قيس مجيد المولى
انقطعت آخر قطرات من المطر وخرج المنتظرون من السقائف في محطة درسدن، امحت رموز التشويش فوق إعلانات الضوء، أكمل أول المسافرين القدح الثالث من الجعة وحمل حقيبته اليدوية وقبعته وبدأ يبحثُ عن العربة 10C ، رن الجرس للمرة الثانية وبدأ الزحام في أبواب العربات، وبحذر صعد الركاب، كانت الأبواب مطلية للتو وكذا السماء وكانت هناك تبادل رشقات من البرق وتبادل قبلات بين المودعين، سقطت وردة من كتاب كانت تحمله امرأة بساقين طويلتين، كتاب عن السيرة الذاتية ومختارات لجيمس جويس، وما أن استقرت في الكابينة المخصصة لها بدأت بقراءة الفصل الأول من مسرحية “المنفيون” وبعد أن أغلقت النافذة بدأت بالفصل الاخير من إستيقاظ فينغانز، في ذات الوقت وضع جويس نظارته على الطاولة وراح ينتظر فنحان القهوة في كافيه دبلن، رن الجرس للمرة الأخيرة وانتهى العاملان من فحص العجلات بالمطرقة، العجلات الحديدية التي داست على الآلاف من الكيلومترات، وحين ظهرت أول نجمة تشاكست نافذتان، النافذة القريبة من عربة الأمتعة والنافذة التي لاتفتح إلا بمشيئة عامل الصيانة.
مرت قاطعة التذاكر ووسمت على بطاقتين بغرامتين، على الفور دفعا 200 زلوتي، بتسمت المرأة البدينة قاطعة التذاكر، قاطعة التذاكر هي نفسها منذ العام 1964، هبط الليل في المنام ولم تنم المرأة التي قرأت فصلين من إشراقات جيمس جويس، تقافزت الخنازير على امتداد الحقول وكتب تيد هيوز رسالة لسلفيا بلاث ستستلمها حال توقف القطار في منشن كلادباخ، عبر تلك المسافات رتبت مسافاتي الافتراضية وأعدت تشكيل الأمكنة بل توحيدها في مكان واحد بعد أن فارقته زمنا طويلا، ابتسم لي النادل حال دخولي مقهى رضا علوان وأستغربَ خلو كتفي من حقيبتي، في ذات الوقت وفي مقهى دبلن نادى جويس على قهوة إضافية وقطعة حلوى وراح يبحث في حقيبته حين تذكر صديقه عزرا باوند، وبدأ يقرأ ما كتبه عزا باوند لزوجته دوروثي يوم أعتبر مختلا عقليا وأُدخلَ المشفى لتبدأ صياغة جديدة للمخارج، المخارج نحو تدوير الصمت والإنصات إلى العقل الباطن، من المحتمل العودة الى زمن بعيد جدا، قال النادل حين رآني أُديرُ قدحَ الماء نحو الجهات الأربع، وهو يفكر قلت من المحتمل أن يُعدَ لي فنجانا آخر من القهوة مع شريطتين من السكر ، والى الأن وبعد سنتين وأنا ما زلت أنتظر ظهور نصوص التباين على شاشة كئيبة في ركن مهمل في حانة الباب الشرقي أنظر الى الحصان الذي ربط قرب نافذة الحانة وهو يتبول كلما نظرت اليه ، اقتنعت ظاهريا بأن كل شيء سيسير على مايرام وستتوحد المخرجات حال وصولي الى صفحات أخرى ترجمتها للتو كانت نصوصا متفرقة لتيد هيوز، مرت عربة تحمل رجالا ببدلات أنيقة تبعتها عربة تحمل نسوة بألبسة حفلات ،ومر جوق موسيقي يعزف أناشيد جنائزية، في ذات اللحظة توسعت الفراغات بين مدن العالم فأسرعتُ لبائعة السكائر، حاولت أن أتذكر نوع سكائري فكرت فركت بأصابعي مقدمة جبهتي لكن عبثاً فقد زاحمت أفكارٌ أفكاري حد نسياني للون بنطالي ومعطفي وقبعتني ، رمقتني بائعة السكائر وأدركت ما أعنيه وناولتني سكائر متفرقة كعادتها، لحظتها اشتهيت أن أعيد ترجمتي لنص هيوز وأحفزه على البكاء، عدت أعبث بالقدح الذي أمامي وأكرر دورانه نحو الجهات الأربع ومثل بائعة السكائر انتبه النادل لي مرة أخرى وأخذ يفكر وقال: وماذا بعد،
نعم وماذا بعد ..
كُتبت على الشاهدة سطرين من نص للشاعرة التي انتحرت تواً، وتوا وصل ساعي البريد وأعاد الرسالة الى حقيبته،
الحقيبة الصفراء المتخمة برسائل اليأس والشؤم.
طلب شايا بالليمون وراح يتأمل الصورة الزيتية لمحطة القطار الجليس الذي بادلني إبتسامة غامضة،عالجته بنظرة عجالةٍ وقلت له أن الموت يجعل محطات العالم متشابهة في اللون والبنية والرائحة ، أكملت المرأة مابقي من مختارات جيمس جويس وهي الأخرى رأت أن المحطات متشابهة في جميع مدن العالم وأن الموت واجهة لتلك المحطات بل وأكمل عزرا باوند مابقي من متشابهات لهذا التوصيف.
حين هدأ المطر وبدا بالإنقطاع لم أجد قبعتي ولا معطفي ولاحقيبتي إذ سبقتني أشيائي وأتجهت نحو القطار في اللوحة الزيتية ، تركت قهوتي وأهتديت الى فكرة تسمية القدر بأسماء أخرى وحين خرجت من المقهى مقهى رضا علوان إتجهت الى خمارة الباب الشرقي واحتسيت ماوضع أمامي
في ذات الوقت لَمَ جويس جريدته ووضعها في جيب سترته ووصل الى بدايات الطريق الطريق الذي يؤدي الى مقبرة
( Glasnevin Cemetery) وأستمر باوند في متابعة فلم السهرة (شظايا الشهقات الأخيرة ) ، لم يكن السؤال عن ماذا بعد يطرق أسماعي بعد أن أعتمرَت بخلية نباتية من الأفيون ورقدت فوق السرير الذي سيوصلني قريبا الى المشرحة .