عمار علي حسن
جاءني صوته بمطعم الفندق الذي كنا نزيلين فيه، وهو يقول لشخص لا أعرفه: “طه حسين تراجع عن أفكاره. لم يكن جريئا بالقدر الكافي”. كان المتكلم هو الشاعر والمفكر على أحمد سعيد إسبر ( أدونيس) واستفزني القول وكنت قد أشرفت على الانتهاء من طعامي بينما كان هو في البداية، فقمت إليه وكان محدثه قد انصرف تاركا أدونيس وابنته. قدمت نفسي إليه، فقال لي: أعرفك، قرأت لك مقالات في جريدة “الحياة”، وأتابع بعض ما تكتب أحيانا.
كانت بداية مشجعة، وكنت واثقا إلى حد كبير مما سأقوله، فوقتها كنت منهمكا في تأليف كتاب عن طه حسين، قرأت لأجله كل مؤلفاته تقريبا، واطلعت على أغلب ما كُتب عنه، أو كل ما وصلت إليه يداي. وكان أدونيس يستعد لإلقاء محاضرة عن عميد الأدب العربي بعد ساعات قلائل في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، فبدا أكثر استعدادا لسماع رأي مختلف. قلت له: طه لم يغير أفكاره، فالمنهج الذي اتبعه في كتابه “في الشعر الجاهلي” لازمه في مختلف كتبه عن الإٍسلام مثل “مرآة الإسلام” و”الفتنة الكبرى” بجزئيه و”الوعد الحق” و”الشيخان”، لكنه أصبح حذرا في طرح ما يريد، نعم لجأ إلى الحيلة والمداراة، لكنه لم يتنازل.
ربما كان أدونيس ينظر إلى نفسه في هذه اللحظة على أنه أحد وجوه “الحداثة المجهضة” حسب عنوان كتاب الناقد فيصل دراج الذي طبق رؤيته على طه وأدونيس معا، وبدا لي أن إلقاء صاحب “الثابت والمتحول” اللوم على صاحب “في الشعر الجاهلي” يحمل نقدا مستترا للذات، وربما جلد لها، فالسياسة كانت قد اضطرت أدونيس إلى التورط في مواقف وتصريحات لم يكن يدري أنه يتلفظ بها في يوم من الأيام.
أدركت هذا، وأنا أنصت إلى قوله إن طه قد انكسر في هذه المعركة، واضطر إلى حذف عبارات من كتابه، الذي مُنع من التداول، قبل أن يعيد نشره تحت اسم جديد هو “في الأدب الجاهلي”، فقلت له: ربما لم يفزعه الملك فؤاد الذي كان يحرض عليه من خلف الستار، ولا مشايخ الأزهر، فقد اعتاد على الخلاف معهم، ولا بعض الأدباء والمفكرين المحافظين، لكن أفزعه أن يقف ضده زعيم شعبي مثل سعد زغلول، وأن يخسر الناس عموما.
هنا سأل أدونيس: وهل هذا يغيَّر من الأمور؟ قلت له: طبعا، الكاتب حين يواجه حاكما مستبدا يكسب تعاطف الناس، لكن ما عساه أن يفعل إن كان من يهاجمه هو قائد يلتف عموم الناس حوله، ويرفعونه فوق الرؤوس، ويعقدون عليه الأمل في نيل الاستقلال، ويضعون في يده كل شيء، حتى أن الإنجليز حين كانوا يسألون الفلاحين البسطاء عما ينوون زراعته، كانوا يردون عليهم: اسألوا سعد باشا.
ربما أدرك أدونيس هنا أنني أغمز في قناته، إذ كان وقتها يتصدى لضربات تأتيه بلا هوادة من قبل معارضين سوريين رفضوا موقفه المساند لبشار الأسد، ونعتوه بأنه صار نصيرا للاستبداد والطائفية، وبذا أهال التراب على كل ما كتبه عن التحديث والحداثة والتنوير والنهضة، وكل المفردات والمصطلحات التي تعبر عن حياة معاصرة سليمة ومتقدمة، لا يمكن أن تقبل بالدم والتعصب.
لكن أدونيس بدا غير مبال بكل هذه السهام التي تطعنه من كل جانب، فهو يعتقد أن وقوفه مع الأسد هو الخيار السليم إن كان البديل هو الجماعات المتطرفة والإرهابية، التي عاش حياته يناهض خطابها، في نثره وشعره، وفي كل ما يكتبه أو يلقيه شفاهية، وكان يتكئ في موقفه هذا على أن الثورة الشعبية سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية، ثم حرب إقليمية ودولية على أرض سوريا.
عند هذه النقطة، ووفق قانون تداعي المعاني، انتقل الحديث إلى مجال آخر، ليس بعيدا على العموم من مشروع عميد الأدب العربي، وذلك حين قلت لأدونيس: هل تعرف أن هناك ما يجمع بينك وبين طه حسين؟ نظر إليَّ في إمعان، وانفرجت أساريره، فقلت له: كلاكما، قام بجهد وافر وعميق في هدم الكثير مما يعترض الطريق، لكن لم تبذلا الجهد الكافي في البناء. طه حسين تشكك في الكثير، وأطلق ثورة منهجية، وفتح الباب أمام نزع القداسة عن الآراء والأشخاص الذين مروا في قرون غابرة، لكنه لم يقم بالبناء في كتابه “في الشعر الجاهلي” وإن كان قد فعل إلى حد مناسب في كتب أخرى على رأسها “مستقبل الثقافة في مصر” أما أنت يا أستاذ أدونيس فقد بالتمييز بين ما هو ثابت وما هو متحول، لكنك وقفت عند حد لم تتخطاه، وأخذك الشعر ونقده والنثر الأدبي أحيانا من الفكر، وصرت تغضب أحيانا ممن يراك مفكرا أكثر من كونك شاعرا، فلم تضع مداميك أخرى قوية في مشروعك. كما أن كليكما، ورغم الإسهام الكبير لكما الذي تعلمنا منه الكثير، لم تلتفتا إلى مسار مهم وعميق في التراث العربي، كان بوسعه أن يصنع نسقا أكثر قبولا للرد على النسق السلفي.
قال أدونيس: انهزم المشروع المعتزلي في القرن الثالث الهجري بسبب انحياز السلطة السياسية لأهل الأثر أو ما كانوا يسمون “أهل السنة والجماعة”. قلت له: لا أقصد الفكر المعتزلي، فهذا يستعيده بعض المفكرين، ويقذفونه في وجه الماضوية الصارمة، لكنه لا ينفع، لسبب بسيط هو أنه فكر بلا تيار اجتماعي يحمله، وينشره، وينقله عبر الأجيال. كما أن استعارة النموذج الفكري الغربي لا يلقى قبولا لدى مجتمعاتنا، ولا أقصد هنا بالطبع رفض التمسك بالتفكير العلمي والعقلانية إنما النقل الأعمى لكثير من القيم والتصورات والإجراءات المطبقة في المجتمع الغربي، رغم أنها تلقى نقدا في مجتمعاتها الآن، ولا يرى الغربيون أنها تمثل الخلاص النهائي، مثلما يسوقها بعض المفكرين لدينا.
قال أدونيس: لم أطرح الرؤية الغربية باعتبارها خلاصا، لكني أنظر إلى حداثة قامت على العقل، وهذا ما ينقصنا. قلت له: هذا صحيح، لكن الإجابة على سؤال الحداثة في مجتمعنا إن تمت استعارتها كلية من الغرب فإن الناس لن يقتنعوا، ولا أنسى في هذا المقام ما قاله توفيق الطويل من أن أي محاولة لفهم العقل الشرقي بعيدا عن الدين محكوم عليها بالفشل، أو ما أورده زكي نجيب محمود في كتابه “الشرق الفنان”، وما طرحه في كتبه “المعقول واللامعقول في التراث العربي” و”قيم من التراث” و”رؤية إسلامية”.
واصلت: أنا تعلمت كثيرا من كتابك “الثابت والمتحول”، وفيه وجدت أيضا سبيلا لنقد النسق الديني، القائم على الرواية، من داخله، واستعرت من تاريخ العقلانية الإسلامية بعض قدرتك على تفكيكه، جنبا إلى جنب مع ما أهدته إليك العقلية الغربية التي سبقت، وبنت حضارة لا يمكن إنكار عطاؤها الكبير. لكن المشكلة التي تواجهنا هي إقناع الناس، فأنت إن ناظرت سلفيا محدود الرؤية في التلفزيون مثلا، وعبر برنامج شهير يتابعه الملايين، وطرحت رؤية أحلت فيها إلى سبينوزا في الفلسفة أو آدم شميث في الاقتصاد، وواجهك هو برؤية ابن حنبل وكتاب “الخراج” لأبي يوسف، سيربح المناظرة، لأن الناس سيميلون إلى الاسمين الآتيين من قلب تاريخ الفقه الإسلامي، أما لو واجهته بابن عربي أو حتى ابن سبعين فقد تربحه.
قال أدونيس: لكن هاتين رؤيتين قديمتين تتناطحان في زمن حديث أو معاصر، ويعني هذا أننا ندور في حلقة مفرغة. قلت له: أنت تعرف، أكثر مني، أن في طرح ابن عربي مثلا، ما يصلح للإجابة على كثير من الأسئلة الفلسفية لزماننا، والغرب نفسه لم يهجر حكمة الإغريق الأقدمين، ولا يتعامل مع الكثير من عطائها باعتباره بات من تاريخ العلم أو المعرفة.
بدا أدونيس راغبا في الإنصات، وهذه ميزة مهمة نتعلمها من كبار سبقونا على الدرب، فواصلت: الحل الآخر الذي سلكناه، وهو عقيم سقيم، تمثل في الاستعانة برواية سلفية منفتحة لمواجهة رواية سلفية مغلقة. وهذا أغلب ما يقدم ونسميه “وسطية” و”اعتدال” و”تجديد للخطاب الديني”، فالآراء التي يطلقها المحافظون في المجال العام يقتبسونها من كتب قديمة، أغلبها صار من تاريخ العلم ويمثل جله إجابة على أسئلة زمن تأليفها، فيسارع من يتصدون لهم إلى الكتب نفسها، أو كتب من الزمان نفسه، لإيجاد ردود على هؤلاء، وهكذا تتناطح في حياتنا الفكرية، على الأغلب، رؤيتان ماضويتان، واحدة منغلقة متشددة والأخرى أرحب قليلا، لكنها ليست كافية لتسع المطلوب في أيامنا هذه، لا الإجابة على أسئلتنا الراهنة، ولا تلبية احتياجتنا الحالية، ولا الاستجابة للتحديات التي تعترض طريقنا الآن.
بدا أدونيس صبورا عليًّ، وأعجبني أنه يمنحني فرصة لأكمل فكرتي وعلى شفتيه ابتسامة دائمة ليشجعني، وكنت في الحقيقة أريد أن ألقى كل ما في جعبتي قبل أن يفرغ من إفطاره، فهي فرصة قد لا تأتي مرة أخرى، فهو الرجل الذي يشغل العرب منذ نصف قرن بشعره وفكره ومشاغاباته ويرى نفسه في المقدمة والكل يأتي بعده، وهو المرشح الدائم لجائزة نوبل في الآداب على مدار ربع قرن ويستحقها.
سأل أدونيس: إذا كان هذا وذاك لا يمثلان الحل في نظرك، فأي تيار تعلق في رقبته الحل المنتظر؟ أجبت: التيار الصوفي. صمت برهة وهز رأسه متعجبا، فعاجلته: لا أقصد بالطبع “الطرقية” أو الطرق الصوفية فقد غلب الأدعياء فيها الأولياء، وسقط أغلبها في حالة من الدروشة وإعلاء الأساطير في شكل المبالغة في الحديث عن كرامات الأولياء، علاوة على الانتقاع المادي للقائمين عليها عبر استغلال الدين، وتحولها إلى هيئات اجتماعية تعزز الاستبداد من خلال تسليم المريد لشيخه، أو حسب تعبيرهم “أن يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسلة”، علاوة على تماهي الطرق الصوفية في أغلب فترات التاريخ مع طغيان السلطة السياسية. إنما أقصد “التصوف” باعتباره تذوقا وعلاقة خاصة بين الإنسان والله. ففي التصوف من التعددية وقبول الآخر والتسامح وانفتاح التأويل بلا حد، والقطيعة المعرفية مع كثير من السائد عبر نسق متحرر مغاير، علاوة على إعلائه من قيمتي الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي، وهو ما تحتاجه مجتمعاتنا. إن هذا جانب مهم من حداثة أهملناها.
واصلت، أنت تعرف أكثر مني، وكما تعلمت من كتابك “الثابت والمتحول” أننا أخطأنا حين تركنا الساحة لتيار فكري حصر التراث في الفقه والسيرة والتفسير والرواية المنسوبة إلى الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) وأقوال الصحابة ومن جاءوا بعدهم، وتركناه أيضا يتعامل مع تاريخ المسلمين باعتباره الإسلام. بينما مفهوم التراث أوسع كثيرا، فأين البلاغة العربية التي لا تزال صالحة للتداول، وأين المسار الروحي الذي مثله التصوف؟ وأين الاجتهادات الفلسفية التي طرحها العرب، واستفادوا فيها من تراث اليونانيين، الذين بدورهم بنوا على ما تعلموه من الحضارة المصرية القديمة؟ هل يمكن ببساطة أن ننظر إلى شعر المتبني أو تجليات النفري أو صرخات الحلاج باعتبارها شيئا قديما يجب أن ندير ظهورنا له؟
عاد بي أدونيس، وهو الرجل الذكي الأريب يقظ الذهن رغم تخطيه التسعين من عمره، إلى ما قلته عن تيار اجتماعي يحمل الأفكار المحلقة في الهواء، وقال: لكن الطرق الصوفية هي التي تمثل التيار التي تتحدث عنه ضرورة أن يكون حاملا الفكرة، فمن سيحمل صوفية بهذا العمق والنقاء كما تطرح؟ كان سؤالا غاية في العمق والدقة، أربكني في حقيقة الأمر، لكني أجبته: ليس من المستحيل إصلاح الطرق الصوفية الموجودة حاليا، وهناك بالفعل محاولات دائمة لكنها، ومن أسف تبوء بالفشل، والأهم هو خلق تيار صوفي سائل، لا تنظيم له، عبر بث أفكار النسق الصوفي الخالص في المجتمع، عبر التعليم والمؤسسات العاملة على إنتاج الخطاب الديني، والإعلام، وقطعا هناك دور كبير للمفكرين والأدباء والفنانين وعلماء الإنسانيات وبعض قادة الرأي.
كنت هنا أستند إلى دراستي عن الصوفية والعمل العام الذي جاء في كتابي “التنشئة السياسية للطرق الصوفية في مصر”، وتجارب أربعة وأربعين شخصية صوفية كبرى تمثل جميع توجهات التصوف جمعتها في كتابي “فرسان العشق الإلهي”، الذي صار يوزع بشكل جيد في عقر دار السلفية أو الوهابية، وما حاولته في كتابي “مقام الشوق” من البحث عن صوفية لا تقف عند حد التفكير في السماء، إنما تنزل على الأرض لتسهم بقوة في حض الناس على أن يقوم معاشهم على الأخلاق والروحانية، حيث الرحمة والعدل والاستقامة والحرية والكفاية، أي تكون صوفية بلا مشروع للسلطة السياسية.
هز أدونيس رأسه، وقال: هذا مسار طويل شاق، لكنه جدير بالنظر فيه. قلت له: الحقيقة أنا طرحت ما يدور في رأسي على عقل كبير، وأعتقد أن هذا العقل، وأشرت إلى رأسه، لو تناول هذه المسألة فسيضيف إليها الكثير. ويمكن هنا أن نستند إلى ما ورد في كتابك المهم “الصوفية والسوريالية”، فأنت تدرك فيه أن الصوفية هي نظرة إلى اللامتناهي، وأنها تقف عند جزئية الأشياء، ثم يزعم المتصوفة أنهم يطرحون جوابا عن كلية الأشياء، وأن العقل والمنطق هو من يملك الجواب، لأنهما يتناولان الوجود باعتباره مشكلة لا بد من حلها، بينما ترى الصوفية أن الوجود سر، وأن السبيل هو الاتحاد مع هذا السر، لأن في الوجود ما لا يمكن أن نعرفه عقليا أو منطقيا إنما نتواصل معه، ونتوحد به، عبر المحبة. وترى أن العقل يحدد، وتحديد الشيء ينفيه، وحين نخدد الله ننفيه، لأننا نساويه بالأشياء المحدودة.
وواصلت: يمكن البحث عن صيغة عملية لا تجعل التصوف في مقابل العقل، فلكل مجاله، وسبق لطه حسين أن ميز بين مجال الدين، ومجال العلم، في كتابه “من بعيد”، وما نريده من التصوف هنا هو أن يلبي حاجة الناس إلي الدين، فإن طلبوه، وهم لن يكفوا عن طلبه في المجتمعات الشرقية، وجدوا تصورا يختلف عن السلفية بشقيها المحافظ والمنفتح، ووقتها سيكون أمامهم تصورا روحيا وأخلاقيا وخيريا، يحرر الإنسان من سلطان المؤسسة الدينية، ومن ادعاء الوسطاء الذين يقفون بين العبد وربه، بزعم أنهم يعرفون الله أكثر، ويحددون الطريق إليه. هنا يكون التصوف الفردي، بديلا لمشروع ما يسمى “الإسلام السياسي” الذي يعمل طول الوقت على ملء أي فراغ يصنعه الطلب على الدين بين الناس في مجتمعنا، وله في هذا خطاب ظاهر، وله طرق وحيل لا تتوقف، وترفع فصائل منه السلاح في سبيل تحقيق أهدافها.
قال أدونيس: أليس في طرحك هذا تلفيق آخر؟ أجبته، الطبيعة البشرية تجعل الطلب على العلم والدين قائمين في نفس الإنسان، فالأول يخلقه العقل، والثاني تخلقه الروح، وعلينا أن نجتهد في إيجاد صيغة تجعل الاثنين يتواشجان ويتضافران ويعملان معا في داخل النفس، ولا يدخلان في صراع أو تضاد بالضرورة، كما يعتقد البعض، وهذه الصيغة ليست مستحيلة، خاصة أن مسار المسلمين مختلف إلى حد كبير، فالكنيسة عادت العلم في القرون الوسطى بينما نجد أن بعض علماء الطبيعيات المسلمين كانوا في الوقت نفسه فقهاء، نعم لم يسلم العلم من محاربة من قبل البعض، وتم اضطهاد علماء، لكن ذلك قليل إن قورن بآخرين.
قال أدونيس: لكننا في القرون الأخيرة صار لدينا خطاب ديني أغلبه ينفر من العلم بل ويحارب العقل نفسه، وبذا نكون أمام معضلة كبرى. قلت له: هذا صحيح بالطبع، لكن في كتابك “الصوفية والسوريالية”، يكمن بعض الحل، فأنت تضع إطارا فلسفيا لهذه المعضلة، يمكن البناء عليه، لصياغه نسق أو إطار عملي، قابل للتطبيق في دنيا الناس.
صمت أدونيس برهة، ثم عاد يقول لي: ما رأيك لو أقمنا حوارا معمقا حول هذه الفكرة برمتها، ثم نشرنا الحوار في كتاب. قلت له: لا مانع لدي. قال: في الحوار ربما نعمق هذه الرؤية ونضيف إليها، أو نرد عليها، فقد نجدها هي الأخرى قاصرة. قلت: ربما، نحن نحاول ونجتهد، وكل تفكير بشري نسبي، المهم أن نقترب، ولو قليلا، مما يخرجنا من هذا النفق، إلى براح تنوير حقيقي، وليس مجرد استعارة شائهة أو إعادة طلاء القديم، أو إدارة ظهرنا تماما للتراث، ويمكن هنا أن نستعين برؤية طه حسين الذي كان يرى أن القديم جديد ما دام نافعا.
أنهى أدونيس الحوار، وكان قد فرغ من طعامه، قائلا: سأزور مصر قريبا ونلتقي لنكمل النقاش، بما يمهد لهذا الكتاب الحواري، الذي أظنه يفتح أفقا مغايرا، يمكن البناء عليه مستقبلا. قلت له: أنا في الانتظار، وبراعتك في الحوار، التي لمستها في كل ما استمعت إليه منك في لقاءاتك المتلفزة، سيكون لها الدور الأكبر في صناعة هذا الكتاب المنتظر.
حين انتقل أدونيس بعد ساعات إلى ساحة المعرض ليلقي محاضرته، جلست أنصت إليه، فوجدته يتحدث باقتدار وجلاء عن واجب البحث عن طريق مختلفة، لا تقف عند حد طه حسين، وتتعامل مع ما أنتجه باعتباره يحمل كل الإجابات على أسئلة زماننا، إنما تتجاوزه إلى صناعة حداثة عربية أكثر قدرة على إقناع الناس في مجتمعاتنا التي تعاني من خصام مصطنع بين الروح والعقل.
وقتها أدركت أن هذا الشاعر الكبير والمفكر العميق، الذي أثر في أجيال عربية حاضرة، في الشعر والفكر، يمكنه أن يعمل عقله المقتدر، ويفكر في صيغة لحداثة غير مجهضة أو متعثرة.
……………
*نقلا عن مجلة “الثقافة الجديدة”، عدد أكتوبر 2023.