نحو الجنون لمنصورة عز الدين..مواجهة الوهم

نحو الجنون لمنصورة عز الدين..مواجهة الوهم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تنشئ مجموعة منصورة عز الدين القصصية (نحو الجنون)* عبر إحدى عشرة قصة قصيرة علاقة توجس مع العالم وتبني شعوراً خاطفاً بمواجهة الذات التي تبدو غريبة حائرة، إنها رياح الجنون وقد فُتحت أمامها أبوابُ القصص وها هي تتحرّك بمشيئتها، تغيّر الملامح وتبدّل الأحوال وتعدّل التفاصيل فهي تتحكم بمجريات القصص ومصائر شخصياتها التي يقيّدها منذ البدء شعور بالخوف "خوف بدائي عميق يسكنها منذ الأزل. هي دائماً خائفة، ثم تبدأ تالياً في اختراع الأسباب"، كما في قصة (جنيات النيل)،آخر قصص المجموعة، فبين الشعور بالخوف واختراع الأسباب تتشكل عوالم المجموعة وتنتظم قصصها، فلكلِّ قصة شعور وسبب يختلفان عن شعور باقي القصص وأسبابها، الشعور في المجموعة بدايةٌ، علّةٌ، إيعازٌ خفي، إشارةٌ فجائيةٌ غيرُ مدركة، والسببُ آليةٌ وتمثّلٌ وانتظامٌ يُحدّد مسارات القصص ويُضيء عوالمها، سيتجلى الخوف حدساً كما في قصة (ليل قوطي)، يشعُّ في صمت السرِّ وتكتمه، منتقلاً به من محاولة ادراك العالم إلى التيه فيه، تيه سفر يتقرّر كأمر قدري يتعدى مصير الفرد نفسه ليحكم المدن ويحدّد مسارات أناسها أمام عيني الراوية التي سريعاً ما ستنزلق إلى الحدث الذي تتبني روايته فتُصبح بعضاً منه، مأخوذةً بحدسها هي الأخرى. "وفي الحال رأيت مدينته المبتغاة بشوارعها الشاحبة، رماديّة اللون، لم يكن هناك ألوان سوى الرمادي الذي يغطي معظم المكان، وبجواره، على استحياء، الأسود والأبيض. بشر كثيرون يسيرون في الشوارع الباهتة ببطء مرتدين مسوحاً داكنة ناظرين إلى نقطة ثابتة أمامهم. هدوء ثقيل يخيّم على كلِّ شيء، وهو هناك يسير متنكراً بشرود، وأنا خارج المشهد أتلصص عليه بقلق"، سيغدو التلصص بإيعاز من الخوف، علّةَ القصص وإشارتها، مشاركة وتورطاً، "وجدتْ نفسها في مطار فخم لمدينة أجنبية، معها زميلان، كأنهم جميعاً في رحلة عمل"، إنها جملة الافتتاح في قصة (مطر خفيف)، أولى قصص المجموعة، وهي الجملة التي تُنشيء علاقة التوجس وتقترح تجسدات هذه العلاقة، فليس ثمة مقدمات واضحة تنظم حركة العالم وتحكم منطقه، بل هو حضور فجائي تحكمه الحيرةُ ويغذّيه خوفٌ غيرُ مفسّر، الخوف الذي يمكن عدّه مادةَ القصص وطاقتها المحرّكة، فالتوجس الذي يرتّب الأفعال ويربط مجريات القصص تفعّله طاقةٌ من الخوف تسري على نحو شبه صريح في القنوات الداخلية للقصص، خوفٌ أقرب إلى البديهة يتصاعد مثل ضباب مشوّشاً الحواس محفّزاً قابلياتها للخوض في غرابة ما تروي، من دون أن يكون ثمة تناقض بين فعلي (التشوش) و (رواية القصص)، فالغرابة تظلُّ بحاجة لسبل مبتكرة لترقّبها وتأمّل تفاصيلها. ستمتلك (كأنهم) في جملة الافتتاح موقعاً مؤثراً بين المفاتيح اللغوية للمجموعة، فليس ثمة شيء يقيني مؤكد، أحداثٌ تُروى على سبيل التشبيه، ووقائعُ تتشكّل، إنها قوّة الكناية التي تمنح القصة مساحةً فاعلةً لإعادة انتاج العالم وتدوين تفاصيله كما تتوجسها القصص، حيث لا عالم قبل عالم القصة ولا عالم بعده، إنما هو ( جوهر الصورة) الذي يتحدّث عنه هيدغر، ذلك الذي يرينا العالم اليومي غريباً، فالصورة، بذلك، "ترينا اللامرئي" أي الغرابة، ولغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة وأكثر وضوحاً" (1)، وهي التجربة التي تشكّل نفسها كما لو كانت تحاكي عالماً قديماً لم يتجسّد بعد. ثمة رحلة تتجاوز (رحلة العمل)، وحياة تتواصل بإيقاع مختلف، ولغات غريبة، عناصر قليلة كافية لخلق شعور بتوتر الشخصية وهي تتابع النظرات (القلقة) لزميليها، كانا مرتبكين مثلها (كأنما) يتجاهلان وجودها، لكنهما للغرابة يختفيان عن مجال بصرها، وللغرابة لا يشعرها اختفاؤهما بالخوف والاندهاش. ثمة وحدة مطبقة تهدّد الشخصية كما لو كانت قدراً، " إن ما أعيشه ليس العزلة، وإنما الوحدة" (2)، ذلك ما يقوله مارتن هيدغر في حديثه عن غابته السوداء، وهو عين ما تعيشه شخصيات (نحو الجنون) من قصة إلى أخرى، كأن الوحدةَ اليقينُ الوحيدُ النادرُ في مجمل القصص، فعلى الرغم من نشدان الحياة وانتظار الآخر، ترقّبه وترصّد خطواته، فثمة شعور كثيف بالوحدة يضيء علاقة التوجس التي تحكم العالم وتجعل الخوف مسوّغاً قائماً وإن لم يكن مفسراً.

ليس عالم القصة وحده يحاكي عالماً قديماً، بل القصة نفسُها تموّل نفسَها بقصة قديمة، ذلك ما تؤديه (مطر خفيف) وهي تستعيد قصة (لقاء في دائرة حمراء) لخوليو كورتاثر بما تؤديه المدينة الألمانية فيسبادن من جسر ربط وآلية استدعاء بين القصتين اللتين تغذّيهما المخاوف، “بفضل العزيز كورتاثر، تحوّلت المدينة، في مخيلتها، إلى بقعة خرافية مسكونة بأشباح تجاهد لإنقاذ ضحايا محتملين من براثن قتلة باردي الأعصاب”، ما يهمُّ هنا ليس حضور القتلة باردي الأعصاب بل الضحايا الذين ستحيا الشخصية احتمال أن تكون بينهم، فالجنون المستور في قصص المجموعة، المصرّح به في عنوانها، يتفجّر جرّاء عتبة شعور طويل تعيش الشخصية خلاله توجّس الضحية المقبلة، ليس مخاوف العالم الغريبة وغير المفهومة ما يقود قلقها، بل احساس الضحيّة التي ستغدو تفاصيل القصة معها خارطةَ عالمٍ غريب له من القِدم ما يمنحنا الشعور بأننا عشناه مرّاتٍ من قبل، مثلما له من الجِدّة ما يجعله عالماً وليداً لم نره من قبل، وهو ما يزيد مخاوفنا ويُربك أحاسيسنا فبين القِدم والجِدّة تتجلّى المعرفة مهدّدةً بالجهل والحيرة واللايقين. بحثاً عن فيسبادن، المدينة الألمانية التي ينبغي على الشخصية أن تذهب إليها من دون أن تعرف لماذا عليها الذهاب، وماذا ينتظرها هناك، إنها تواصل خطواتها بحثاً عن أقصر الطرق للنزول إلى لحظة الشعور التي تتسع مثل حفرة معتمة مفضية إلى مجموعة من الممرات المعدنية المتقاطعة، لن تُدرك الشخصية ” كيف وصلت إلى هذه النقطة رغم اتباعها علامات ارشاديّة”، العلامات نفسها تمضي إلى تيه يغدو غابةً من الممرات ” ولا من شخص آخر في هذا الفراغ”، إنه التمثيل الأكثر ضراوة للجنون، الشخصية تنزل إلى قاع اللحظة المعتمة، حيث النزول نفسه يُصبح مادةً لتلاشي المكان الذي أسسته القصة وهي تمضي مؤقتاً نحو اللامكان، تغيب محطة القطارات لتجد الشخصية نفسها “في مخزن عتيق، شبه معتم، ومزدحم بالخردة والروبابيكيا. وصلها صوت اطلاق نار ورائحة حريق، كأن العالم بأسره يتفحّم ويحترق في الخارج”، إنه عالمنا، إذن، بعتقه وعتمته وخردته، بزحامه واطلاقاته، يحترق ويتفحّم. تعبر القصة خطاً أسود ـ أتصوّره فحمياً ـ فاصلاً بين عالمين يربط بينهما الخوف، خوفٌ تتبدّل طبيعته وتتغيّر هيأته لكنه يظلُّ متحكّماً في العالمين، “لست في قصة كورتاثر، بل في الحياة الواقعيّة”، إنها تحدّث نفسها من دون أن تغيّب جسر المخاوف الذي أعادها من قبل للقصة السابقة، لكن “المطار والمتاهة المعدنيّة صارا جزءاً من واقع آخر مراوغ”، لتتعدّد العوالم في مخاوفنا، تنشطر وتتناسخ، فتتأسس القصة على ثلاثة عوالم يمكن تنظيمها ابتداءً من عالم قصة خوليو كورتاثر، مروراً بمطار المدينة الأجنبية، وصولاً للعالم (الواقعي) الذي تكون المدينةُ القديمةُ فيه “بأكملها دائرةً حمراء تعجّ بأناس يهتفون بغضب، يحاصرها رجال عنيفون بأزياء رسمية داكنة”. لكنها المدينة التي تشهد التغيّر الأساس في القصة، فالشخصيّة تغادر وحدتها لتمضي إلى شعور بالمشاركة تعيش خلاله ذروة انفعالاتها، ثمة حشد تغدو داخله نقطة في نهر، ذرة رمل في صحراء شاسعة، من دون أن تغادر فرديتها على نحو كامل. إن الانسجام مع المحيط سيُعيد الشخصيّة طفلةً لاهيةً بعينين متسائلتين، لتنتظم حكاية الطفلة داخل السرد القصصي جملةَ ارصاد تُضيء قادم السرد بعد أن يعثر الأهل عليها فاقدةً الوعي ومصابةً بضربة شمس، إنها الآن تتعثّر بفوارغ قنايبل الغاز حيث العربات المجنونة تدهس العشرات، والشظايا المطاطيّة تخترق الأجساد. ستُغمض عينيها لتستريح وتغدو جميلةً كما لك تكن من قبل، جميلةً كفكرتها عن الجمال. ليكون الجمال، بذلك، منقذاً من ضراوة العالم، من وحشته وقسوته وجنونه، وهو يُقترح وطناً لا نهائياً لمواجهة لوعة الروح وأوجاع الجسد. إنه الخيار الذي تجترحه (مطر خفيف) مقابل جسامة الوقائع وعنف تفاصيلها.

ترتبط قصة (مطر خفيف) ارتباطاً مباشراً بقصة (مارين)، ثالثة قصص المجموعة، حتى لتعدّ قصة مارين المكتوبة في مارس من العام 2010 عتبةً للقصة الأولى المكتوبة في الشهر نفسه من العام 2012، على ما بينهما من مساحة زمنية بأحداث واسعة وتحوّلات تعمل القصة على كشف آثارها وفهم متغيراتها، فالشخصية التي تنهض برواية قصتها مع مارين المكلّفة باستقبالها وتوصيلها إلى الفندق في المدينة الغريبة تعلن تابعيتها مع افتتاح القصة وانشدادها لشخصية مارين التي “أشاحت بوجهها بعيداً عني، واستدارت مغادرةً، كدت أتشبث بمعطفها الرمادي الطويل، كطفلة تتشبث برداء أمها. تغادرني مارين ببطء، وعيوني تتعلّق بها أكثر”، إن الطفلة التي تواصل سيرها ملاحقةً مارين في القصة الثالثة لن تكون سوى طيف مستعاد وذكرى بعيدة للطفلة في القصة الأولى التي استُحضرت جملة ارصاد وتنبؤ عن مصير الشخصية واشارة لراهنها، مثلما تكون عوالم القصة الثالثة بمختلف عناصرها، البار المعبق برائحة التبغ والكحول، والموسيقى الغامضة المنبعثة بقوة، والممر الذي يطول أكثر مما ينبغي، والباب المؤدي إلى مدينة أخرى هي نسخة باهتة من المدينة الأولى، علامات شبحيّة للوصل إلى المدينة الأم في القصة الأولى، ثمة جموع بشريّة في القصتين، تحجب مارين عن الراوية، تزيد من تيهها في وقت تعجز فيه عن النطق، تقابلها في القصة الأولى جموع تلتئم في الشوارع وتتفرّق تحت ضغط الهجوم ثم تعاود الالتمام قبل أن تعدو هاربةً من العربات المجنونة التي تدهس العشرات، وقنابل الغاز والشظايا المطاطيّة التي تخترق الأجساد، مارين تعاود النظر في ختام القصة قبل أن تعود لخطوها العابث، “ثواني معدودات لكنها كافية كي أبصر في وجه مارين الشاحب قلقي، وفي تعبها ارهاقي وخوفي”، لكن الشخصيّة في ختام القصة الأولى تحقق ذاتها وتحقق خلاصها فتغدو متبوعةً بخطوات ذات رنين معدني، “استدارت فلم تجد إلا الفراغ. الرصيف المبتل بماء المطر انعكست عليه اضاءة المصابيح فامتدّ برّاقاً”.

بين (مطر خفيف) و (مارين) عامان من المخاوف والشرور، طريق واسع قطعته الشخصية وهي تعاني في سبيل انفصالها عن متبوعها لتُنصت بما يشبه الحلم لإرادتها وتغادر هواجسها، لكن المخاوف تحافظ على الرغم من ذلك على هيمنتها وقوة حضورها، تتنوع مظاهرها وتتعدّد وجوهها مع تنوّع القصص وتعدّد موضوعاتها، لتظلَّ السمة المؤثرة في حقل منصورة عز الدين السردي وهي تواصل عملها في القصة القصيرة والرواية، وعلامته الفارقة التي تجد في مجموعة (نحو الجنون) حضورها الأوفى مانحةً القصص أرضاً صالحة لبذار الهواجس وحصاد الجنون، البذار التي تبدو أحياناً قريبة من سطوح القصص فتُنتج نصوصاً أقرب إلى الواقع بوضوحه وانتظام علاقاته وصولاً للحظة الفاصلة، لحظة تجلي المخاوف وانكشافها فيغدو وضوح الواقع غموضاً وانتظام علاقاته قلقاً وارتباكاً يقود الشخصية للعودة إلى شعور فرديتها والنزول إلى بئرها الخاصة، إلى عتمة هواجسها، مثلما تؤَسَس قصصٌ أخرى على مبدأ نقض الواقع وهي تمضي بعيداً في الحكاية وافتراضات عوالمها، الفئة التي  تقع (ليل قوطي)، ثانية قصص المجموعة في قلبها، وهي تكثّف ليل المخاوف الذي يلتهم مدناً ويغيّب عوالم ويقود أناساً على نحو مبهم لمصائرهم، فثمة سبب غير معروف يدعو للسفر، ووجهة بعيدة تنتظر، ومدينة لم يُسمع بها من قبل تنادي، إنها النداهة التي تحافظ على حضورها الخاطف في العديد من القصص، مدينة لن نعرف عنها أكثر من أن “حروف اسمها تؤدي إلى الانقباض والحيرة”، لكن الأهم في ذلك أن يكون السفر إليها ” كأمر قدري مقرّر سلفاً”، وهو ايعاز القدر الذي يتكرّر كما لو كان يداً قاهرة توجّه الوقائع وتعيد بناء التفاصل، تغذّيها، على نحو دائم، بشعور الوحدة والقلق الذي يحافظ على ابهامه حتى نهايات القصص التي لن تعتمد لحظة اضاءة تجيب عن أسئلة القصة وتكشف أسرارها، إنما تعمل على مطابقة افتراض القصة القصيرة وإدامة فتنتها وهي تقارب بين عالمي الراوي الغريب، المسافر غالباً، وعالم المروي له، المترقّب والمقيم، وتجمع بين مدينتيهما في مدينة خوف واحدة لن تختفي في قصةٍ إلا ليُعاد بناؤها في قصة لاحقة، لتكون المدينتان، مدينة الراوي ومدينة المروي له، وليدتي حكايتين تشهدان تباعداً وانفصالاً مع افتتاح القصص وتعيشان تطابقهما مع نهاياتها، الأمر الذي ينسحب على الشخصية نفسها وهي تتلبّس صورة ما تخشى وتخاف لتجد في القصة مساحةً للتعبير عن خشيتها وكشف مخاوفها من دون أن تعلم أن تعبيرها هو طريقها للذوبان في ما عاشت طويلاً تتجنبه وتهرب منه. لن تكون المخاوف عندئذ صورةً شبحيّةً عابرةً ووساوسَ دفينةً، إنما ستكون الشخصية نفسها نتاج مخاوفها، فما نحن، في الأخير، سوى صور مخاوفنا، إنها هاوية فردريك نيتشه التي تنظر لنا بدورها كلما أطلنا النظر إليها (3). تحوّل كلاً منا إلى هاوية شخصية تأكل وتتنفس وتكتب القصص. إنه مجال الصلة بين القصة والجنون حيث يتكشف اللاعقل على نحو جديد مع كلِّ قصة، وهو نوع الجنون الذي تؤسسه المجموعة مؤجلة روايته حتى نهايات القصص، فالجنون في مجموعة منصورة عز الدين لا يُروى فحسب بل يُكتشف على مهل ليُعاش، إنه نمط حياة تنمو ببطء في دواخل الشخصية بانتظار أن تنكشف في نوع من اختلال الخبرة النابع عن خلل الشعور. ربما يكون التوصيف الأدق لجنون العديد من شخصيات المجموعة هو ثمرة الحلمي والخاطيء بتعبير ميشيل فوكو، وهو “يشترك مع الخطأ في اللاحقيقة، والاعتباطية في الاثبات والنفي” (4)، إنه ثمرة القصة، جزاؤها وحصيلتها المرّة وهي تقابل الحكاية بالجنون، “سيتهمها بالجنون لو حكت عما تراه” كما في قصة (جنيات النيل )، وبسببه تقترح القصص طرقاً أكثر مراوغة ودوراناً في حكاية جنون شخصياتها، حيث تروي الشخصيات حكايتها بوصفها آخر مبتعدة عن ذواتها مسافة شخصية واحدة، وهي تواصل أوهامها معوّلة على إمكانية كلٍّ من الجنون والحكاية على انتاج مرايا متعدّدة لذاتيهما، كلُّ مرآة منها تكشف عالماً، وكلُّ عالم يعيش أوهامه ويروي حكايته بطريقته “فإن الجنون يملأ بالصور فراغ الخطأ، ويربط الاستيهامات من خلال اثبات المزيّف” ( 5)، إنها مراوغة القصص وهي تمضي في سرد عوالمها على نحو يحكمه التوجس ويقيّده الخوف.

تختار قصة (نحو الجنون) مراقبة الجارة “وهي تخطو بدأب نحو الجنون، كانت تتجه إليه بالبساطة نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب شقتها كلَّ صباح”، لتخطو راوية القصة بدورها نحو أوهامها، جاهدة في سبيل اثبات المزيّف وكسر الحدود بين عالمين، مواصلة الدفاع عن عالم زائل فقدت فيه أبناءها ولم تبق بين يديها سوى أشباحهم وسط عالم صادم يُطيل المراقبة والنظر. ترعى الراوية انفصال عالميها وترسم شخصيتيها بما يمكّنها من الحكم على صورتها الأخرى “حرصتُ على تجنّبها منذ البداية إذ بدت لي غير متزنة بعض الشيء سمعتها أكثر من مرّة تحادث نفسها وهي تصعد أو تهبط، كنت فقط أتبادل معها تحية الصباح أو المساء حين أقابلها على الدرج فتردُّ دون أن تنظر إليّ ثم تواصل همهماتها غير المفهومة”، تستثمر القصة استيهامات الجنون لأداء مراوغتها ودورانها، إنها (حياة زجاجيّة) يبدو كلُّ شيء فيها مرصوداً ومتابعاً وقابلاً للكسر، مثلما يكون كلُّ وهم فيها مهدداً بالانكشاف ابتداءً من طبيعة النظرة وصولاً لاكتشاف الجنون نفسه، “اكتشفت فجأة أن الرعب الحقيقي لا يكمن في تعرّض أحدنا لخطر عدو شرس ذي قلب ميت إنما أن نقع تحت مخالب مجنون لا يستطيع السيطرة على نفسه، فقدان العقل يغدو مفزعاً في مثل تلك الحالات، رغم أننا لا نفطن أصلاً إلى وجوده فيما عداها”، كما في قصة (حياة زجاجيّة)، الأمر الذي سيضعنا بمواجهة أوهامنا في محاولة أخيرة لاستعادة ذواتنا واستعادة العالم، حيث سيظلُّ الوهم محافظاً على قدرته على دفع الشخصية إلى نهايات مفزعة.   

ـــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1ـ منصورة عز الدين، نحو الجنون، مجموعة قصصية، دار ميريت، القاهرة 2013

2ـ ميشيل هار، هايدغر والشعر، عن: متاهات، نصوص وحوارات في الفلسفة والأدب، 3ـ ترجمة: حسونة المصباحي، مراجعة: قدامة الملاح، بغداد 1990: 28

م. ن: 11

4 ـ فردريك نيتشه، ماوراء الخير والشر، مختارات، ترجمة: محمد عضيمة، دار الكنوز الأدبية، دمشق 1999: 220

5ـ ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت 2006: 261

م. ن، ص. ن

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم