عبد الرحمن أقريش
جلست أمام المدفأة، أشرب قهوتي، وأتأمل، أنظر للنار وهي تحيط بالخشب، تتقمصه، تخترقه من الداخل، تخبو قليلا، ثم تتجدد فيها الحياة فتتراقص ألسنتها وترتفع إلى الأعلى، تنتقل روحها إلى أطرافي، تخترق تفاصيل جسدي فأشعر بالدفىء.
تنتابني مشاعر متناقضة، سحابة يمتزج فيها الحزن والكآبة والشعور بالفراغ والإستسلام…يعود الماضي فجأة، قويا مثل تيار جارف، أستعيد ذكريات الزمن الجميل، زمن جميل، ملون وحالم.
مضى ذلك الزمن، ولى إلى غير رجعة.
أفكر بصمت.
– هل ولى فعلا؟ هل تعود السعادة مرة أخرى؟…
…
بمقاييس الزمن كنت أنا ما أزال مراهقة في حدود العشرين، وكان هو رجلا مكتمل النضج، تجاوز عتبة الأربعين، ولكنه يبدو أصغر من ذلك بكثير.
تولدت علاقتنا في مكان ما هناك في الأفق، من صدفة ما، من الفراغ، من اللاشيء، من المجهول، من النظرة الأولى…
التقينا في المعرض السنوي للكتاب، عندما رأيته لأول مرة أصبت بزلزال، فقد كان وسيما بشكل فظيع، جسم رياضي، قامة متوسطة الطول، شعر أشقر خفيف، وجه مستدير، بشرة قمحية فاتحة وعينين بلون الحصار.
مثقف، أنيق، مرح، مزاجي، مع روح قلقة لا تستقر على حال…
اقتربت منه أكثر، اكتشفته تدريجيا، تيقنت فيما بعد أنه غير قابل للتملك، فهو متزوج ومتعدد العشيقات، في البداية كنت مصممة، قررت أن يكون لي…
ثم قررت بعدها أن أتقاسمه مع الأخريات…
وفي الأخير قررت أن أكون له!!
كنا نلتقي بانتظام في الفضاءات الأنيقة للمدينة، مقاهي، فنادق، سينما، حدائق، وفي كورنيش المدينة.
…
عندما التقيتها فيما بعد للمرة الثانية، كنت كمن يكتشفها لأول مرة، سمراء، شعر أسود فاحم تخترقه خصلات شقراء مزيفة، وجه مشرق، باسم، شفاه مرسومة وشهية، جسم ناضج وممتلئ، عينان واسعتان…
كانت ترتدي سروال جينز أسود، وقميص ستيل بحري مخطط بالأبيض والأزرق، قميص مفتوح بشكل متموج يكشف عن صدر يفيض بالحياة، كان نهداها يطلان من القميص، وفي المجرى بينهما تتدلى حلية فضية عبارة عن طائرة.
كل مرة أنظر في عينيها الواسعتين أراني مسافرا في رحلة تيه طويلة…
امتداد شاطئ لا ينتهي!!
…
في المقهى رحت أنظر إليه، أتأمله، وسامته، وجهه الطفولي، أنامله الرفيعة، سيجارته، حركاته المحسوبة، هدوئه، وضعيته الجسدية المريحة…
منذ الوهلة الأولى تملكني إحساس غريب، نوع من الحدس، شعرت أنني أمام شخصية مركبة، وأن وراء هذا الهدوء المزعوم يمور صراع داخلي مرير، وأن هذه النظرة الحالمة تخفي خليطا من المشاعر المتناقضة يمتزج فيها التردد بالجرأة والخجل.
…
كانت لقاءاتنا الأولى فرصة لاكتشافها عن قرب.
أدخن سيجارتي وأنظر إليها…
عندما تكون حزينة، تطلب مياها معدنية، تدخن وتلوذ بالصمت، وعندما تكون سعيدة تشعر بالجوع، تطلب حلوى بالشوكلاطة وفنجان قهوة سوداء.
تشطر قطعة الحلوى إلى نصفين متساويين وتقول:
– ستأكل نصفها…
أبتسم، أرسم إشارة الرفض بملامحي.
– ستفعل ذلك من أجلي…
أتذوقها وأعود لسيجارتي.
آنذاك، تشطر الحلوى إلى مكعبات صغيرة وتبدأ في التهامها ببطء، تأكلها، تلوكها، تستمتع، تمضغها على مهل، تتوقف للحظات، تمص شفتيها، تمسحهما بمنديل ورقي، تتكلم، تضحك، وفي الأخير تأتي عليها كليا.
منذ البداية بدت لي بسيطة، شفافة، عفوية ومتصالحة تماما مع ذاتها.
كانت بساطتها أحد الجوانب المشرقة في شخصيتها.
أنا أكره الفتيات اللواتي يغادرن المقاهي والمطاعم وقد خلفن وراءهن الكثير من الطعام والحلوى وكؤوس نصف مملوءة في إشارة إلى بريستيج مصطنع مثير للشفقة.
تدخن، تتكلم، تبتسم، ترد خصلات متمردة في حركات لا شعورية مفعمة بالأنوثة…
أنتبه لتبرجها، خواتم فضية في أصابع اليد اليمنى، إحداها في السبابة والأخرى في الإبهام، ساعة يدوية أنيقة في المعصم الأيسر، أقراط معدنية تنغرس في أذنيها فيما يشبه الدائرة…
أحيانا يبدو تبرجها غريبا، ولكنه كان دوما جميلا، منسجما تماما مع شخصيتها، ولم يسقط أبدا في البهرجة والابتذال.
…
ذات مساء خريفي، وهو غارق في قراءة رواية، وأنا في أحضانه، ندخن سجارته بالتناوب، أعبث بهاتفه، اكتشفت لائحة بأسماء عشيقاته، أسماء، عناوين، وألبوم صور بالعشرات، شقراوات، بيضاوات، سمراوات، زنجيات، جميلات، ذميمات…لكن، كلهن مثيرات، تحركت مشاعر الغيرة والتملك في دواخلي، لكني كبتها بسرعة، تذكرت سياقات لقاءاتنا الأولى، فقد رفض في البداية بكثير من الكبرياء.
– لا تكوني مجنونة، أنا لا أصلح لك…لن ينجح الأمر فأنا متزوج!!
– أنا أعرف…أريدك عشيقا وليس زوجا!!
– أنا أيضا متعدد العشيقات!!
– طيب… لأكن واحدة منهن!!
توطدت علاقتنا، وتحولت إلى ارتباط حقيقي، كنا نتحدث عن الحياة والحب والزواج والمتعة والحرية والعمل…
اكتشفت فيما بعد كم كانت رؤيتي للحياة بسيطة وساذجة…
بالنسبة له، لا يتعلق الأمر بالخيانة، ولا حتى بالحب، وإنما بالحرية والتمرد على قيود المؤسسة، أيا كانت المؤسسة…يحب زوجته وأبناءه، ويكره الالتزامات العائلية، يحب العمل، ويكره الرتابة، يحب صور الحياة والمتعة، وترعبه فكرة الموت وأخاديد الشيخوخة في وجه الحياة، متدين بعمق، يصلي بانتظام، ثم ينقطع ويعود لحياته الدنيوية بين الحين والآخر.
يردد دائما:
– إن الله يفهمني…أنا أعرفه وهو يعرف أنني ضعيف!!
كانت علاقتنا مصدرا لسعادتي.
وكنت أسعده بطريقتي، أقتني الأشرطة التي يحبها، أقف أمامه شبه عارية، أرقص بجنون، أدندن الأغاني التي يحبها، أمثل الافتتان…كان مهووسا بالرقص الشرقي، سامية جمال، وأغاني الست أم كلثوم…(جمالك ربنا يزيده)…أستمع لها إكراما له، أقلدها، كانت تقاسيم صوتها الممتد تسبب لي التهابا في الحنجرة!!
…
انزعجت كثيرا في البداية من قضية الانجذاب الجسدي، فهو يسبب العمى، ويحجب الرؤية…ثم عندما تملكنا بعضنا، هدأت روحي، وصرت قادرا على رؤيتها بوضوح…
كانت مختلفة، ذكية، جميلة، شهية، جذابة، فاتنة ونرجسية، تحركها أحلام الطفولة وأوهامها…
كانت في حاجة إلى رجل تحبه، يحبها، تبكي على كتفيه، ويمسح دموعها، ينصت لها، ويربت عليها بحنان…
كنت أنا ذلك الرجل.
…
أحيانا يكون الرحيل قاسيا، قاسيا جدا.
عندما رحلت، تألمت كثيرا، ثم في نوع من العزاء، قلت في نفسي، الأمر ليس مأساويا، في النهاية العشاق يرحلون جميعا، يرحلون دائما، وعادة لا يعودون، بعضهم يرحل موتا، البعض يرحل مللا، البعض الآخر يرحل نسيانا، الكثيرون يرحلون، أحيانا بسبب، وأحيانا بدون سبب، لكنهم في الاخير يرحلون.
…
تزوجت بعد رحيله مرتين، سلمت زوجي الأول جسدا بدون روح، وسلمت الثاني ما تبقى من حطام الروح والجسد.
– أوووه…إلى هذا الحد لا يعوض!!
التقيته بعدها بسنوات، استقبلني بابتسامة مشرقة ومرحبة، أنيقا كعادته، بدا شابا وسيما، رغم الشعيرات البيضاء في مفرقه، كانت زوجته تقف إلى جانبه، في حين أمسكت ابنته الجميلة ذراعه، سلمتا برقة، ووقفتا غير بعيد.
سألته عن أحواله، ابتسم، ثم قال:
– لم أنس أبدا!!
إبتسمت، فكرت في صمت.
– النسيان…أوووه، الأمر أكبر من النسيان!!
…
كان جمالها حاضرا هاهنا، صامدا، يرفض الإنمحاء، لكن شيئا ما بداخلها قد انكسر…
بدت سعيدة وحزينة في نفس الوقت…
مر شريط الحياة مثل وميض، فكرت فيها، في نفسي، وفي البشر…
قلت في نفسي:
– بدون حب…كم نحن تعساء!!