نوستالجيا التاريخ الفردي والوهمي

واسيني الأعرج
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

واسيني الاعرج

يبدو عنوان رواية ميرال الطحاوي الجديدة «أيام الشمس المشرقة» لأول وهلة، مخاتلاً وبسيطاً في شكله الخارجي، ورومانسياً، يعطي انطباعاً نوستالجياً جميلاً، لكنه بعد القراءة، يتغير هذا الانطباع بسرعة. فهو يحفر في صلب المنافي والبؤس وانكسار الأحلام/ الأوهام، بقسوته الصامتة.

ويبدو أن كتابات ميرال لا تجسد فقط مسارها الأدبي الغني والناجح، لكن أيضاً مسارها الحياتي. فقد بدأت برواية «الخِباء» التي رسمت داخلها حياة البداوة بكل تحولاتها كما عاشتها هي، مع عائلتها. ثم تتالت رواياتها راسمة حرقة الحيرة من عالم يتغير بسرعة، ثم فراقها أرضها ودخولها في عمق المنافي الخيارية التي دفعت بها نحو أمريكا، مع رواية «بروكلين هايتس» التي رسمت فيها شيئاً من روح رحلتها القسرية واكتشاف الحياة الأخرى. تؤكد ميرال على هذا التوازي بين نصوصها وحياتها في الكثير من حواراتها: «لقد عشت تلك المشاعر الغاضبة، وحاولت الخروج، واستطعت أن أرصد تلك التناقضات بما في ذلك الخراب الروحي بين العالمين. عشت طويلاً في الأروقة الجامعية في مصر وفي أمريكا وتمنيت أن أكتب عن تلك الصراعات التي لا تنتهي، وعن الابتزاز وعن الفساد وعن الفقر وعن اللواتي استطعن تسلق الطبقة ونجحن في الوصول لأحلامهن الطبقية. لكنّ ذلك لم يمنع قربي من شخصيات أخرى مثل نعم الخباز وأم حنان وزينب، فأنا أيضاً تربيت في قرية وأعرف مرارة الريف وتطوراته.»

ولا يعني ذلك أن ميرال تنشئ سيرتها الذاتية عبر نصوصها، لكن لمسارات الحياة ثقلها كما عند الكثير من الكتاب عالمياً. لقد تركت ميرال مصر منذ قرابة الخمس عشرة سنة، قضت فيها السنوات الخمس الأولى بحثاً عن وظيفة، ثم تنقلت بين الولايات من نيويورك إلى فرجينيا ومن فرجينيا إلى واشنطن ثم نورث كارولينا، ثم حظيت باستقرار نسبي حين تمّ تثبيتها في وظيفة أستاذ مساعد للأدب الحديث في جامعة ولاية اريزونا. رحلة فيها من القسوة ما يحولها إلى مادة إبداعية وروائية. نص «أيام الشمس المشرقة» يجسد هذه الثنائية القلقة بين الحلم السخي الذي يصل إلى ذروة الوهم، وانهياره كلياً. وتصبح الكتابة وسيلة للبحث عن معنى المفقود في أمكنة وظروف مضادة أصلاً للمعنى، بل ونافية له، في اتجاه هوية تعاد صياغتها من تجربة الحياة بكل ما فيها من حلم وقسوة. المهاجر الذي يحلم بحياة أفضل، سرعان ما يصطدم بالحقيقة المرة التي عليه استيعابها قبل أن تطحنه. الزيف الذي يلف الأحلام المستحيلة سرعان ما يتكشف مخلفاً وراءه خراباً كبيراً وقلقاً لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. لم تعد صورة الغرب المثالية حتى في تناقضها، التي صنّعها رفاعة رافع الطهطاوي، والطيب صالح، وسهيل إدريس وغيرهم كثير، إلا ظلالاً عابرة. تخطت ميرال هذا الوهم عندما اختارت أبطالاً عاديين لروايتها «أيام الشمس المشرقة». بل نماذج هي في الجوهر ضد البطل Anti-hero، اختارت مجبرة أن تعيش أقدارها بكل ما تملك من قوة ويأس. ولعل عقل الكاتبة الأكاديمي التحليلي والتركيبي، ساعدها على فهم موضوعها جيداً خارج المناطق الاختزالية السهلة. فهي جامعية تعمل اليوم في كلية اللغات العالمية والترجمة، في جامعة أريزونا الأميركية. من هنا، فميرال ترى في الرواية فعلاً جمالياً ورؤية فلسفية للوجود وليس مجرد قصة وحدوثة مغرية للقارئ البسيط. لعل هذا ما جعل كتابات نجيب محفوظ خالدة، فهي تحمل رؤية وجودية عميقة. ليست في النهاية شخصيات مركزية في الرواية، مثل نعم الخباز، وأحمد الوكيل، وسليم النجّار، وميمي دونج، مجرد بنيات لغوية لسانية، تتحدد وظائفها الروائية بالمساحات والمناخات التي تتحرك داخلها، ولكنها تتخطى ذلك لتصبح علامات رمزية محددة للمعنى الداخلي للرواية. فهي تمثل الشرائح المجتمعية التي تعيش صراعاتها في تلك المنطقة الغريبة التي تسمي «الشمس المشرقة» التي يولد فيها البشر بمحض الصدفة ويموتون وكأن موتهم لا حدث. هناك حالة تراجيدية عامة تتخطى المصائر الفردية لتشمل سكان البيوت الخشبية كلهم، حيث المأساة البشرية ترى بالعين المجردة في هذه المناطق الحدودية حيث يعرض الناس خدماتهم على الملأ علهم يحصلون على عمل، عاملات التنظيف اللواتي تنبعث منهن رائحة هي خليط من مساحيق وسوائل التنظيف التي تجرح الأنوف، فهم داخل عالم يصنعونه ويعيشونه كما لو أنه الحقيقة. وهم في هذا لا يختلفون عن بقية الغرباء. «فكل الغرباء يخترعون تاريخهم الشخصي بطرق متخيلة ولا داعي للتدقيق فيها أو التوقف عندها» (الرواية، ص 42).

ليست «أيام الشمس المشرقة» في النهاية إلا بوابات للظلام. لا يوجد أي شيء يمنح الأمل إلا تسمية المكان التي تتماهي فيها الأوهام بالحقيقة المرة. فهي المساحة التي التقت فيها كل المصائر التراجيدية للبشر المقيمين فيها. فقد محت افتتاحية الرواية، بشكل جاف وبارد، مقصود، كل إمكانية ليوتوبيا ممكنة، وعوضتها بديسوتوبيا قاهرة وحقيقية. كأن الرصاصة القاتلة في بداية الرواية فتحت أعيننا عن آخرها، لتضعنا في جحيم مناقض كلياً للعنوان الأول. منذ الصفحات الأولى يرتسم المشهد التراجيدي ويسير على تلك الوتيرة حتى نهاية الرواية، كما حدث مع «نعم الخباز» عاملة النظافة، التي يشكل وجهها بخدوشه ذاكرة جريحة، فقد أصيبت بتشوه في وجهها إثر حادثة في الرابعة من عمرها حينما سقطت على راكية النار وترك ذلك ندوباً عميقة في الشق الأيمن من وجهها. «حين دخلتْ البيت، وجدتْ «نِعَم الخبَّاز» بِكرها الذي جاوز التاسعة عشر بقليل، ممدداً على الأرض، وجهه إلى الأسفل، والطلقة التي اخترقت دماغه خرجت من الخلف واستقرت في الحائط. رأت جسده الضخم ممدداً في بركة من الدم» (الرواية، ص 9). لم تكن تلك الجريمة فعلاً معزولاً أو نادراً، بل هي جزء من نظام حياة معقد بُني على البشاعة والظلم واللاعقاب. منطقة خارج كل قانون، البشر فيها يموتون بأشكال مختلفة في الصمت الكلي، فالحياة رخيصة داخل بيوت العفن. كل واحد يظن أن ذلك لا يحدث إلا للآخرين، لسوزانا مثلاً التي تأكل كبقرة والمولعة بالمساحيق الخشنة، أو «ميمي دونج» الشابة الإفريقية التي تم استقدامها مع غيرها من الأطفال عبر الكنيسة، أو المكسيكية «كريستال» التي كثيراً ما تكون مشغولة بحصر غنائمها من حملات إخلاء البيوت المنكوبة. الناس في «الشمس المشرقة» ينسون الموت بسرعة لأن أحداثاً أكثر قسوة تعوضها، مثل غرق «ميمي دونج»، وفقدان «لوسي» قطة «إيمي»، وهروب «عمر» ابن «نِعَم الخبَّاز»، وجروح «سليم النجار» ومحاولة انتشال أطفال المركبة المنكوبة، وهكذا، في دوران حياتي لا ينتهي أبداً. لقد فرض الموت على سكان «الشمس المشرقة» ابتكار مقبرتهم لدفن موتاهم. لا وظيفة خيرية للإمام عبد القادر إلا دفن الموتى في حديقة الأرواح. يرافقه في مهامه الجنائزية أحمد الوكيل، الذي كان لا يمل من الجلوس عند باب بيت «كريستال» وزوجها المقاول أملاً في الحصول على عملٍ، قبل أن يغرق في حب نِعم الخباز، وينجب منها ولدين داخل عالم الانسحاق الكلي، وقبل أن يفترقا بسبب إهاناتها المتكررة له. وتصبح النوستالجيا مهرباً حيث يبدو الماضي منزلقاً وهارباً، وهو ما جعل كل سكان «الشمس المشرقة» يكذبون بشأن ماضيهم الذي هربوا منه بسبب الحروب والمجاعات، للتمكن من العيش في مقبرة كبيرة اسمها «الشمس المشرقة»

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم