نور الهدى سعودي: كيف يُكتب الصيف حين يرحل؟

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بولص آدم

   حين يغادر الصيف، يترك وراءه أكثر من الحرارة؛ يترك لحظات حية من الضوء والظل والذاكرة. في نصها «سيرةُ نهايةِ الصيف.. وداعات الضوء الأخيرة»، تقدم الكاتبة المغربية نور الهدى سعودي وداع الصيف عبر الحواس الخمس، فتحوّل كل تفاصيل الحياة اليومية إلى جسور نحو التأمل والوجود.

نهاية الصيف تتحوّل في النص إلى طقس داخلي يختبر معنى الوداع والتخفف من الفائض. سعودي، الباحثة الحاصلة على ماجستير في الفلسفة، تمزج بين حساسية الشعر ورصانة السرد، فتجعل من الحواس أداة كاملة لتسجيل لحظة انتقالية بين الصيف والخريف. الصيف يتجسد في النص ككائن حي ينسحب بهدوء ويترك أثره على الضوء والجسد والذاكرة، ويظهر في التفاصيل اليومية كما في اللحظات التأملية.

منذ الجملة الأولى، تتجلّى البنية السردية في تجسيد الحواس:

“لم تكن السماءُ أقلَّ زرقةً هذا المساء، لكن الضوء كان ألينَ على الجدران؛ ينساب مثلَ ماءٍ تعلّم التروّي بعد اندفاعٍ طويل. في المطبخ، تفوح من طبق الخوخ رائحةٌ حلوةٌ تميل إلى التخمر، والمروحةُ تواصل عزفها الرتيب كأنها تتدرّب على الصمت.”

البصر يظهر في زرقة السماء وليونة الضوء، الشمّ في رائحة الخوخ، السمع في عزف المروحة، واللمس يتجلّى في ملمس الهواء والسطوح. النص يبدو جسدًا حيًّا يتكلم عبر الحواس، والراوي جزء من المشهد يتفاعل معه مباشرة.

السرد يتقدم كسلسلة مقاطع تأملية، كل فقرة تركز على مشهد صغير لكنها تفتح بابًا على معنى وجودي أوسع. حين تلتقط الكاتبة صدفة صغيرة من البحر، يتحول التفصيل العابر إلى رمز:

“وجدتُ عند الحافة صدفةً صغيرةً تشبه أذنًا، رفعتُها إلى خواء كتفيّ وقلت: سنصغي معًا لما يحدث في آخر الصيف.”

الحاسة تصبح أداة إصغاء للمصير والزمن، واللغة متأنية، وحركتها هادئة:

“حذرُ النهايات أهدأُ، أكثرُ اعترافًا.”

الانسياب التدريجي للنص يشكّل إيقاعًا حسيًا مؤكدًا أن فن الوداع يتطلب هدوءً يسمح بالاعتراف باللحظة وبالفرح الذي مرّ:

“الليلُ هذه الأيام يصبح أسرعَ في الوصول، لكنه لا يداهم. يطلب إذنًا.”

التجربة الحسية تتشابك مع الذاكرة الشخصية:

“كلُّ نهايةِ صيف تُعيد لي صيفًا قديمًا واحدًا… ذلك العام، غادرت جدّتي في أواخر أغسطس في رحلةٍ لم ترجع منها… منذ ذلك اليوم صارت نهايةُ الصيف درسًا صغيرًا في الفناء، على شكل تذكيرٍ أن الأشياء بما فيها الفرح تحتاج إطارًا لتظهر، وأن الإطار هو النهاية.”

الفقد يتحول إلى سياج يمنح الأشياء معناها. على مستوى التكوين السردي، يتحرك النص مثل مقطوعة موسيقية، كل فقرة تفتح لحنًا جديدًا، لكنها جميعًا تنتهي إلى مقام التخفّف. تبدّل الأحياء، مراقبة الأطفال، ترتيب الملابس، رعاية النباتات، تتحول الأعمال اليومية إلى رموز استعداد داخلي للتبدل، وتحويل العادي إلى دلالة، والجزئي إلى استعارة.

الكتابة بالحواس الخمس عند سعودي اختيار فلسفي، يجعل القارئ يواجه الأسئلة من خلال التجربة الحسية: كيف نودع؟ كيف نصغي لما يمضي؟ كيف نحتفظ بالذاكرة دون أن تسجننا؟ هنا يلتقي النص مع بعض الكتاب، مثل توماس مور في «آخر وردة صيفية»، حيث يعكس الفقد والوحدة عبر الوردة الوحيدة التي تبقى حين تذبل الزهور، بينما سعودي تضع القارئ داخل جسد اللحظة اليومية، فتجربة الفقدان متجلية في كل حاسة وفي كل فعل بسيط.

النص يبتعد عن الميلانخوليا الثقيلة، ويقدّم حزنًا رقيقًا، حيث الوداع يطلب إذنًا ولا يغزو، وربما لهذا يحبّ القارئ نهاية الصيف عند سعودي:

“ربما لهذا أحبُّه: لأنه يشبه المصالحةَ التي نقوم بها مع أنفسنا دون ضجيج. نوقّعُ داخليًا وثيقةَ عفوٍ عن صبيٍّ كان يظنُّ أنه قادرٌ على جمع الصيف كلّه في راحة يد، وعن امرأةٍ كانت تتوهّمُ أن علاقةً ما ستُصلحها الشمس.”

هذه اللحظة الصغيرة تلخّص فلسفة النص: الفقدان يصبح فرصة للصفح والتخفيف، للاحتفاظ بالفرح دون تمسّك.

في الخاتمة، تتبلور الفكرة المركزية:

“ربما لهذا أحبّ نهايةَ الصيف: لأنها تعلمنا أدبَ الإقامة المؤقتة، فنحسنُ استقبال ما سيأتي، ونحسنُ أكثر توديعَ ما أحببناه.”

النهاية تتحوّل إلى تهذيب داخلي، تدريب على التخفيف من السرعة، حمل ما لا يُحمل، والحب دون تمسّك بالأشياء. «سيرة نهاية الصيف» نص مكتوب بالحواس، يقدم رؤية فلسفية عن الزمن. البنية السردية قائمة على المقاطع التأملية، اللغة تمزج الوصف الخارجي بالدرس الداخلي، والمعنى عميق، يجعل من النهاية درسًا في العيش لا الفقد فقط.

النص يرسخ موقعه ضمن الكتابة المعاصرة التي تحوّل اليومي والهامشي إلى لحظة تأمل كبرى، ويضيف لمسته الخاصة لتصبح تجربة وداع الصيف حية، حميمية، ومشربة بالوعي الحسي العميق.

“سيرة نهاية الصيف” يُكتب بالجسد كما بالقلم، محاولة لجعل الحواس أرشيفًا للزمن، وجعل نهاية الصيف درسًا في أخلاقيات العبور: كيف نودّع دون أن نفقد، وكيف نصغي لما يذهب لنهيئ أنفسنا لما سيأتي. يتحول النص إلى تدريب على فن الإصغاء الحسي، لتتعلم الروح النظر إلى الفصول كتمارين داخلية على التوازن، الصفح، والوداع.

 

اقرأ أيضاً:

سيرةُ نهايةِ الصيف.. وداعات الضوء الأخيرة

سيرةُ نهايةِ الصيف.. وداعات الضوء الأخيرة

مقالات من نفس القسم