لم أمت يوم مات بورخيس، ولا بعد هذا اليوم أنا الذي التهمتني وسوسة الموت، وأقضت مضجعي، وأحالت ليلي نهارا أقضيه متقلبا في فراشي، أو قارئا في كتاب.. اعتبرت، يومها، أن العظيم بورخيس قد فداني بروحه، وأنه آثر أن يذهب بعيدا إلى جنته: مكتبته البابلية التي حلم بها، وتركني لأحلم، بدوري، بمكتبتي الخاصة: جنة كتبي التي أراكمها من خلال شرائها جديدة وبالية، ومشاريعي الروائية التي أخطط لها، وأتوق إلى إنجازها..
مات بورخيس.. ونعاه العالم يومها..
ولم أمت.. غير أني كنت قد خرجت يومها من غرفة العمليات بالمستشفى الإسباني، وأنا منهك القوى تخامرني وساوس النهاية.. تلك الوساوس التي سكنت روحي سنتين كاملتين.. سنتين ضاعتا من عمر دراستي.. من عنفوان حياتي.. أمضيتهما حبيس البيت.. حبيس ركني الأليف منه.. لكنهما كانتا أشد غنى من كل سنوات عمري السابقة بما قرأت خلالهما من كتب، من أعمال خالدة وروائع لا تُنسى..
حقا كان ألم الجسد، ومعاناة الروح شديدا الوطأة، لكني لم أمت، يومها، كما أوحت إلي نفسي الموسوسة.. بينما مات بورخيس العظيم الذي فداني بروحه.
مات بورخيس يومها ولم أمت. فهل ورثت منه شغف الكتب، ومتاهة بابل، وفتنة التأويل، ومتعة الحكي؟
…………………………………..
حلم ياسر
ربما كنت أحلم غارقا في نومي، وربما كنت بين اليقظة والنوم، أو كنت مستيقظا تماما، وأنا أسمع في تمعن ما يقوله ابني ياسر. كان يحكي لي عن زيارته، صدفة، أثناء رحلة جامعية –وهو الفتى الذي لم يصل بعد مرحلة الدراسة الجامعية- منزلا كبيرا: فيلا شخصية هامة، لا يعرفها، ولم يلتق بها من قبل، كما أنه لم يسمع بها، وحتى إن سمع بها غاب اسمها طي النسيان.
جال ياسر صحبة رفقته من أساتذة وطلبة في جنبات البيت المؤثث على الطراز الرفيع.. أبهرته جدرانه المغطاة بالكتب في نظام دقيق، وبشكل بديع، كما شغفته كثرة الشهادات والميداليات والجوائز التي نالها صاحب البيت. وأُعجب أكثر بحديث صاحب البيت الذي انساب في كلام شيق شمل التاريخ والأدب والفكر والسياسة.. ورتع بين القديم والجديد.. وبين الأدب العربي والأدب الفرنسي.. ومضت الساعات دون أن يمل أحد الحاضرين من حديثه.
كان صاحب البيت رجلا كهلا.. وخط الشيب شعره.. لا تفارق نظارتان سوداوان عينيه حتى داخل مسكنه.. يتحدث بصوت جهوري.. يعيد الجملة.. ويكرر المعنى بأكثر من صيغة في تدفق مدهش.. ووجهه طلق المحيا..
كان ياسر مسترسلا في حكيه عن رحلته، وعن لقائه بطه حسين هناك في أرض الكنانة.. وعن معرفته بأنه كان أديبا ووزيرا وشخصية ملأت الدنيا وشغلت الناس.. وكان يبدو سعيدا لأنه جلس في فيلا الكاتب (الرامتان) وهو يستمع في اندهاش إلى حديثه.. ثم عبر عن رغبته في قراءة كتبه، لمراسلته ومحاورته فيما احتوته.. قلت له:
-مات طه حسين، يا ولدي، منذ أكثر من أربعين سنة.. كنتُ طفلا حينما عرض التلفزيون مشهد جنازته المهيبة سنة 1973.. فهل ما ترويه حقا؟ وكيف ستراسل وتحاور رجلا مات من زمان؟
أخرج ياسر هاتفه النقال، وضغط على بعض أزراره، وقربه مني:
-انظر.. هذه صورة لي مع طه حسين.. وبعدها تجد صورا أخرى ضمت أعضاء رحلتي الجامعية مع الكاتب وزوجته.. وأنا بينهم بالطبع.. فكيف تقول إنه مات، وهو الذي طلب منا أن نهتم بأعماله وأن نحاوره فيها دون كلل ولا ملل؟
أخذت أتملى الصور في استغراب واندهاش. كانت، فعلا، ناطقة بصدق ياسر، وآمنت أن طه حسين لم يمت بعد.