حاورها: البهاء حسين
تركت نوال السعداوى من الحرائق أكثر مما تركت من الكتب. والحاصل أن الرأى العام كله عمل إطفائياً يتعقبها بخراطيم المياه. نوال نفسها أشبه بقطة مشتعلة تزرع الحقول جيئة وذهاباً ومن ثم تتعرج وتتقاطع وراءها خطوط النار، ولا أحد يمكنه التوقع أين أو متى ستكون قفزتها الأخيرة.
نوال فى منتهى الذكاء، ورغم أعوامها الثمانين ما زالت قوية لدرجة تعتقد معها أنها لن تموت. هكذا قالت لى وعرق التحدى ينبض فى روحها النافرة.
وأنا ذاهب إليها استحضرت شعرها الأبيض المهوش الذى رأيته للمرة الأولى على صفحات ” اللواء الإسلامى ” فى مناظرة مع رجال الدين. كنت وقتها فى الصف الثانى الإعدادى، والآن، بعد 30 عاماً من ذلك التاريخ، أرى السعداوى وجهاً لوجه. والحق أنى رأيت امرأة على استعداد لأن تدفع حياتها ثمناً لرأيها، ممسوسة بالحرية، غير أنها ملتصقة بنفسها إلى حد التوحد، ولديها الكثير من الأوهام عن الذات. وربما كانت إقامتها فى الطابق السادس والعشرين ترجمة لرغبة فى التحرر من جاذبية التقاليد، ربما، لكن المؤكد أنها اتخذت من الدين هدفاً ترجمه، مصفقة لنفسها بحرارة كلما كسرت أيقونة عزيزة على قلوب الناس.
وبين رغبة السعداوى فى أن يكون الحوار كما تريد ورغبتى فى أن أضع يدى على النسخة الطبيعية منها، كانت أسئلة وكانت شظايا فى كل اتجاه.
* دعينى أرجع معك إلى طفولتك.. ماذا بقى من الطفلة نوال السعداوى للجدة؟
– الطفلة هى الجدة، الطفلة فى أعماقى تعيش حتى هذه اللحظة وهذا هو الإبداع. أنا كاتبة روائية أولاً ولست سياسية أو طبيبة أو ناشطة..إلى آخر ما يصفوننى به. تكوينى منذ الطفولة إبداعى
* تقصدين أن براءة الطفولة وحمقها حتى ما زال موجوداً بداخلك؟
– ( بامتعاض ) الطفولة ليست حمقاء. هذا هو الخطأ. ربط الطفولة بالحمق هو نتيجة التعليم الخاطىء فى مصر
* إذن ما معنى الطفولة بالنسبة لك؟
– الطفولة إبداع، الأطفال أكثر شجاعة من أبائهم وأمهاتهم. وأنا تعلمت منهم معنى أن تكون شجاعاً. كان أبى يعطينى البراح لنقد كل شىء، حتى نقد الله. هكذا قال لى أبى
* ” نقد الله “!؟ يُنقد من يخطىء يا دكتورة، وحاشا لله أن يخطىء. إننا نبحث عن الله ولا ننقده؟!
– أبى كان يؤمن بالله الذى هو العدل مثل جدتى الفلاحة، جدتى كانت أمية لم تقرأ القرآن ولا الإنجيل. الناس تولد وترث الدين. وجدتى لم تقرأ، لكنها مع ذلك كانت تقود المظاهرات، حافية، ضد العمدة وضد الإنجليز
* ( قافزاً على ألغام ظهرت مبكراً، وحتى لا ينفجر الحوار، سألت السعداوى عن جدتها.. هل عاصرتها، هل كانت تحكى لها حواديت؟ وهى، بحنين، قالت )..
– طبعاً
* ماذا تركت لك جدتك؟
– الفلسفة، الفهم الحقيقى لله. قالت لى: ربنا هو العدل وعرفوه بالعقل. هذا هو الله. وأبى درس فى الأزهر، لكنه هاجم الأزهر، لأن التعليم الدينى فيه كان خاطئاً، ولأن شيخ الأزهر كان مع الملك والإنجليز
* الشيخ المراغى؟
– بالضبط، كان أبى يسميه ” المرائى “. أبى كان ثائراً بطبعه وكانت جدتى ثائرة
* عن أى منهما ورثت بذرة التمرد؟
– عن جدتى وأمى. أمى ابنة طبقة برجوازية، أبوها كان رجلاً عسكرياً فى الجيش، نزلت مرة مظاهرة وهى تلميذة ضد الإنجليز فحبسوها فى التخشيبة إلى أن جاء أبوها وضربها علقة سخنة وزوجها لأبى. كان عمرها 16 سنة
* هل كانت الوالدة ام الوالد مدار الحياة فى المنزل؟
– كلاهما، كان هناك توازن قوى، ولذلك أنا لا أحتمل الرجل المسيطر. أطلقه، لأنى نشأت فى أسرة كان فيها الأبوان متكافئين فى القوة. كان أبى من طبقة فقيرة، فكان يعمل حساباً لأسرة أمى، ولأنه ينفق على المنزل، كانت أمى تعمل حسابه. من هنا جاء التوازن
* ما ترتيبك بين إخوتك؟
– نمرة اتنين، كان لى أخ يكبرنى، وجاء بعدى 7 آخرون، 6 بنات و3 ذكور
* والبيت.. كيف اتسع بيتكم لـ 9 أطفال؟
– كانت ماهية أبى فى وزارة المعارف جيدة، وكنا مستورين
* هل حظيت بقدر زائد من التدليل؟
– لا، أبداً، عمرى مثلاً ما اتعملى عيد ميلاد. كان أبى يضحك وهو يقول: لو عملت لحد فيكم عيد ميلاد، يبقى هنفلس. كنا مستورين، دخلت كلية الطب. وكل إخوتى دخلوا جامعات
* وماذا عن رأيك، هل كانت لك كلمة فى شئون البيت؟
– منذ الطفولة
* كان لك حق التعبير فى كل شىء؟
– هذه مشكلتى، أننى تعلمت النقد منذ الطفولة. الأطفال لديهم عقلية نقدية، مش تقول لى: حمق الطفولة. الطفل يولد بعقل نقدى ثم يقضى التعليم، بكل أسف، على هذا العقل
* والتعليم، على أيامك، هل غذى فيك هذه الحاسة؟
– لا، أنا تعلمت فى البيت، لأننى لم أكن أسمع كلام المدرس. مرة كتبت قصة، بناء على طلب المدرس، عنوانها ” مذكرات طفلة اسمها سعاد “، لكنه أعطانى صفراً وكتب عليها: هذه الطفلة بحاجة إلى تقوية دينية
* حتى فى هذه السن، كنت تخوضين فى الأسلاك الشائكة؟
– ( بضحك خفيف يحيّى شقاوة زمان ) كان عندى 13 سنة، وأذكر أننى خبأت القصة من الخوف
* قولى لى: ما الأسئلة التى طرحتها فيها؟
– سأعطى لك نسخة منها، لتقرأها
* أخبرينى حتى عن أجوائها؟
– كنت ألاحظ فى رمضان بالذات نفاق الناس، وأتساءل عن تناقضاتهم..لم، ونحن فى شهر صوم، تمتلىء موائدنا عن آخرها بالطعام؟!
* لكننا ونحن أطفال كنا نفرح برمضان، لأن الآكل فيه كثير. فهل معنى ذلك أنك كنت بهذا الوعى وأنت baby؟
– كل الأطفال يولدون مبدعين، أنا وأنت، كلنا نولد بهذه العقلية النقدية التى حدثتك عنها. هو الإبداع إيه؟.. رؤية التناقضات، بمعنى.. لو أن أبى قال لى : يا نوال، فيه واحد جايلى دلوقت، قولى له: أنا مش موجود. ساعتها سأعرف أن أبى يكذب. هذه هى رؤية التناقضات
* يمكننا إذن أن نخرج من طفولتك بأن ما بقى منها هو الأسئلة وحاسة النقد؟
– أيوه، بالضبط
* وأسئلة المراهقة والشباب..ألم تقترب من الإيمان. بصراحة..هل أنت مؤمنة؟
– بم
* بالله؟
– أنا مثل جدتى، التى كانت تؤمن بأن الله هو العدل، وليس كتاباً يخرج من مطبعة !
* والوالد.. هل كان يصلى؟
– دائماً
* وأنت؟
– تعلمت الصلاة وأنا فى السابعة
* والآن..؟
– ليست المسألة مسألة صلاة. أولاً ما هى الصلاة وما هو الحج؟ أنا اعترضت على تقبيل الحجر الأسود وما زلت
* قلت إن الحج طقوس وثنية؟
– الوثنيون كانوا يحجون. وهل الدين هو الحج؟! هو الصلاة؟! الدين هو العمل. العمل عبادة. أنا كطبيبة وكاتبه عندما أعمل بجد وإخلاص، هذا بالنسبة لى هو الدين الصحيح. لـ “رابعة العدوية” عبارة حلوة..تقول فيها لله : أنا لا أخاف من نارك ولا أطمع فى جنتك. شوف الجمال
* حالة رابعة العدوية هى حالة وجد، تحب الله فيها كهدف وغاية بعيداً عن..؟
– ( مقاطعة ) زى جدتى، هو كده
* المهم.. هل نوال السعداوى كده؟
– أنا كده
* أنت متصوفة إلى هذه الدرجة؟
– لست متصوفة، أنا نقدت المتصوفين. خلينا واحدة واحدة..لأننا نضع دائماً استمبات على أى فكر.أنا لدى نقد للمتصوفة وللمذهب السلفى والإخوان وكل تحوير لفكرة الله/ العدل إلى مقعد فى البرلمان! على من يضحك هؤلاء. هذه أكذوبة
* وما فكرتك عن الله غير أنه العدل؟
– الحرية، الحب، المساواة، الجمال
* لكن الحج والصلاة وغيرهما من الأركان هما الطريقة التى يقول بها المسلم إنه..؟
– مقاطعة..لا لا دعنا نقف هنا.. أركان اٍلاسلام هذه فى الكتاب، أنت تعود إلى الكتاب
* وإلى أى شىء أعود سوى الكتاب؟
– هذا خطأ
* ألا تريدين من المسلم أن يعود فى شئون دينه إلى القرآن؟
– أريد أن نرجع للعقل، ماذا يقول العقل؟ ما قالته جدتى الفلاحة التى لم تقرأ الكتب: ربنا هو العدل عرفوه بالعقل. الكلمة دى هى فلسفة الكون
* طيب يا دكـ..؟
– ( مقاطعة بنرفزة) لماذا لا نرجع للأصول، إحنا كده بنضيع الوقت. تضايقنى مثل هذه الحوارات، لسة ها نتكلم عن الحجر الأسود وربنا مش عارفة إيه. عايزين ننهى الدين ده! قلت لك: إيمانى هو إيمان جدتى وإيمان أبى. إيمان امرأة لم تقرأ وإيمان رجل علامة..
* أفهم من كلامك أنك تؤمنين بالله، لكنك تنكرين الطقوس؟
– أرفض هذا السؤال، لأنك تنكر ما قلته كله، تانى.. أنت الآن تتصيد مانشيتات، نوال السعداوى تقول: لا أؤمن، نوال بتقول مش عارفة إيه !! خليك مختلف، ما تعملش زى كل الصحفيين
* لم آت لأحكم عليك، جئت أحاورك..؟
– ( مقاطعة ) دعنا نتكلم فى السياسة والاقتصاد والأدب
* أعود إلى جذورك الأولى. ما أكبر صدمة تلقتها طفولتك؟
– لم تكن هناك صدمات
* هل كنت محبوبة؟
– جداً، وما زلت. لما رشحت نفسى ضد مبارك كانت قريتى كلها معى. أنا محبوبة فى الشارع أكتر من أى رجل أو امرأة فى مصر، لماذا؟ لأن الشارع أكثر وعياً من أساتذة الجامعات. الزبال الذى يأخذنى بالحضن لم يقرأ كتبى، لكنه قال لى: شفتك مرة واحدة فى التليفزيون واقتنعت بكلامك
* كلمينى عن اللعب، كيف كانت علاقتك به؟
– لعبت الكرة، نط الحبل، التنس، كل الألعاب
* وفى المدرسة، هل كنت تجادلين أساتذتك؟
– كلهم..الناظرة والمدرسين، ويا ما طردنى المدرس برة الحصة، أنا تعرضت للفصل عدة مرات فى الثانوية
* هل التمرد يا دكتورة نوال أفق مفتوح بلا قيود؟ أم هو فى حد ذاته هدف؟
– أنا كاتبة مقال بكرة، بس على الله ما يشيلوش منه حاجة، لأنهم ساعات بيشيلوا حاجات فى ” المصرى اليوم “، أتكلم فيه عن 4 مبادى ينبغى أن تكون فى الدستور القادم.. أهمها حق المواطنين جميعاً فى الإبداع والخيال دون حدود. هل تعرف لماذا نُستعمر؟ بسبب انعدام الخيال. نحن مستعمرة أمريكية، تتلقى أوامرها من كلينتون الجزارة وأوباما المتغطرس. وأنا أشعر كل يوم بالإهانة بسبب خضوع الجيش المصرى والمجلس العسكرى لأمريكا، لأنه يأخذ مليار ونصف مليار دولار مساعدات. الدولة التى لا تعيش من عرقها مثلها مثل المرأة التى تعيش عالة على زوجها، لا تستحق الحرية ولا الاستقلال. إحنا عايشين على المعونات !
* إذن أنت مع إلغاء المعونة؟
– طبعاً، حتى وأنا متزوجة، كنت أرفض أن آكل من عرق زوجى. الذى ينفق هو الذى يسيطر على المرأة أو على الدولة
* هناك مثل فى أمريكا يقول: الدولار تتبعه السيطرة؟
– بالضبط
* هل تشعرين أن ثورة يناير كانت صدى لتمردك؟
– طبعاً، أولادى هم الذين صنعوا الثورة، كتبى غيرت حياة الناس على مدى 5 أجيال، لكن المجلس الأعلى للثقافة بقيادة جابر عصفور حذف اسمى من ذاكرة الثقافة. جابر كان ضدى وكان يقوم بحذف اسمى كلما رشحتنى هيئة لجائزة الدولة فى الأدب أو فى العلوم
* نتيجة موقف شخصى أم ماذا؟
– على الإطلاق، لكنه كان يتلقى أوامر من سوزان مبارك وفاروق حسنى. سوزان كانت بتكره حاجه اسمها نوال السعداوى
* لماذا؟
– لأننى شخصية عالمية، وهى تريد هذا اللقب لنفسها فقط، وجيهان السادات كانت هى الأخرى تغار منى. جريدة الجارديان عملت مسحاً لأهم 100 امرأة فى العالم. هل تعرف كم كان ترتيبى..رقم 16 تصور أن هذا الخبر نُشر فى العالم كله، ما عدا مصر. لماذا؟ بسبب السادات ومبارك
* ألم يجمعك لقاء بمبارك؟
– جاءتنى دعوات على العشاء من سوزان وجيهان، لكنى لم أذهب
* أريد أن أصارحك بشىء..أنا لم أقرأ على لسان أحد من الأدباء أنه تأثر بك أو بكتبك. ما يعنى أنك لست جزءاً من الوجدان الأدبى؟
* أنا موجودة فى الوجدان الأدبى والفكرى والطبى والنفسى فى مصر والعالم، لكنى سأنصف بعد موتى. هو كافكا حد خذ باله منه وهو عايش. أعظم الأدباء نالوا الاعتراف بعد الموت
* مع من تضعين اسمك؟
– أنا أقارن نفسى بالكتاب العالميين؟
* مثل؟
– لا أريد أن أذكر الأسماء
* فقط لتقريب القامات؟
– تاريخى سيُقيم فيما بعد.. بعد رحيل المجلس العسكرى، حينما يزول الاستعمار. كتبى كسرت المحرمات الجنسية والثقافية والأخلاقية
* لكن يا دكتورة، كتابة الروايات تحت فكرة أو أيديولوجيا مسبقة، ألا يخصم من رصيدها الفنى؟
– هذا الكلام يردده نقاد السلطة، يريدون أن يريحوا ضميرهم، يقولون: نوال السعداوى دى مش أديبة، دى عندها أيديولوجية، خاصة بعد ارتباطى بالدكتور شريف حتاتة، قالوا إننى شيوعية لمجرد زواجى برجل شيوعى. هذه التهمة التصقت بى لهذا السبب، وأصبحت رواياتى كلها أيديولوجية. النقاد يقرأون رواياتى سراً ويحبونها، لكنهم لا يعلنون ذلك. يقولون إن نجيب محفوظ عالمى لكن نوال السعداوى مش عالمية، مع أن كتبى ترجمت لـ 40 لغة
* هل تضعين نفسك إلى جوار نجيب محفوظ؟
– أنا أحسن منه، لكنى لا أريد أن أقول هذا. أنا لم أنافق السلطة مثل نجيب محفوظ، لم أؤيد كامب ديفيد مثله، نجيب محفوظ قال: أحسن قرار عمله السادات هو كامب ديفيد
* قد تلعب السياسة دوراً فى منح الجوائز، لكن الشارع توج نجيب محفوظ حتى قبل نوبل؟
– أنا وأنت نتكلم لغتين مختلفتين، وأنا تعبت خلاص..
* سوف نتكلم لغة واحدة، بس قولى لى : هل تشعرين أنك مضطهدة؟
– لا أحد يستطيع أن يضطهدنى، وده إللى فاقع مرارتهم
* عصر السادات أم عصر مبارك كان الأكثر عنفاً فى مواجهة نوال السعداوى؟
– أزفت من بعض، منذ هزيمة عبالناصر، والسلطة لا تعرف ماذا تفعل بى، شوهوا سمعتى، قالوا إننى شيوعية وإباحية وكل العبر وسلطوا علىً التيارات الدينية ومعاهم الاستعمار. كلامى يتعرض للحذف من الـ CNN، والـ NEWYORK TIMES هو إنت فاكر أن الحكومة الأمريكية بتساندنى !
* على الأقل يرون فيك صوتاً تقدمياً لهم؟
– على الإطلاق، هم يعرفون أننى ضدهم
* ما أفدح ثمن دفعته نوال السعداوى لكونها مختلفة؟
– أنا دفعت حياتى كلها ثمناً للحرية
* وجودك الدائم فى حقول الألغام، هل كان بقصد البحث عن إجابات لأسئلة شائكة، أم كنت تريدين أن تصدمى المجتمع، لكى يفيق. ما الدافع العميق وراء..؟
– ( مستبقة تكهناتى وقافزة عليها بلماحية ) ها تقولى : نوال السعداوى كانت تبحث عن الشهرة. تريد أن تقول ذلك لكنك تستخدم ألفاظاً مهذبة. هاتها على بلاطة. شوف.. أنا أشعر بمسئولية القلم.. أنا كاتبة وطبيبة عرفت حقائق ولا بد أن تعلنها. هل مطلوب منى أن أكتب رأى غيرى عندما أتصدى للكتابة. أنا أكتب ما أحسه وما أشعر به
* على فكرة أنا والزميل أيمن حافظ كنا ننم عليك ونحن قادمون إلى هنا. سألته عن تفسيره لحالتك وللجدل الذى يصحبك فى كل نفس، واستشهدت أيضاً بـ ” إيناس الدغيدى”..؟
– لا تضع اسمى معها
* استنى يا دكتورة، خلينى أكمل فكرتى..؟
– ( بضيق مكتوم )..إمممم
* المهم يا دكتورة، قال لى أيمن: هناك عقليات لا تستطيع أن تغيرها، لأنها خلقت هكذا. وهم يتصرفون بطريقة تبدو لنا نحن غريبة، بينما هم منسجمون تماماً مع أنفسهم. هم لا يفتعلون التمرد أو الخروج على الأعراف ولا يرون أنهم غرباء. فهل أنت كذلك يا دكتورة. والتفتت نوال إلى أيمن ولمعة امتنان فى عينيها، قالت له نكاية فىّ.. برافوا عليك. كنا 3 أجيال.. أنا أبحث عن قطة سوداء فى غرفة مظلمة، ونوال تبحث عن طريقة تصد بها أسئلتى فتستعلى عليها، وأيمن يصور الخناقات المتقطعة التى تنشب فى الحوار كل سؤالين تقريباً. ولكى أكمل دون أن أتحامل على السيدة التى فتحت لى عقلها بكرم، قلت لـ ” للسعداوى ” رداً على تململها المعتاد من علامات الاستفهام التى أضعها أمامها: على فكرة.. أنت تمارسين على أسئلتى نوعاً من التعالى، لا تعتقدى أننى سأفقد الثقة فيها، لأنها لا تروق لك. وضحكت نوال بقلب طفلة، لكننى أضفت : قد يحق لك الفتوى فى الأشياء التى تتصل بالطب، لأنك طبيبة، أما أن تقولى إن القرآن مجرد كتاب، هنا لا بد من وقفة. القرآن ليس مجرد كتاب
– إمال إيه؟
* القرآن كتاب سماوى مقدس؟
– والشخص الأمى الذى لا يقرأ القرآن، ماذا يفعل؟
* يستفتى قلبه وعقله؟
– بص أنا مش عايزة أرجع تانى للدين، أنت قرأت نجيب محفوظ ولم تقرأ نوال السعداوى، لأن السلطة روجت له من خلال الأهرام، 50 % من شهرة يوسف إدريس بسبب الأهرام والـ 50 الأخرى إبداع، لكن نوال السعداوى لا ينشر الأهرام عنها خبراً حتى اليوم !
* ثم استقام الحوار وعدت أسأل.. ما المعركة التى كسبت فيها أرضاً؟
– كل المعارك، حتى قضايا الحسبة التى رفعوها ضدى كسبتها، والسبب هو هذا الوجدان. أنا عشت فى المنفى 3 سنوات بسبب مسرحيتى” الإله يقدم استقالته “، فتطوع أكثر من محام للدفاع عنى، كثيرون يأتون إلى هنا متحفزين ضدى، وما هى إلا دقائق حتى يخرجوا بعدها أصدقاء مستنكرين ما يحدث لى. لدينا أزمة ضمير، الضمير يُقتل فى مصر مثله مثل الطفولة، والسبب هو الإعلام والصحافة والتعليم والسلطة. إنت مستهين بالسلطة، دا إحنا بلد عبيد، ما زلنا عبيد السلطة لحد النهارده
* ألم تفكرى فى المهادنة؟
– لا
* أشعر أنك فى معركة مفتوحة، لكنى لا أعرف مع من؟
– معركتى ليست مع الأشخاص
* أم هى ضد الجميع؟
– عندما كنت فى المنفى، كنت أتظاهر فى أمريكا وفى لندن، فهل يعنى هذا أننى ضد الناس هناك. أنا ضد النظام الطبقى العبودى. ماذا تعنى العبودية؟ أنك لا تستطيع الكف عن مد يدك. وبالنسبة لى أنا لم آخذ شيئاً من النظام. أنا عايشة على كتبى
* هل تدر عليك دخلاً معقولاً؟
– أنا المفروض أكون مليونيرة، لكن الناشرين يسرقوننى
* من أقوالك: إنه يدخن، لكنه لا يحب رائحة دخان الآخرين. قولى لى.. أين تبدأ وتنتهى حدود الآخر؟
– كلمة الآخر من ضمن ” المودات ” التى راجت فى وقت ما. كل زمان وكل مكان له ” آخره “. أيام الفتنة الطائفية التى فرضت علينا فى عهد السادات ومبارك كان الآخر هو المسيحى، مع أننى شخصياً لم أكن أشعر بأن صديقاتى إيزيس القبطية وسارة اليهودية أخريات بالنسبة لى. الفتنة فرضت علينا منذ أيام الاستعمار البريطانى، والسادات منذ بدأ يأخذ المعونات كرس للفتنة التى فرضتها علينا أمريكا من خلال ما يسمى بالتعددية. أوباما وكلينتون فرضوا على المجلس العسكرى إعادة ما صادروه من مراكز حقوق الإنسان. يا خبر أبيض ! المجلس أخد أوامر من أمريكا بإنه يرجع الحاجة، إذن من الذى أمره بالتفتيش أصلاً؟ ومن يحترم المجلس العسكرى بعد ذلك؟
* هذا يعنى أن اللعب قد أصبح على المكشوف بالنسبة لأمريكا؟
– أنا تصورت أن المصريين كلهم سيخرجون للمطالبة بإلغاء المعونات والتظاهر ضد أمريكا
* هل تشعرين أن المجلس متورط فى شىء؟
– كشوف العذرية، قتل المتظاهرين، الخضوع لأمريكا. وبالمناسبة أنا مرة جاءنى وفد من لجنة الحريات بالكونجرس، هنا فى البيت، لأنى شخصية عالمية، كانوا 5 أو 6 أشخاص، لكنى اشترطت أن يكون اللقاء فى حضور الإعلام. كلمت ” المصرى اليوم ” وطلبت منهم إرسال أحد، لكن الوفد حين عرف بأمر الصحافة رفض اللقاء !
* لماذا؟
– اسألهم. هناك أشياء، وهذا هو السؤال.. ما مصلحة أمريكا فيما تسميه بالديموقراطية؟ هى تعطينا المعونة وتشترط فى المقابل أن تكون هناك ديموقراطية، وهى بدعوى الحرص على الديموقراطية تدخلت لإعادة فتح المنظمات. قبل أسبوع من مداهمة هذه المنظمات وقع أوباما أمراً تمنح أمريكا بمقتضاه واحد ونصف مليار دولار للجيش المصرى، مساعدات عسكرية، و 350 مليون دولار مساعدات اقتصادية بشرط تدعيم الديموقراطية. فكر فى ذلك وتساءل معى: ما الديموقراطية التى تدعمها أمريكا؟.. تفتيت المجتمع ! ما الحريات الدينية التى يريدونها؟.. تفتيت مصر عبر الفتنة الطائفية، لأن أمريكا تعمل لصالح إسرائيل، وبقاء مصر موحدة هو شىء ضد إسرائيل !
* وكيف ترين محاكمة مبارك؟
– مسرحية
* لن يدان؟
– حسب القوة، لو نزلنا بالملايين للتحرير سوف يدان
* وما أصعب معركة دخلتها نوال السعداوى؟
– الصعوبة والسهولة تحددها قذارة المعركة
* مع صافرة النهاية فى زواج استمر أكثر من 40 عاماً من الدكتور شريف حتاتة، هل يمكن اعتبار ذلك معركة خاسرة؟
– لا، لم تكن كذلك. أنا طلقت 3 أزواج
* هل كانت العصمة بيدك؟
– لا يوجد رجل يمكن أن يعيش معى ضد إرادتى. أنا التى تحدد، ولذلك لا أحتاج لمحكمة من أجل الحصول على حريتى. لكن المهم هنا هو أنه لم يخلق الرجل الذى يمكن أن يفرض علىً شيئاً لا أقبله. أبى علمنى ذلك. قال لى: ناقشى ربنا؟ يعنى إذا قرأت شيئاً ولم تقتنعى به، ناقشى إللى قاله، حتى لو كان ربنا. وزوجى عندما يقول لى شيئاً لا أقتنع به، سوف أرفضه، وإذا شعرنا أننا غير متفاهمين ننفصل
* لم يعد هناك اتصال بينكما؟
– هو يتصل بى، لشعوره بأنه أخطأ فى حقى.. تأنيب ضمير
* وأنت هل تشعرين بتأنيب الضمير، بعد التصريحات التى قلتها فى حقه؟
– ماذا قلت؟
* أنك تنازلت له عن شقة فى الجيزة، وأنك آويته بعد خروجه من السجن..إلخ؟
– هذه ليست إهانات، هذه حقائق. هو ارتكب خطأ فظيعاً. ضحكت عليه بنت محسوبة على المثقفين، فى غيابى..
( ثم كررت السعداوى كلمة.. فى غيابى، بمرارة، كأنها تلوم نفسها بأثر رجعى على ما حدث.. الغفلة والطلاق )
* تقصدين أنه خانك معها؟
– لا أحب كلمة خيانة، لكن البنت…هل تعلم أن هناك 10 مليون فتاة بلغت سن الأربعين دون أن تتزوج، هؤلاء يبحثن عن أى رجل، وهذه البنت دخلت بيتى بحجة أنها ستعمل عنى فيلماً وكتاباً وأنا، لأننى طفلة أثق فى الناس بسهولة، وثقت فيها، وفى النهاية حصل ما حصل
* إذن كانت هذه هى البنت التى قصمت ظهر الزواج؟
– نحن انفصلنا ودياً، لم نكن بحاجة لعمل طلاق، لكن هذه البنت كانت متعددة العلاقات، كانت سيئة، وأنا لم يكن لدى مانع أن يكون على علاقة بواحدة نضيفة، لكنه وقع فى مستنقع
* معنى ذلك أنك لا تمانعين الخيانة من حيث المبدأ؟
– أنا كان اعتراضى على أخلاق البنت نفسها، نحن تزوجنا على أساس أننا كُتاب وشخصيات عامة، يعنى يمكن أن تكون له صديقات، طبعاً، ليست هناك مشكلة، وأنا يمكن أن يكون لى أصدقاء، ولكن فى حدود الاحترام المتبادل بيننا كأزواج. الحرية عندى مرتبطة بالمسؤلية. يا ما حبنى ناس..
* أما زلت قادرة على الحب؟
– أنا لا أكبر أبداً، والحب أكبر من العلاقة الجنسية..
* لم تكلمينى عن الحرمان، هل كان له حضور فى طفولتك أو شبابك؟
– لا
* هل أشبعت كل ما تريدين اشباعه فى نفسك؟
– لا أستطيع قول ذلك، ما زال عندى الكتاب الذى لم أكتبه بعد
* هل يصلك انطباع المثقفين عنك؟
– هم ضدى، لأنهم نتاج السلطة
* هم لا يأخذونك مأخذ الجد؟
– لأنهم لا يأخذون أنفسهم مأخذ الجد. كل واحد يرى الآخرين حسب رؤيته لنفسه
* مع من اختلفت من رجال الدين، وما زلت تحترمينه؟
– لا أذكر أسماء
* ألم يحدث بينك وبين الشعراوى أى اتصال؟
– بتاتاً
* والشيخ كشك؟
– بتاتاً، هؤلاء ظواهر سلطة، والذين قالوا لك إنهم لا يأخذوننى مأخذ الجد هم بتوع السلطة. أنت تسمع بتوع السلطة. المثقفون المصريون، نساء ورجالاً، دجنوا
* بم شعرت حين همّ قوم بتجريدك من جنسيتك؟
– أنا لا أؤمن بالجنسيات، جنسيتى هى الإنسانية
* ولم كفروك؟
– ولا يهمنى، كل هذه الأشياء أضعها وراء ظهرى
* ومن من جيلك كان يقاسمك رؤيتك؟
– كتيير
* مثل؟
– أكثر من الحصر
* ولطيفة الزيات..أين كانت تقف منك؟
– كانت صديقتى ودخلنا السجن معاً، لكن بكل أسف هناك تيار من الماركسيين، لسبب ما لا أعرفه، بدأ يعزف على نغمة أن نوال السعداوى تكتب للغرب
* البعض قال، sorry فى اللفظ، إنك عميلة للغرب؟
– لطيفة لم تقل ذلك، لكنها، رغم أنها صديقتى وكانت تعد كتاباً عنى، كما أخبرتى، قالت لإحدى الجرائد: نوال تكتب للغرب ! أصبت وقتها بالذهول
* ألم تمرى على ماركس؟
– بتاتاً، قرأته، لكنى لم أنتم إليه
* عودى معى للحظة التى استقبلكم فيها الرئيس السابق، عقب خروجكم من السجن فى 1981، حين قلت له: فضلت طول الليل أكتب الرسالة دى؟
– لم أقل ذلك
* السؤال عن شعورك به وقتها؟
– شعرت بضحالته من أول لحظة، سطحى وفيه، مثل مجتمعنا كله، شىء مزدوج
* من موقعك كطبيبة نفسية.. هل الازدواجية جرثومة تخص المثقفين فقط أم تخص كل المصريين؟
– تخص السلطة التى تعمل مثل هذا التعليم، نحن تربينا على الخوف. هذه آفة مصر
* وأنت ألم تجربى شعور الخوف؟
– أنا قاومت الخوف، وصلت لمرحلة أننى لا أخاف حتى من الموت، وهذه قمة الحرية
* الموت.. أهو حياة أخرى، أم عدم؟
* أنا لا أؤمن بالموت، أؤمن بالحياة. الحياة تتجدد
* تقصدين معى أنه شكل من أشكال الحياة؟
– بالضبط، ولهذا أعرف أننى لن أموت
* والعجز؟
– لا العجز ولا المرض ولا المنفى، لا شىء يخيفنى. أنا تحررت
* كيف؟
– منذ الطفولة توحدت روحى بجسدى بعقلى فى شىء واحد، وهذا هو سر قوتى، نحن تربينا على الازدواجية والانفصام بين العقل والروح والجسد. هذه الثنائيات استوطنتنا منذ النظام الطبقى العبودى. ورواياتى خرجت من هذا النطاق، ولهذا حلت عليها اللعنة
* أختم بمصر.. هل أنت متفائلة؟
– أنا طول عمرى متفائلة بسبب الطفلة إللى جوايا. الأطفال متفائلون، لأن الأمل قوة. عندما تدخل معركة، حتى لو كانت صعبة، ولديك إيمان بأنك ستكسبها، فأنت تكسب نصف المعركة.