كان من الممكن أن نسمع صوتا أو لحنا واحدا، أو أن نشاهد صورة واحدة، أو أن يصبح الضباب والمطر مجرد إكسسوارات لمشاهد واقعية، ولكن طموح الكاتبة كان أكبر من ذلك، فاختلطت الأصوات، وتعددت الألحان، وتداخلت الصور، وأصبحت الأمطاروالأجواء الضبابية عناصر أساسية فى التمهيد لحرية الحركة فى الزمان والمكان. ساهم كل ذلك فى تحقيق أمرين هامين: تقديم التجربة بصورة ثرية أشبه ما تكون باللحن الذى تسانده خطوط لحنية إضافية، أتحدث هنا عن الثراء الفنى، أما الأمر الثانى فهو نقل اللحظة الإنسانية بكل أعماقها وتعقيداتها المركبة. ونتيجة لهذا الثراء الفنى والإنسانى، فإن القارىء يصبح شريكا فى التجربة، ولديه أيضا هامش معتبر فى التأويل، بل ربما يلعب النص نفسه دور المرأة بالنسبة للقارىء، فيرى فيه مخاوفه وهواجسه، لحظات أحلامه، وساعات جنونه. هناك حقا مفاتيح للتفسير، ولكن هناك بالمقابل أشياء متروكة عمدا للقراءة بين السطور.
نحن إذن أمام محاولة لاستخدام الخيال لإعادة تأمل الواقع، واقع الشخصيات، أو واقع “المدينة” التى تعنى فى قاموس منصورة الروائى والقصصى الوطن نفسه. فى قصة “مطر خفيف” مثلا، وفى المطار الفخم، الذى سيقود الساردة الى مدينة فيسبادن، يختفى المرافقون، وتتغير ملامح المكان، و لاتستحضر الساردة إلا ارتباط فيسبادن ( المدينة الألمانية) بقصة قرأتها لخوليو كورتاثر عن “خاكوبو” الذى حاول شبح إمرأة إنجليزية يشبه خلد الماء، تحذيره من المصير المحتوم، وكان ذلك داخل أحد المطاعم الخاوية فى فيسبادن. هذا الإستدعاء لقصة تتحدث عن مدينة خطرة، تحاول فيها الأشباح تحذير سكانها من قتلة باردى الأعصاب، سيكون الجسر الذى سيعمق الفكرة، ذلك أن الساردة ستجتاز الزمان والمكان الى مدينتها الأم، لتشاهد صدام قوات الشرطة مع المتظاهرين. كأن منصورة قد استعارت حكاية خوليو كورتاثر، وأجواء مطار ضخم يقود الى فيسبادن، لتحكى عما يحدث فى مدينتها. هذا ما قصدته بالمجهر متعدد العدسات، وباللحن الأساسى الذى تصنع منه الألحان الموازية سيمفونية ثرية. لا تنافر بالمرة بين وقائع حكاية خاكوبو، وما يجرى فى المدينة الأم، وما يجرى داخل عقل فتاة تكتشف مطارا غريبا، سيأخذها الى مدينة أكثر غرابة. كلها تنويعات على لحن أساسى، وكلها أقنعة ملونة تستوعب وجوها مختلفة لرؤية أعمق، لايوجد خط واحد، وإنما خطوط وظلال وهوامش كثيرة. ليس سهلا ذلك على الإطلاق، لأنه يحتاج أولا الى الإمساك باللحن الأساسى، ثم اختيار تنويعات متوافقة، لا تطغى على اللحن الأساسى، ولكنها تعمل على إبرازه وتعميقه.
فى قصة “ليل قوطى” تحضر أيضا المدينة، مدينة الساردة، ولكن منصورة لا تبدأ أبدا باللحن الأساسى، وإنما تجعل الرؤية مزدوجة، إذ تحكى لنا عن مدينة عجيبة ذات طابع قوطى، مكان يسوده اللون الرمادى، يطلقون عليها مدينة الشمس الدائمة، لأنها لا تغيب عنها الشمس. عبر رسائل من صديقها القاطن هناك، نستحضر أجواء غريبة، يظهر فيها كائن عملاق أعمى، يحاول أن ينقل الليل ( الذى يعرفه) الى مدينة الشمس. الساردة تقرأ الرسائل بحياد، ثم باستغراب، ثم تقرر هى أيضا أن تكتب عن مدينتها. تتخيل أنها تقبع على جرف، وأن أهلها يقاومون الجاذبية، وكأنهم يمكن أن يسقطوا فى أية لحظة. يكتسب الحديث عن مدينة الساردة ثراء كبيرا لأنه يردّ بالخيال على خيال الصديق فى مدينة الشمس. يأخذ الواقع المأزوم والمهدد فى أى لحظة بالسقوط لون الأسطورة. نكتشف أن رسائل الصديق لم تكن إلا تحريضا للساردة لكى تتأمل مصير مدينتها هى.
وفى قصة “مارين” تتحول مارين التى ترافق الساردة الى مقر إقامتها فى المدينة الغريبة الى مرآة حقيقية تنعكس عليها مخاوف وقلق وإرهاق الساردة. لا تفعل منصورة أكثر من أن تجعل الساردة تتبع مارين، ولكن بينهما مسافة لا تضيق، تصبح الشوارع خرائط للتعبير عن الإكتشاف، واستدعاء روائح محددة لابد أنها قابعة فى حواس الساردة. مارين تجعلنا ندخل الى عقل الكاتبة، يفترض أنها تسير بها فى الخارج، ولكنها فى الواقع تسير بنا الى داخل الساردة. يكتسب المشهد ثراء إنسانيا وفنيا واضحا، يصبح الدليل مرآة، ويبدو الخارج عنوانا على الداخل. مرة أخرى، تزدوج الرؤية وتتعمق، بهذا التواصل بين الذات والآخر، فى شوارع مدينة غريبة.
فى قصة “ست شمعات” تستخدم منصورة نفس الحيلة، حيث لن تستعيد السادرة تاريخها كلها، إلا بزيارة لمنزل غامض، يوم كامل لا بد أن تقضيه صامتة فى حجرة بها شمعدان فضى عليه ست شمعات. امرأة غامضة كانت فى انتظارها ( تطورت هذه الشخصية الغامضة لتلعب دورا محوريا فى رواية “جبل الزمرد”) . كان يمكن أن تستدعى الساردة ماضيها بأكمله، وهى تقود سيارتها مثلا، ولكن الأجواء التى تقدمها القصة تجعلها جزءا من طقس كامل. صمت كامل فى مقابل أصوات مسموعة، تجربة تترك بصماتها فى صورة آلام تشعر بها السادرة. الآخر يقودنا من جديد لاكتشاف الذات، والشمعات الست تضىء الداخل لا الخارج، والمكان الذى يبعث على الخوف، هو وسيلة مواجهة الماضى.
وفى قصة “نحو الجنون” لا تؤلف منصورة بين اللحن الأساسى والألحان الموازية فحسب، بل إنها تفصل أيضا بين الاثنين. تستخدم هنا صوتين للسرد: ساكنة فى بناية تقول عن جارتها الى تسكن تحتها أنها مجنونة، وأنها تتصرف بشكل غريب، والجارة تستغرب بدورها تصرفات الساكنة التى تعيش بمفردها. فى هذا القصة بالذات كشفت منصورة اقنعة اللعبة، وقالت عبر السرد المزدوج أنها ستتلاعب بالفكرة، فتجعل من الساردة التى تتهم الجارة بالجنون، شخصية مضطربة بعد أن حرمت من أطفالها بحكم محكمة. المجهر المتعدد العدسات جعلنا نرى المأساة من خلال عيون صاحبتها، جعلها تجمع بين السفور والحجاب، وتسقط مأساتها على جارتها، رأينا المأساة أيضا من خلال عيون الآخر.
وتعمق قصة ” الصعود لأعلى” لحظة ضرب وإهانة لفتاة فى مظاهرة، فتصعد بها هذه المحنة الى عالم آخر، تلمس فيه بيدها حياة حقيقية: “بدأت تتخيلين نفسك تصعدين درجا وهميا بعد أن ظللت طوال عمرك تراوحين مكانك. ثلاث درجات لأعلى تتبعينها بثلاث درجات لأسفل. هكذا عشت حياتك السابقة. كان إغماض العينين لحظة احتضان الرصيف لك، هو سبيلك الوحيد لاستدعاء البهجة، لرؤية ما وراء الإهانة والألم والركلات: قوس قزح، لحظات الطفولة الهاربة، أزهار الخوخ، وأريج الياسمين. للياسمين مكانة خاصة فى ذاكرتك، أريجه مختلطا بالفانيليا ، وعبير زهر البرتقال. مزيج يعنى الحياة”. الموت يستدعى الحياة، والأحداث لا تمر مرورا عابرا، ولكنها توقظ الذاكرة.
فى “ربيع داكن” و”ديجا فو” و” امرأة أخرى” و”حياة زجاجية” يلعب الآخر دور المرآة التى تقود السارد الى تغيير ما. فى القصة الأولى تستغرب المدينة أولئك الذين يرتدون اللون الأسود، ويتحفظ الناس على دعوات الإضراب، ولكنهم يجدون أنفسهم فى النهاية، وقد انتقل إليهم اللون الداكن، وفى “ديجا فو” تبدو شخصيات مثل العشيق السابق والعشيق الحالى والخادمة مجرد مرايا تكشف الأرستقراطية سميحة التى يطاردها الشك فيمن حولها، شعورها بتكرار ما يحدث لها، ترجمة لحياة لا تتغير تقريبا، حتى العشيق الجديد يستدعى العشيق القديم، وفى “امرأة أخرى” تراجع الساردة حياتها بأكملها أثناء رحلتها لزيارة صديقة قديمة مختلفة عنها جذريا، يتعثر اللقاء فى النهاية لأنهما فى طريقين متوازيين، وفى “حياة زجاجية” نخوض عالما غرائبيا وسط المطر والسيارة والكلاب والفيلا المهجورة والمرأة العجوز الحولاء والغامضة، ولكن الرحلة تنتهى الى مرآة تشاهد الساردة فيها صورتها:” تقدمتُ ببطء ودون أن أحتاط للأمر، واجهتنى صورتى فى مرأة صغيرة بجوار الفرش. كانت عيناى مركزتين على نظرة حولاء وجسد نحيل يتحديانى بشراسة قبل أن أغرق فى ظلام دامس” . هذا هو أخيرا اللحن الأساسى، بعد أن استغرقتنا الألحان الموازية.
فى قصة “جنيات النيل” يتبادل الحكى كلا من: زينات المرأة التى تسكن على النيل، والتى تظهر لها أطياف جنيّات الماء، وصوت زوجها سائق عربة النقل الذى ينتهى مريضا ملازما الفراش. جنيات النيل هن ملاذ زينات للتحرر والإنطلاق من حياة فارغة، الزوج يتركها ليعمل، ثم تفقد ابنهما فى حادث للسيارة العملاقة. عندما تتعرى زينات وسط الجنيات، فإنها تحاول أن تعيش عالما آخر لا تجده. يتغير الزمن سريعا، تختفى الجنيات، ويقبع الزوج مريضا على فراشه، تزوره بين وقت وآخر سيدة تدعى إنعام. تترك لنا منصورة حرية تخيل العلاقة بين الزوج وإنعام. قد تكون عشيقة أو زوجة ثانية. ليست المشكلة فى هؤلاء. زينات هى اللحن الأساسى الحزين، الذى كتبت عليها الظروف أن تعيش بلا زوج، وبلا ابن، وبلا جنيّات تراهن، وتسمع أغنياتهن، وقت صلاة الجمعة.
مجموعة “نحو الجنون” لا تهرب بالخيال الساحر من الواقع، ولكنها تسخدمه لكى نعيد تأمل واقعنا العام، وواقع الشخصيات، ونفوسها المعقدة. وعندما تعمل منصورة عز الدين على الهواجس والمخاوف والإحباطات الصغيرة والكبيرة والعامة والخاصة، فإن أفضل وسيلة للإكتشاف هى استخدام أكثر من عدسة فى نفس الوقت، وإعادة بناء الزمان والمكان، بما يناسب تحرر الأفكار والمشاعر، وإقامة علاقات جديدة بين الأشياء والأشخاص.
ولكن يبقى دوما حلم الساردة بمدينة تقاوم الموت، وتشم الياسمين، وتستقبل المطر، وليس زخات الرصاص، وحلمها بإنسان أكثر تصالحا مع نفسه، ومع الآخر، ومع الحياة.