إدوار الخراط
لاشك أن ظاهرة قد استرعت الانتباه في السنوات القليلة الماضية تستحق الدراسة أعني ظاهرة ما سمي بـ”كتابة البنات” اللاتي تدفقن على الساحة الأدبية بإبداعات لها سمات خاصة ونكهة خاصة، على تنوع اتجاهاتها ومشاربها ومنازعها ويكفي في هذا الصدد أن أشير إلى قائمة طويلة من الأسماء التي بزغت حديثا في حقل القصة القصيرة على الأخص منها على سبيل المثال أمينة زيدان ونورا أمين وسناء فرج ورانيا خلاف ونادين شمس وميرال الطحاوي وسها النقاش ومها غزال ونجوى شعبان ومنار فتح الباب وعفاف السيد وغيرهن ومنها على الأخص: سحر الموجي وسمية رمضان ومي التلمساني.
وبداءة ذي بدء أشير إلى نقطتين أو ثلاث بشكل عام.
فعلى رغم غني هذه الظاهرة وتعدد مساراتها ومغامراتها فإنها في تصوري لا تشكل بذاتها حساسية أخرى مختلفة جذريا عما أسميته منذ عقدين أو ثلاثة “الحساسية الجديدة” بما افترعته من تقنيات ورؤى منصهرة بعضها ببعض، بداهة تختلف أساسيا عن مضامين وأساليب الحساسية القديمة المستقرة منذ ما أسماه يحيى حقي “فجر القصة المصرية” على النحو الذي أفضت في بيانه من خلال كتبي النقدية “الحساسية الجديدة”[1] و “الكتابة عبر النوعية”[2] و”أنشودة للكثافة”[3].
النقطة الثانية أنه على الرغم من تشابه كتابة “البنات” مع كتابة “الصبيان” من أمثال وائل رجب وهيثم الورداني وأحمد غريب وأحمد فاروق وغيرهم في الذهاب إلى شوط بعيد استنفادا لتقنيات ورؤى معينة، فإن”كتابة البنات” أحفل بالشاعرية وأقرب إلى رومانسية معينة وتسري فيها شرايين منعشة من اهتزاز المشاعر والحنو أكثر بكثير من التحييد الصارم والتشيئ البارد الذي قد يغلب على كتابة الصبيان وليس هذا مجرد الإكليشية التقليدي عن الخلاف بين البنت والولد أو بين المرأة والرجل بل هو واقعة نصية ماثلة.
النقطة العامة الثالثة والأخيرة في هذا المجال أن الكتابة الجيدة ليست مطابقة في كل الأحوال لما يسمى بـ”الكتابة النسوية feminist ” أي الكتابة التي همها وشاغلها الشاغل تمييز المرأة والاحتجاج على الغبن الواقع عليها ومناصرتها ظالمة أو مظلومة هذه قضايا مجالها العمل الاجتماعي لا العمل الفني بالضرورة وعلى سبيل الأولوية.
فارسية اليوم هي مي التلمساني في مجموعتها “نحت متكرر” ومنذ البداية أستطيع القول إن كتابتها تندرج أو تسهم في سياق الكتابة الحديثة التي يبدو أنها سائدة الآن في أعمال الجيل الأخير من القصاصين أعني كتابة الرصد الخارجي أو كتابة الرؤية .
ولكن العين الرائية هنا عين حانية ورقيقة وليست عين الجورجون Gorgon التي تحيل من يقع عليه بصرهن إلى حجر جامد إلى شيء لا روح فيه –قد يلوح أن بعض كتابات الكتاب الجدد فيها شيء من ذلك- لعل ما يرقق وقع النظرة عند مي التلمساني أشياء منها أن للشاعرية أو الاستعارة الدفنية وجودا قويا في نصوصها ومنها نوع من الشبقية التي تتخذ بجليات عدة ولكنها تظل حارة ومترعة بحياة كامنة مثل كل شبقية.
ففي القصة الأولي المتميزة “نحت متكرر” نجد أن في العلاقة بين أم وطفلها-على أنها مرصودة بدقة سينمائية-ما يومئ إلى نوع من المتعة الحسية بين الاثنين هي متعة الأمومة بلا شك لكن فيها لذة شبقية لا شك فيها أيضا يعد لها ويخفف من غلوائها روح من الدعابة والتهكم بالنفس والتلبث تكسر الانسياق وراء الإيهام القصصي العتيد.
القصة فيها خصائص القص عند هذه الكاتبة: التقنيات السينمائية والسردية معا في تمازج حميم العناية بالصورة تعادل العناية بالصوت أو ما قد أسميه المؤثرات الصوتية، لقطات الزووم المقربة واللقطات العريضة لكن التقنيات السينمائية لا تستأثر وحدها بالمشهد القصصي –بالمسمع القصصي- بالنجوى الداخلية القصصية أيضا فليست التعليقات بين قوسين مجرد معادل لحوار متصور أو مصور ولكن هناك إفصاحا لا يتسنى إلا للقص عن خلجات داخلية وفي القصة لا يمكن أن نخطئ تقابلا كامنا ومحوريا بين البنت وأبيها، وبين الأم وابنها يعطي للعلاقة كلها محتوى شبقيا غنيا وحسية مفصحا عنها ببساطة ومتعة تنتقل مثل شحنة كهربائية إلى المتلقي انتقالا عفويا، ولكن ليس في الفن شيء “عفوي” وإن كان لعلة غير مقصود وغير متدبر عن عمد.
مي التلمساني كاتبة مغامرة لا تتردد في اتخاذ تقنيات تجريبية وغير مألوفة تماما يصدق ذلك على الأخص في قصتها “تلك الروائح” هذه قصة سوفسطائية Sophisticated بأحسن المعاني يعني وراءها عملية عقلية قادرة على التحليل والتركيب من بين عمليات حسية وشعورية متميزة تلجأ مي هنا إلى كسر السردية عن طريق كسر النحو تنهي فقراتها باسم وصل غير موصول هذا الموصول الذي يأتي في أول الفقرة التالية أو بجملة ناقصة لا تستكمل إلا في أول الفقرة التالية أو بموصوف لا تأتي صفته (المركبة) إلا بعد قطع الفقرة وهكذا.
هذا طبعا يضرب الملل من السرد القصصي العتيد وهو بالطبع أيضا مستلهم من تقنية التقطيع شبه السينمائي أو استخدام الصورة الثابتة the still في سياق التتالي السينمائي المتحرك.
مثال ذلك أن تقول: “فوق المائدة التي.” وتنهي الفقرة بنقطة توقف كاملة، تم تبدأ الفقرة التالية بعد هذا القطع “يغطيها بعض التراب…”. فهي قد أوقفتك عند “التي” كأنما لتدعوك أو تضطرك إلى أن تسأل “ما لها هذه المائدة…؟” وبعد لحظة وقوف قد تطول وقد تقصر تلحقك بأنها “يغطيها بعض التراب…”.
وهو ما يحدث مرة أخرى عند جملة من كلمة واحدة “نافذة.”، بعدها نقطة توقف كامل وفراغ لحظة سكون وربما تساؤل وتلهف: “مالها، ما شأنها هذه النافذة؟” حتى تأتيك الفقرة التالية “اطل منها على الطريق …”.
وهكذا على طول القصة.
لكن التقنية هنا ليست سينمائية تماما، العناصر الحسية اللمسية والروائح والطعوم تقوم أيضا بدور رئيسي.
ومع أن القصة تدور في سياق يبدو للوهلة الأولى مألوفا ويوميا إلا أن فيها لمسات فانتازية خفيفة وسرعان ما تتصاعد موجة شبقية عالية لكنها مأخوذة في بحر التفاصيل المبتذلة التي تلغي كل جاذبية سردية للشبق وكل خجل أو تورع منه، على السواء من جانب أو من آخر.
قصة “أرصفة” قصة لها حضورها، التقنيات المستلهمة من السينما سائدة، المشهد بصري أساسا ولكن المؤثرات الصوتية قوية، هناك بالطبع التكبير أو التقريب بالزووم، والتقطيع، والمونتاج، والدوران بالكاميرا، البان، واللقطات الواسعة العريضة وكل شيء، ولذلك فإن الفعل المضارع والجملة الأسمية هي الغالبة لأنها أفعال وأسماء الحضور البصري المباشر وليس مجرد الحكي في الماضي. لكن العمل أساسا لغوي –الكلمات هي “سيدات القصر”، والمواقيت المتتابعة الفجر والظهر والمساء والليل تمتزج بمواقيت القلب الخاصة، مترجما عنها برموز أو شفرات شعرية أو إيماءات لغوية، فليس لها في الحق وجود مجسم ذو ثلاثة أبعاد –كالمتوهم أنه يحدث في القص التقليدي –بل هي تختزل عن عمد إلى إشارات لغوية تثير إيحاءات ملتبسة- مع تحددها القاطع.
أهمية اللغة هنا لا شك فيها –مع وضوح الاستلهام السينمائي –وهناك ما يقطع بتلك الأهمية في استخدام الكاتبة تشبيه المجسم بالمجرد على عكس طرفي التشبيه المعتاد فهي تقول مثلا ” صوتا مكتوما كالغيظ” فتحذف تجسيم “الصوت” لتحلية إلى تجريد “الغيظ”، وهو ما يتكرر على الأقل أكثر من مرة.
في القصة على الأخص –وفي الكتاب عامة- شبقية تكسر الطابو دون اعتساف ودون تعمل أي برفق وما يشبه العفوية الطبيعية –ليس في الفن كما قلت لا عفوية ولا طبيعية بل هو مكر الفن الحميد (انظر صفحة 73).
ولعل الوصف الدقيق لتقنيات ورؤى مي هو الذي تأتي لنا به مي نفسها “كانت قاعة العرض مظلمة وكان الفلم يومض في كل لحظة بضوء جديد ثم يخفت الضوء وتستمر الخيالات في حركتها الدءوب”.
على أنه يجب أن يضاف إلى الوصف عنصر الحسية، والإيحاءات اللونية، وملامس اللوحة التشكيلية، وهو ما أجده واضحا في قصة “ونوافذ” التي نتبين فيها أيضا، تقنية المزج أوالـ super imposition المعروفة في المزج أو وضع صورة فوق صورة بين ما يسمى الواقع الخارجي، وما يسمى الحلم أو التهويم أو التخييل، هي عندي واقع واحد متعدد المستويات بطبيعة الحال.
“ونوافذ” قصة طويلة_ مي هنا تكسر تقليد الوجازة والقصر الذي أوشك أن يصبح كلاسيكيا الآن كما نرى في تلك “القصص/ اللقطات” التي لا تتجاوز بضعة سطور- على أن ما شد انتباهي حقا هنا هو أنه ليس هناك عندها شيء مسلم به ليس هناك عندها –عندي- “واقع” نهائي مفروض يعرفه القاص تمام المعرفة ويسلم به أولا قبل أن يخط سطرا في قصته، لا بل هناك –فقط- احتمالات متصلة متداخلة مع مظاهر –أو ظاهرات- هذا “الواقع” تداخلا أساسيا فهما يكونان نسيجا واحدا. “نافذة شتوية” من تجليات هذا الملمح الأساسي في رؤية مي التلمساني.
ومع ذلك كله فإن في كتاب مي التلمساني –على ما يبدو فيه من عناية باليومي المبتذل the banal – حزنا مضمرا غير مفصح عنه تماما يسري في العمل كله، لكنني أحسسته بوضوح ويمكن بسهولة أن نستقرئه وأن نستدل عليه بأكثر من شاهد نصي –ولعلني أسميه حزن الشعر المضاد للرومانسية.ومن ثم فهو الملامس لجوهر الرومانسية هو ضدها لأنها قائمة موجودة لو لم تكن هناك لما كانت ثمة حاجة لمعارضتها أو لدحضها.
ميزة أخرى في كتابة مي التلمساني هي أن كل حواسها يقظة وقادرة على أن تتكلم على أ، تقول نصها أريد بذلك أن أبطل وهما اخذ يشيع بسرعة هو أن هذه كتابة سينمائية، بهذا التبسيط، هذه أساسا “كتابة”.
في “بضعة آلاف أخرى كالجنيهات أو كالموتى” يتحول الموت إلى واقعة يومية عادية كما تتحول الشبقية إلى تلك الواقعة من غير أن يفقدا كلاهما، روعة أو روعا معينا.
في قصة “يحدث في الماضي أن نرغب في شيء من المشاركة” (لم تعد العناوين الآن كلمة ونصف!)، ومع تقنيات القطع والإدغام والاسترسال والفلاش باك، فإننا نحن نشعر فعلا بالمشاركة (نحن يعني الكاتبة والقارئ معا) حتى ونحن لا نجاور الأحداث بل نجاوزها ونعبرها ونتقاطع معها ونحليها أيضا إلى “لا أحداث” أو إلى “أحداث مضادة” لا توجد أصلا أو لا يسطع عليها نور، بل تقع في عمتة الكتابة، فتخايلنا برؤى أجمل وأسطع مما لو كان النور يسقط عليها مباشرة.
ويمكن –إذا استرسلنا في سياق المرجعية السينمائية- أن تعتبر قصص “نوال” و “فوزية” و “دكان في الوكالة” أشبه بأفلام ” كارتون”، قائمة على سخرية غير سوداء وغير جارحة وغير مريرة، هي سخرية ما يسمى “اللسان وراء الخد”، حيث السخرية تقع لا على المواضعات الاجتماعية التقليدية فقط بل على مواضعات القص التقليدي أيضا.
استرعى نظري جملة لا تكتبها إلا امرأة –أو كاتب له من قوة الخيال ما يمكنه من ذلك:”لا تلبث أن تبتلع ابتسامتها وترفع نهديها قليلا بحركة خلفية من كتفيها وتواصل طريقها…”.
مرة أخرى تصف مي نصها بنصها حينما تشير في سياق آخر ما تسميه “إنقاذي من براثن العملية التقليدية” فهذا بالضبط ما تفعله في كتابتها، تسعى إلى الخلاص من عملية القص التقليدية.
لا تبقي لي إلا إشارة موجزة إلى الأغنيتين اللتين تختتمان “نحت متكرر” (التكرار سمة من سمات نص هذه الكاتبة في “أرصفة”، في “ونوافذ”، في “الأغلبية، في أفلاك النصوص الصغيرة المتواشجة).
وعلى رغم أ، الكاتبة تزعم –عن حق- أن مرجعيتها ومرجعية معظم الكتاب من جيلها ليست الهم بقضية اجتماعية ولا مساجلات أيديولوجية فإن في عملها كله رسالة اجتماعية مضمرة و مستخفى بها.
ففي “أغنية عن الوطن” يثور السؤال: هل ينحل الوطن حقا علاقات حميمة صغيرة هي وحدها في غاية الأهمية؟ أما “أغنية قديمة” التي نشرت قبل ذلك بعنوان “أحمس أفندي” (ولذلك دلالته) ففيها شجاعة نقد الشعارات الخاوية، نقد مرير خفي جدا ومترهف جدا، لسلبية المواطن العادي، ولكن هنا أيضا وأساسا إيمان خفي جدا ومترهف جدا بالمواطن العادي.فإذا كان العالم عند مي التلمساني نحتا متكررا، فإنه عندها كذلك، بنصها “نصف كون، نصف وعي”، أما النصف الآخر فهو الشعر غير المفصح عنه، المومأ إليه بصمت. فهل يمكن للكلمات –للغة- أن تومئ بصمت؟ نعم، يمكن، بل هو أحيانا ضروري، لأن الإسرار، الإخفاء، اللواذ بالتفصيلات الخارجية الكثيرة لكي تغرق وتغطي وتنقذ الجوهري، هو ما أعنيه هنا بالصمت. وهو صمت قوي النداء، ساحر الإغراء.
الكتاب: نحت متكرر
الكاتبة: مي التلمساني
الناشر/ دار شرقيات /القاهرة/ 1995/ 104 صفحات
] الحساسية الجديدة، إدوار الخراط، دار الآداب، بيروت، 1993.
[2] الكتابة عبر النوعية، إدوار الخراط، دار شرقيات ، القاهرة، 1994.
[3] أنشودة للكثافة، إدوار الخراط، دار المستقبل العربي، القاهرة 1995.
_________________________________
نور- دار المرأة العربية، نشرة فصلية متخصصة بمراجعة وتقديم كتب المرأة العربية، شتاء 1996.