، وكان كما يصف نقولا المشهد: “يوقفنا صفاً على شكل شبه دائرة حوله في بعض الأوقات، ويقرئنا. فاذا أجاد الواحد منا نقله المعلم الى اليمين (يعني رفع مركزه) وإذا اخطأ نقله يساراً. أما إذا كان خطأه كثيراً فأنه يعاقب بالطبشة عدداً من الضربات على يده، بحيث يتناسب عددها مع عدد أخطائه”.[8] وما الطّبشة؟ “الطبشة هي خشبة طويلة كفاية للضرب، لها عند القبضة يد مدورة، ثم تمتد كأنها لوح صغير من الخشب، بحيث انها عندما تستعمل لضرب الولد على يده تغطي اليد كلها؛ فلم تكن كالخيزرانة أو العصا”.[9]

اختلفت تجارب الطّالب الدّمشقيّ قسطنطين زريق (1909-2000) عن تجارب زميلَيه أحمد ونقولا في الشّقّ الثّاني من المعادلة، أي معاملة الذّكور له. يروي قسطنطين في “ذكريات” أنّه تلقّى دراسته الأولى “في مدرسة “نيقولاس الأرثوذكسية” […] على أيدي معلمات صالحات لا أزال أحفظ لهن أطيب الذكريات رحمهن الله وأجزل ثوابهن”.[10] توقّفت المدرسة الأرثوذكسيّة في بعض سني الحرب العالميّة الأولى، فأدخله أبوه مدرسة الرّوم الكاثوليك. يقول: “كانت معلمتاي فيها راهبتين وقورتين تركتا في نفسي آثاراً باقية”.[11] تابع الطّالب قسطنطين دراسته في المدرسة الثّانويّة الأرثوذكسيّة – “الآسية” – وكانت تجربته إيجابيّة جدًّا مع الإكليريكيّين ومع المعلّمين العلمانيّين أيضًا، وهو يذكر جيّدًا التّوجّه الوطنيّ لمدرسته وعنايتها الخاصّة باللّغة العربيّة. يؤكّد: “ومن أبرز من تلقيت اللغة العربية على أيديهم الشماس (عندئذ) أبيفانوس زائد وكان أديباً شاعراً ومعلماً قديراً […].”[12]

أمّا الطّالب اليافيّ-العكّيّ هشام شرابي (1927-2005) فقد بدأت حياته المدرسيّة في عكّا، وهو يحدّثنا في “صُوَر المَاضي”: “بدأت حياتي الدراسية في الرابعة من عمري حين التحقت بمدرسة الست افلين. اذكر ذلك اليوم بوضوح. استيقظت باكراً وتناولت الفطور […] وجلست أنتظر والدتي لتأخذني الى الست افلين. كنت اعرف الست افلين جيدا فكانت كثيرا ما تزورنا في البيت، وكنت اعرف المدرسة ايضاً اذ كنت اراقب الأطفال يلعبون امام بيت الست افلين في فترات الفرص العديدة التي كانت تسمح بها. فلم يكن التحاقي بالمدرسة من اختبارات مرحلة الطفولة الاليمة، بل امراً مفرحاً توقعته بشغف”.[13] وعن يومه الأوّل هناك يروي: “كانت الست افلين تنتظرنا امام الباب. غمرني شعور قويّ عند دخولي الغرفة ورؤيتي عشرات من الوجوه الصغيرة تلتفت إليّ وتنظر مبتسمة”.[14] ويضيف: “اخذتني الست افلين بيدي واجلستني الى جانبها، وبقيت امي واقفة عند الباب […]”.[15] في خريف ذلك العام انتقلت الأسرة للسكن في يافا، وهناك “سجلتني امي في روضة الأطفال الانكليزية، في حي الملكان […] وكانت تعرف بمدرسة المس باين التي كانت تديرها بمساعدة معلمتين بريطانيتين”.[16] يُجري الطّالب هشام مقارنة بين المدرستين، فبينما كانت “مدرسة الست افلين امتداداً للمحيط العائلي”، في مدرسة المس باين “وجدت نفسي لأول مرة […] في محيط لا عهد لي به”.[17] رغم ذلك كانت تجربته إيجابيّة جدًّا في مدرسة المس باين، فيُصوّر لنا المشهد كما يلي: “حولي أطفال كلهم في مثل عمري، نتحدث الى بعضنا بعضاً دون استيحاء او خجل […] فنكتشف عالماً جديداً سرعان ما يبتلعنا بالعابه وملذاته وندخله ركضاً وقفزاً احراراً فرحين”.[18] وعن معاملة المعلّمة لهم، يكتب: “تحدثنا معلمتنا الانكليزية بلهجة رزينة كأننا راشدون، لا تقبلنا ولا “تدلّعنا”، بل تجلس الينا وتفسر لنا ما علينا ان نفعله، ثم بعد الدرس تتركنا لنلعب كيفما نشاء”[19]. ويؤكّد: “ورغم عدم تمكني من اللغة الإنكليزية […] فحين تحدثت الينا المعلمة بالانكليزية بصوتها الهادئ ولفظها الواضح شعرت اني افهم ما تقول. وهكذا تعلمت اللغة الانكليزية بشكل تلقائي، دون العذاب الذي رافق دراستي العربية الفصحى في ما بعد”.[20]  

أشاد الطّلّاب الأربعة أحمد ونقولا وقسطنطين وهشام بالحنان والمعاملة الحسنة الّتي تلقّوها من والديهم أيضًا. سوف نُخَصّص إطلالة كاملة للآباء والأمّهات، ولن ننسى الجدّات، وللأثر الإيجابيّ لهؤلاء في حياة ومستقبل أبنائهم الطّلّاب.    

أريد لأولادي حياةً أفضلَ من حياتي

يطلعنا كِتَابا أحمد أمين (1886-1954) “حياتي” و”إلى ولدي”، والسّيرة الذّاتيّة لابنه جلال أمين (1935–2018) “رحيق العمر”، على “قصّة” جيلين من هذه العائلة في كتاتيبهم ورياض أطفالهم ومدارسهم. وَصَفْنا في الإطلالة السّابقة معاناة الطّفل أحمد أمين من جرّاء قساوة والده في البيت و”سيّدنا” في الكتّاب. يبدو أنّه أراد لنفسه أن يكون أبًا مغايرًا لما كان عليه والده، وأراد لأولاده أن يتعلّموا في مؤسّسات مختلفة عن تلك الّتي تعلّم هو فيها. ففي خصوص التّعليم في المدارس يؤكّد أحمد أمين: “كان أبي يعلمني في كتاب كالذي ذكرت، فأصبحت أعلم أولادي في رياض الأطفال وما إليها”.[21] ويُثني ابنه جلال على جهود والده: “أشهد له بأنه صنع كل ما يمكن أن يطلب منه وأكثر في سبيل تعليمنا أحسن تعليم”.[22] يُجري أحمد أمين في “إلى ولدي” مقارنة بين واقعه المعاش وتجربته في الكتّاب وبين واقع ابنه وتجربته في روضة الأطفال، فيكتب إلى ابنه الذي كان يُتِمّ تعليمه في إنجلترا عام 1950 ما يلي: “أي بني: إني لأعلم أنك قد خلقت لزمن غير زمني، وربيت تربية غير تربيتي، ونشأت في بيئة غير بيئتي – لقد كنت في زمني عبد التقاليد والأوضاع، وأنت في زمن يكسر التقاليد والأوضاع، وكنت في زمن شعاره الطاعة، الطاعة لأبي ولأولياء أمري، وأنت في زمن شعاره التمرد، التمرد على سلطة الآباء، وعلى المعلمين وعلى أولي الأمر – وتعلمت أول أمري في كُتَّاب حقير، نجلس فيه على الحصير، ويعلمنا مدرس جبار، يضرب على الهفوة وعدم الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، ويمرن يده بالعصا فينا كما تمرنون أيديكم على الألعاب الرياضية. وأنت تعلمت في روضة الأطفال حيث تشرف عليك آنسة رقيقة مهذبة، وتقدم لك تعليم القراءة والكتابة في إطار من الصور والرسوم والأغاني وما إلى ذلك”.[23]

عن فترة ما قبل المدرسة يذكر جلال أمين أنّه يحتفظ في ذهنه بذكريات قليلة عن روضة الأطفال التي دخلها وهو في سنّ الخامسة في مصر الجديدة، حيث قضى هناك ثلاث سنوات، ويؤكّد: “لا أتذكر إلّا ثلاثة أو أربعة أشياء، منها أني كتبت خلالها قصة قصيرة وذهبت فرحًا وفخورًا بنفسي لإعطائها لمدرستي الرقيقة (أبله فاطمة) فوجدتها قد نقلت إلى مدرسة أخرى ولم أرها قط بعد ذلك”.[24] ويبدو أنّ طاقم الرّوضة كان من النّساء والرّجال، وأنّ هناك توزيعًا للأدوار بين الجنسين. ننكشف على ذلك في وصفه ليومهم في الرّوضة: “كنا نبدأ اليوم بإلقاء نشيد بينما تعزف إحدى المدرسات على البيانو […]”.[25] وفي انتقاله إلى وصف أدوار الرّجال يقول: “ثم نقف صفوفًا ونحن نمد يدينا إلى الأمام ليمر علينا الناظر أو أحد المدرسين للتأكد من أننا نحمل منديلًا نظيفًا ومن أن أظافرنا نظيفة ومقصوصة”.[26] 

كأمٍّ أو تكاد تكون

وصل الأمر ببعض الأطفال إلى حبّ المعلّمة حبًّا جمًّا كما سيروي لنا الطّفلان مالك وعمرو. يقصّ مالك بن نبي (1905-1973) في “مذكّرات شاهد للقرن” أنّ والده أرسله إلى مدرستين في بلدته تَبسة الجزائريّة، هما المدرسة الفرنسيّة ومدرسة تعلّم القرآن. كان يَقصد مدرسة القرآن في الصّباح الباكر، ثمّ ينطلق إلى المدرسة الفرنسيّة. كان هذا البرنامج في غاية الصّعوبة، ويبدو أن المَدْرَسَتَيْن شكّلتا عالمين مختلفين كلّ الاختلاف، وبشكل خاصّ على مستوى المعلّمين/ات. ويؤكّد: “فبدأت أتغيب عن مدرسة القرآن القديمة وسجادة الخلفاء”.[27] ويضيف: “مما كان يعرضني لعقاب متواصل من أبي ومن معلم القرآن، وهذا زادني كرهاً بمدرسة القرآن، واستمرار هذا الوضع جعل حالي تسوء في المدرستين”.[28] في نهاية الأمر اقتنع والده بسلبيّة استمرار هذا الوضع. يقول: “فانقطعت عن مدرسة القرآن القديمة لأنني لم أتعلم الكثير على الرغم من السنوات الأربع التي صرفتها فيها”.[29] شَعَر الطّالب مالك أنّه كان محظوظًا بانتقاله إلى المدرسة الفرنسيّة، وهذا الحظّ “قد تمثل في شخص معلمتي (مدام بيل) التي أحفظ لها حتّى اليوم ذكرى حانية”.[30] ويضيف: “الذي بقي في ذاكرتي ذلك الحب الصاعق الذي جذبني بقوة نحو (مدام بيل). ففي صباح أحد الأيام استيقظت وأنا أشعر حباً جنونياً نحو معلمتي الجديدة كما لو كانت أمي بالذات”.[31] انتقل الطّفل مالك للسكن فترة من الزّمن لدى أقربائه في قسنطينة، وبعدها عاد إلى تبسة، ويشدّد في هذا السّياق: “لم تتغير تبسة خلال غيابي عنها، إنما شيء واحد خيب أملي، هو أنني لم أجد معلمتي القديمة السيدة (بيل)، ولكن لحسن الحظ فإن امتحاناً مختصراً أتاح لي الانتقال للصف الثاني، حيث وجدت الآنسة (رافي Rafi) وهي مدرسة يحبها تلاميذها […]”.[32]

نستمرّ في مشوارنا نحو بور سعيد لزيارة الطّالب عمرو شريف (1950-)، ففي “أصداء وظلال” يعود بنا إلى “حضانة الأندلس” متذكّرًا: “أعتقد أن أقدم ما تجود به الذاكرة يتعلق بمدرسة الحضانة، قد يكون ذلك قبل أن أبلغ الرابعة من عمري”.[33] ويضيف: “أذكر عندما كانت مُدَرِّسة الفصل (مس سميرة أو سميحة) تستقبلنا عند باب المدرسة وتُسرع بنا الخُطى في ممراتها إلى الفصل”.[34] وفي وصفه لمُدَرِّسَته ولمشاعره تجاهها يشدّد: “كانت المُدَرِّسَة ثاني حب في حياتي بعد أمي، كانت شابة صغيرة، تُسَرِّح شعرها كذيل حصان، وكانت تعلمنا الأناشيد […]”.[35] وعن ردّ فعله حين تغيّبت، يقول: “وأذكر يوم أن غابت حبيبتي، تركتني وحدي، يومها بكيتُ بشدة”.[36]  

استمرار العلاقة واستدامة الأثر

بعض العلاقات الطّيّبة بين الطّالب ومعلّمته تدوم طويلًا. أكّد ذلك الطّالب البغداديّ نَصير الچادرچي (1933-) في “مذكّرات” قائلًا: “في عام 1936 […] تم تسجيلي في (روضة أطفال نجيب باشا) والتي كانت عبارة عن مدرسة ابتدائية وروضة أطفال أيضاً، وقد كان اسم مديرة الدار (الست زهرة)، كما أتذكر أن مُعلمة مادة الرياضة فهي الست (رمزية الحاج سري) […] وقد استمرت صلتي بهذه السيدة الكريمة لفترة طويلة من عُمري، كونها كانت حريصة على التواصل مع تلامذتها حتى وإن كبروا، إضافة إلى تمتعها بشخصية اجتماعية قوية”.[37]  

أمّا بخصوص استدامة أثر المعاملة الحسنة، فيروي الطّالب البيروتيّ فؤاد بطرس (1917-2016) في “المذكرات”: “أدخلني والداي، وأنا في الخامسة من عمري، مدرسة الراهبات اللعازريات التي كانت تقع في ساحة البرج بالقرب من بيتنا. لا زلت أذكر اليوم الأول الذي أوصلاني فيه إلى المدرسة وتركاني فيها لأنني بكيت، وبكيت كثيراً، فأتت الراهبات وكفكفن دمعي وطيّبن خاطري وطمأنّني إلى أنني سأعود بعد الظهر إلى أهلي”.[38] ويضيف: “وسرعان ما شعرت بجو دافئ وتعودت التعاطي مع أطفال من سني”.[39] لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، فيؤكّد: “وأعتقد أنه كان لهذه الحادثة أثر بالغ في حياتي وأن انخراطي في الحياة الاجتماعية بدأ في تلك السنة”.[40]  

وقد يتبادر سؤال إلى الأذهان: هل خَلَت المدارس التي أدّت فيها النّساء أدوارًا إداريّة وتعليميّة من العقاب؟ سيطلعنا الطّالبان إدوارد وناجي على تجاربهما مع العقاب. 

شتّانَ ما بين عِقابِها وعِقابِه

يكتب الطّالب إدوارد سعيد (1935-2003) في “خارج المكان” أنّ عائلته انتقلت في شهر تشرين الثاني 1942 من القدس إلى القاهرة، ودخل “مدرسة الجزيرة الإعداديّة”، وكان معظم طاقمها وطلّابها من الإنجليز. يقول :”وَعُدْتُ أنا إلى “إعداديّة الجزيرة” صبيًا كثيرَ المشاكل يَبْتَكرون له علاجًا مزعِجًا تلوَ الآخر […].[41] ويصف جوّ المدرسة قائلًا: “كان الجوّ جوَّ طاعة عمياء يؤطِّرها إذعانٌ بغيض عند المعلّمين والتلامذة على حد سواء”.[42] وبخصوص العقاب يؤكّد الطّالب إدوارد: “عندما كنتُ في الثامنة، طردتني إحدى المعلمات من الصفّ (لم يكن هناك معلِّمون ذكور في المدرسة) بسبب مخالفةٍ ما، وهي لم تكن تلجأ إلى العقاب الجسديّ عدا بعض القرعات الخفيفة بواسطة المسطرة على سلاميات اليد”.[43] أسلمته المعلّمة للمِسَزّ بولين رئيسة المدرسة “التي جرّتني جرًا، وهي متجهمةُ الوجه […]”.[44] وكيف ستقوم مِسَزّ بولين بمعاقبة إدوارد؟ في الحقيقة لن تعاقبه… أو بالأحرى لن تعاقبه بنفسها. قامت مِسَزّ بولين بإدخال الطّالب إدوارد إلى غرفة المِستر بولين، زوجها، وتركتهما. يؤكّد إدوارد: “انتابني فزع مباغت من هذا الإنكليزيّ الضّخم […] وهو يشير إليّ بأن أتقدم نحوه. لم نتبادل كلمة”.[45] ويصف المشهد بألم: “جذبني من قذالي ثم دفعني نحو الأسفل بحيث بتّ منحنيًا نصف انحناءة. ثم رفع الخيزرانة باليد الأخرى وهوى بها على مؤخرتي ثلاث مرات”.[46] ويصف شعوره في تلك اللحظات قائلًا: “كان الألم الذي شعرتُ به أقلّ من الغضب الذي سرى في أوصالي”.[47] ويؤكّد على استدامة الأثر السّلبيّ لهذه القساوة: “وكيف أمكنني أن أكون بلا حَيل إلى هذا الحد و”ضعيفًا” كل هذا الضعف – وقد بدأتْ هذه الكلمةُ تكتسب دلالة هامة في حياتي – بحيث تركتُه يعتدي عليّ ويفلت من العقاب؟”.[48] ويخلص إلى القول: “ظل بولين ساكنًا ذاكرتي، لا ينمو ولا يتحول، مثلَ الغُول في حكايات الأطفال”.[49]

في وصفه لدخوله مدرسته الأولى في شفاعمرو، شمال فلسطين، يكتب ناجي فرح (1933-2020) في “ذكريات مُهاجرة”: “قادتني أمي إلى مدرسة الكنيسة، وهي قريبة جدًا من البيت. المدرسة كانت تستقبل البنات في الصفوف الإبتدائية كلها، أمّا الصبيان فكانوا يظلّون فيها سنة أو سنتين في صفّيْ البستان والتمهيدي، ويغادرونها بعد ذلك إلى مدرسة البنين”.[50] وبخصوص إدارة المدرسة وطاقمها ونظامها، يكتب: “كانت مديرة المدرسة الست أمينة أبو رحمة تعاونها المعلمات الأخريات، […] كان النظام ذا طبيعة أنثوية فيها رقةٌ أحيانًا، وفيها تجاوزٌ لا يؤذي الأبدان بل يجرح المشاعر، فإنّ أقسى عقابٍ بدنيّ لم يتعدَ خبطة لطيفة بيد المعلمة على ظاهر اليد، وإنْ كان الجرم مشهودًا فالمسطرة تلمس باطن الكف لمسًا رفيقا، والمعلمات قلبهن رقيق إلا في ما ندر”.[51] في أسبوعه الأوّل في المدرسة استرعت انتباه ناجي بئر في ساحة المدرسة مليئة بالمياه. يقول الطّفل: “وألحّت عليّ فكرة أردت أنْ أختبرها”.[52] فَكَّرَ ناجي: “ماذا لو بصقت في البئرِ، وكيف ستتصرف البصقة في لجّة المياه الملتمعة تحت شعاع الشّمس؟ وفَعَلتُها”.[53] رأته بعض الطّالبات اللاتي يكبرنه سنًّا، فأمسكن به “وسحبنني إلى حضرة المديرة وأنا أجرجر رجلا بعد أخرى”.[54] وماذا كان العقاب وكيف تعامل طالب صفّ البستان معه؟ يروي ناجي: “وقفتُ مطأطئ الرأس أمام هيبة المديرة، فنالني من التوبيخ والتقريع ما لم أعبأ به أبدًا، ما دام الأمر لم يتعدَّ ذلك إلى عقابٍ بدنيّ موجع، […] فأمرتني أن أقف في القرنة، وأنْ أواجه الزاوية بين الجدارين المتجاورين، وألا أميل برأسي يمنة ولا يسرة”.[55] بعد سنتين ترفَّع ناجي إلى الصّفّ الأوّل في “مدرسة المكتب”. يصف أجواء هذه المدرسة كما يلي: “جلست في جوٍ غريبٍ تختلف فيه الأوضاع والعلاقات ومناهج السلوك. المعلم يقف أمام اللوح الاسود، في يده مؤشرٌ طويلٌ يستعمله للدلالة على ما يريد أنْ ينتبه إليه طلابه، مما هو مبيّنٌ على اللوح، ويصلح كذلك لعقاب المسيئين من الطلاب، إذا تعذر الوصول إلى العصا المخصصة لذلك على الطاولة”.[56] وبخصوص العصا أفهمهم المعلّم أنّ “العصا لمن عصى! […] مَنْ ساء سلوكه فالعصا تدركه، ومن غفل عن تنفيذ ما أقول، فالعصا تذكره”.[57]  

لو سألنا عبّاس محمود العقّاد (1889-1964) عن اختبار البصق في البئر الّذي أجراه الطّالب ناجي فرح، لكان قد وصفه بأنّه إحدى حالات “شيطنة” التّلاميذ الّتي رأى العقّاد أنّها مُلازمة لحياة التّلميذ.[58] شتّان ما بين “الشيطنة” وسلوكيّات “الكذب” و”التّحايل” و”التّمرّد” و”الانتقام” التي مارسها الطّلّاب المقهورون كردّ فعلٍ على القهر وعلى “الطريقة القديمة العقيمة الجوفاء”[59] في التّعليم، فبعض الطّلّاب المقهورين في كتاتيبهم ومدارسهم، كما أشار محمّد عابد الجابري (2010-1935)، لم يكونوا ممّن “يستسلمون لعصا الفقيه هكذا بدون رد الفعل، بل كانوا كثيراً ما “ينتقمون””.[60] سنحتاج إلى إطلالتين كاملتين لكي نعطي السّلوكيّات المذكورة في هذه الفقرة حقّها.

إلى أن نلتقي من جديد أسألكم أعزّائي: هل تحدّثون أولادكم عن ذكرياتكم المدرسيّة؟

ألقاكم/نّ بخير.  

……………………………………

[1] . سعيد، إدوارد. (2000). خارج المكان: مذكرات. نقلها إلى العربيّة: فوّاز طرابلسي. بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع.

[2] . السيد، أحمد لطفي. (2013). قصة حياتي. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 7.

[3] . المصدر السابق. ص 7-8.

[4] . المصدر السابق. ص 8.

[5] . المصدر السابق. ص 9.

[6] . زيَادة، نقولا. (1992). أيّامي: سِيرة ذاتِيَّة. الجُزء الأوّل. لندن: هزار بابلشنغ لمتد. ص 18.

[7] . المصدر السابق. ص 18.

[8] . المصدر السابق. ص 20.

[9] . المصدر السابق. ص 20.

[10] . زريق، قسطنطين. (2017). ذكريات…: سيرة لم تكتمل. تحرير: هشام نشابة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 20-21. 

[11] . المصدر السابق. ص 21.

[12] . المصدر السابق. ص 21.

[13] . شرابي، هشام. (1993). صُوَر المَاضي: سيرة ذاتيّة. بيروت: دار نلسن. ص 81.

[14] . المصدر السابق. ص 81.

[15] . المصدر السابق. ص 82.

[16] . المصدر السابق. ص 82.

[17] . المصدر السابق. ص 82.

[18] . المصدر السابق. ص 82.

[19] . المصدر السابق. ص 82-83.

[20] . المصدر السابق. ص 83.

[21] . أمين، أحمد. (2011). حياتي. القاهرة: كلمات عربية للترجمة والنشر. ص 242.

[22] . أمين، جلال. (2010). رحيق العمر. الطبعة الثانية. القاهرة: دار الشروق. ص 47.

[23] . أمين، أحمد. (2013). إلى ولدي. وندسور: مؤسسة هنداوي. ص 9.

[24] . أمين، جلال. (2010). رحيق العمر. الطبعة الثانية. القاهرة: دار الشروق. ص 68.

[25] . المصدر السابق. ص 68.

[26] . المصدر السابق. ص 68.

[27] . بن نبي، مالك. (1984). مذكّرات شاهد للقرن. الطبعة الثانية. بإشراف ندوة مالك بن نبي. بيروت: دار الفكر المعاصر. ص 24.

[28] . المصدر السابق. ص 24.

[29] . المصدر السابق. ص 24.

[30] . المصدر السابق. ص 25.

[31] . المصدر السابق. ص 25.

[32] . المصدر السابق. ص 36.

[33] . شريف، عمرو. (2016). أصداءٌ وظِلال: سيرة ذاتية. القاهرة: نيو بوك للنشر والتوزيع. ص 27.

[34] . المصدر السابق. ص 27.

[35] . المصدر السابق. ص 28.

[36] . المصدر السابق. ص 28.

[37] . الچادرچي، نَصير. (2017). مذكّرات نَصير الچادرچي: طفولة متناقضة… شباب مُتَمرّد.. طريق المتاعب. بيروت: دار المدى للإعلام والثقافة والفنون. ص 45-46.

[38] . بطرس، فؤاد. (2009). المذكرات. إعداد أنطوان سعد. بيروت: دار النهار للنشر. ص 24.

[39] . المصدر السابق. ص 24.

[40] . المصدر السابق. ص 24.

[41] . سعيد، إدوارد. (2000). خارج المكان: مذكرات. نقلها إلى العربيّة: فوّاز طرابلسي. بيروت: دار الآداب للنشر والتوزيع. ص 54.

[42] . المصدر السابق. ص 70.

[43] . المصدر السابق. ص 69.

[44] . المصدر السابق. ص 69.

[45] . المصدر السابق. ص 69.

[46] . المصدر السابق. ص 69.

[47] . المصدر السابق. ص 69.

[48] . المصدر السابق. ص 69.

[49] . المصدر السابق. ص 70.

[50] . فرح، ناجي سليم. (2010). ذكريات مُهاجرة: زَمنٌ يتكسّر. شفاعمرو. ص 115.

[51] . المصدر السابق. ص 116.

[52] . المصدر السابق. ص 116.

[53] . المصدر السابق. ص 116.

[54] . المصدر السابق. ص 117.

[55] . المصدر السابق. ص 117.

[56] . المصدر السابق. ص 145-146.

[57] . المصدر السابق. ص 146.

[58] . العقاد، عباس. (2013). أنا. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. ص 44.

[59] . التّليدي، أبي الفتوح عبد الله. ذكريات من حياتي. دمشق: دار القلم. ص 27.

[60] . الجابري، محمد عابد. (1997). حفريات في الذاكرة من بعيد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 48.

مقالات من نفس القسم