نمر أنيق في غابة هرمة

RAMA GHEETH
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

راما غيث

كانت الزيارة الأولى له بعد سنوات غاب فيها، بين لحظات رن جرس الباب وفتحه؛ سمعت صوت التلفاز المرتفع، تأكدت أنه الجار صاحب الضجيج المؤرق لمنامي كل ليلة، طاردتني فكرة الشجار معه بمجرد أن يفتح الباب، ولكن مظهره الخمسيني الوقور، وبدلته المتألقة محت غضبي، عدت أشعر وكأني تلك الطفلة المراهقة المعجبة بذلك الرجل؛ الذي كان ومازال جذابا ومبهرا، أشار لي إلى مكان الجلوس قائلا بنبرة الأمر:

ـ اقعدي هناك.

ودخل عبر ممر طويل مظلم وكأنه خندق، في الصالة تابلوه مرسوم بألوان خريفية، لنمر ألوانه دافئة، متناثرة أوراق الشجر الجافة حوله، وهو متكئ على جذع شجرة، عينا النمر حزينتان ومترقبتان على عكس ما يبدو من وضع اتكائه، المكان في اللوحة يشبه بيت الجار، الإضاءة هادئة كئيبة، بار في إحدى الأركان مرصوص فيه زجاجات الخمر التي أراها دائما على شاشات السينما، أو خلف فاترينات محلات المشروبات الكحولية، الزجاجات ملمّعة وكأنها كنزه الثمين.

تسمرت عينيّ على سبورة معلقة على إحدى الجدران، فتذكرت جدتي وسبورتها التي أحتفظ بها عندي حتى الآن، وصوتها قائلا:

ـ اكتبي يلا: طرقتُ الباب حتى كلَّ مَتّني، فلما كلَّ مَتني كلمتني، فلما كلمتني؛ قلت لها يا أسما.. عيلَ صَبري.

ابتسمت ولكن سرعان ما تبخرت الابتسامة، وانقبض قلبي عندما تأملت المرسوم على سبورته، فكانت الرسمة أقرب للحفر الدقيق لمسدس وبجانبه جملة مكتوبة بخط أنيق كصاحب الشقة:

ـ النهاية قربت.

لكن هوّنت على نفسي، ربما هو حقق أمنيته التي طاردته عندما كان شابًا وأصبح كاتبا بوليسيا، فهو منذ شبابه يهوى الغموض والرعب، دارت نظراتي على المكان، فوجدت منضدة عليها كوب شاي ما زال الدخان يتطاير منه، ولم يرتشف منه رشفة واحدة، بدأت أشعر بالحرج، ربما زرته في ميعاد عودته، وكان يرغب في استراحة قبل النوم!

ترددت بين الخروج والانتظار، قطع حيرتي صوت عالٍ مخيف، تخلفه صوت ارتطام قوي، هرولت لمصدر الصوت لأجد علبة سيجار مبعثرة، الدم بدأ يجد له مخرجا من جمجمته، من أسفل السرير ظهر طرف شيكارة وكأنها مخبأة.

لم أدرك الأمر وكان الفضول يقودني، لم هذا الأنيق يحتفظ بشيكارة أسفل سريره؟

قطع فضولي الدق على باب الشقة، ما إن فتحت حتى تدافعت الأسئلة من الجيران وحارس العمارة:

هو الصوت من الشقة دي؟

ـ هو فين أستاذ محمود؟

الكلمات توقفت في حلقي، نظرات الوجوم اعتلت ملامحي، فاجتازني أحدهم ليدخل يفتش، وأنا متسمرة في مكاني.

…………………

*فكرة النص نتاج من ورشة منين نبتدي الحكاية، تدريب أحمد عبدالكريم.

مقالات من نفس القسم