ومن بين هذا الانتاج الروائي الغزير، كانت كتابة المرأة بارزة بروزاً ملحوظاً فدخلت هذا السباق أسماء عديدة، منهن من مارسن العمل الابداعي لزمن طويل مثل الكاتبات سلوى بكر ونعمات البحيري وابتهال سالم وهالة البدري ونجوي شعبان وميرال الطحاوي ومي التلمساني وغيرهن، ومنهن من دخلن الكتابة الروائية لأول مرة وبحذر مثل منال القاضي وصفاء عبدالمنعم وسهير المصادفة وميسون صقر ونجلاء علام وغيرهن رغم إن الاخيرات مارسن أنواعا أخرى من الكتابة القصصية أو الشعرية، لذلك كان حقل الرواية جديدا عليهن، فجاءت الكتابات مختلفة، ومتنوعة.
ومن بين الكاتبات الجديدات للرواية صدر للكاتبة نجلاء علام رواية جديدة بعنوان
” نصف عين” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وكان قد صدر لها من قبل مجموعة قصصية بعنوان” أفيال صغيرة لم تمت بعد” ، وكتاب يعد رائداً في مجاله، وهو عن مجلات الأطفال وتطورها ونشأتها في العالم العربي.
وأزعم أن روح القصة القصيرة ظلت تتابع كتابات نجلاء علام في هذه الرواية لتترك أثراً ملحوظاً في بناء الرواية، حتى كثافة الجملة، وتدافعها، والنبرة الحادة، وجماليات الاختزال الملحوظة.
لذلك نستطيع أن نقول: إن الرواية تكاد أن تميل أو تصنف تحت باب (رواية الأصوات) إلا أن الكاتبة أرادت لروايتها نصف عين أن تخرج وتنحرف عن هذا التصنيف نسبياً، عندما بدأت الرواية بفصل يبينه، ويصيغ أحداثه وشخصياته راو عليم، ليتحدث بضمير الغائب: ( هل كانت تدري وهي جالسة أمام تلك الساعة، التي يصر عصفورها الصغير بين حين وآخر على الخروج من مكمنه، واخراج لسانه بصوصوة حادة – منبها – تُضحك الصغار وتُفزع الكبار، هل كانت تدري – وهذه البنت الصغيرة، الجالسة علي ركبتها تطلب حكي الحدوتة في تمسك وبراءة – أنها حين تنظر لعينيها اللامعتين، ستري عيون أختها وترتعب (
وربما يكون هذا المفتتح الذي احتل صدر الرواية، كاشفا عن الشخصيات الأساسية نور وشقيقتها أو توأمها ليلي، وابنة الأخيرة لبنى)، هذه الشخصيات التي لعبت دورا محوريا في أحداث الرواية من جانب، ومن جانب آخر فهي شخصيات درامية، تمسك بتلابيب أحداث الرواية من أولها إلى آخرها، ولذلك فسنجد الشخصيات الثلاث تبدأ بهم الرواية، وتظل فاعليتهم موجودة حتي نهايتها.
ومن خلال هذا الثلاثي تتوارد الأحداث والوقائع التي تبدأ بطلب لبنى، أن تحكي لها خالتها نور الحدوتة، وتسترسل نور توأم أم لبني في حكايات صغيرة ومتنوعة، ولكن لبنى تتوقف عند تفاصيل صغيرة، وعلامات قصصية معينة، تدفع نور لتبدأ حكايات متعددة.. فعندما تتوقف لبنى أمام جملة أنا لوحدي مفيش حاجة .. أو كيف تسيرين وحدك هكذا باتزان؟! .. بتوقيع نديم.. أو جملة ابتسمي دائما في الصعاب .. بتوقيع حمادة.. تستثمر نور هذه الأسئلة في الكشف عن هذه الشخصيات، التي تعتبر كجزء من ذاتها ومن تاريخها ومن ماضيها.. فحكايات حمادة، هي حكايات نور أو حكايات كاشفة عن جزء من ماضيها، هنا لا نعتبر حمادة آخر بقدر ما هو مرآة نوعية لذات نور .. عندما كانا يبيعان بضاعة شبه مغشوشة، أو ليست أصلية.. فيطاردهما البوليس، وفي هذه الحكاية يتضح جمال السرد عند نجلاء علام لسرعته وكثافته وتوتره.. وبأقل الكلمات تنجح علام في كشف مساحة حسية وملتهبة من تاريخ نور.
بعد الفصل الأول الذي بدأت به الرواية بضمير الغائب، يأتي الفصل التالي بصوتي: فايزة/ عبدالراضي .. فايزة هي أم نور وليلى، وهي من الشخصيات ذات الحضور القوي، ورغم أنها تعتبر غائبة في الرواية، فتأتي أفعالها وكأنها تنطلق من منطقة ما في الماضي، فحضورها الروائي، لا يعني حضورها الفعلي، ولكنها شخصية محورية، تعطي تفاصيل وملامح واضحة للشخصيات الأخري، فرغم أنها تزوجت من عبدالراضي، وهو والد البنتين، إلا انها ظلت وكأن البنتين/ التوأم ينتميان لها شخصيا، أكثر مما ينتميان لأبيهما، لتزرع فيهما قسمات شخصيتهما، هذه القسمات التي ظلت تلاحق البنتين/ التوأم حتى بعد أن كبرتا، وتتعرف علي فايزة من خلال الأفعال التي ترسمها لها الكاتبة، وليس من خلال وصف استاتيكي كما عندنا في الكتابة التقليدية! (قمت فردت اللحاف في الشمس علي الشباك، جلست علي الكرسي.. وأمسكت بخيوط الصوف التي أصنع منها طاقية له، وكلما أكملت سطرا رفعت رأسي ونظرت عليه (
وتؤكد الكاتبة بشكل موحِ، وليس صريحا علي قسمات فايزة في الفصل التالي الذي يحمل عنوان: فايزة/حسن .. وحسن هذا هو الزوج الثاني بعد وفاة عبدالراضي، وتبدو هنا فايزة كأنها الحارس الوحيد والقوي للبنتين، رغم أنه لا يوجد ما يشكل أي أذي تجاههما من قبل حسن، فعندما يأتي أحد الأشخاص لخطبة نور تنبري الأم لتتصدي لحسن بشراسة، فيتراجع بسهولة المندهش.. ثم ترحل الأم بعد ذلك لتترك فراغا وجدانيا عند البنتين، وتترك ملامحها وأفكارها وشخصيتها كاملة تتجول فيهما.
ويبدو أن الرواية التي يستغرق زمن أحداثها ثمانية وأربعين ساعة، أنها دائرية، فليلى التي تزوجت سعيد، والكاتبة تتقصي علاقة الأثنين منذ طفولتهما، فصباهما، حتى تزوجا، وسافرا إلى الكويت وتوفت هناك أثناء غزو صدام حسين للكويت، وترسم الكاتبة مشهداً من أجمل مشاهد الرواية، من حيث الحركة التي برعت علام في تصويرها وتجسيدها: (حملها.. وهي تنتفض.. وأراحها علي الكنبة الخلفية.. جسدها يرتعد.. وعرق غزير يتصبب من وجهها وكفيها.. مسح علي وجهها.. فلسعته حرارتها، حمل لبنى وجري يبحث عن طبيب وسط العربات الزاحفة على الرمال.. في بطء وبين الماشين علي أرجلهم.. وجرى إليها.. كانت نائمة ومسترخية.. الخ .. وهكذا تحاصر نجلاء الحدث بهذه السرعة وهذه الكثافة اللذين يأخذان أبعاداً جمالية في السياق العام للرواية.
جمال هذه الراوية يأخذ شرعيته الأساسية من الارتباط الوثيق بين الشخصيات والأحداث في المكان والزمان، وقوة تجسيده لكافة هذه العناصر روائيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة الراية القطرية ، بتاريخ الثلاثاء : 31 أغسطس 2004 م .