نجومية الكاتب

نجومية الكاتب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسن عبد الموجود

1

“نحن نمثّل علي أنفسنا، وأفضل كاتب منّا يعرفه خمسة آلاف شخص علي أقصي تقدير”. كانت هذه جملة لبهاء طاهر في حديث خاص جمعنا، وكان الوسط لا يحلو له خلال هذه الفترة إلا الحديث عن ظاهرة “البيست سيللر”. لقد بدا أنّ جنوناً ما أصاب بعض المبدعين، جنون الأعلي مبيعاً، وبدا انّ هناك انحرافاً في سياق الأحاديث الصحفية لكتّاب من أجيال مختلفة يتحدّثون عن تقدّمهم الصفوف والتحامهم بجمهور أوسع. لقد تغيّرت لكنة الكتّاب كثيراً، كأنّ من يتحدّثون ليسوا كتّاباً ولكن مشاهير من مجالات أخري. أصبحوا يتحدّثون بلسان نجوم الفن، وكنا حتي وقت قريب نسأل عن الشهرة والمال اللذين قد يأتيان متأخّريْن للكتّاب ولكن عرفنا النجومية التي يبحث عنها بعض المبدعين عقب إصدار عدد قليل من الأعمال.

2

لا أحد يعرف علي وجه التحديد من هو أول كاتب أدخل بدعة البيست سيللر إلي سوق النشر المصرية؟ هناك من يؤكد أنها بدأت علي يد دان براون وروايته “شيفرة دافنشي”. الكاتب البريطاني لم يفرض نفسه علي السوق المصرية تحديداً، ولكنه أصبح نجماً ذائع الصيت في العالم. هوليوود حوّلت روايته إلي فيلم التف العالم حول شاشة واحدة لمشاهدته. كان من الأفلام باهظة الإنتاج والبطولة كانت لنجم بحجم توم هانكس الذي أسهم في تحويل الحدوتة إلي أسطورة. تحوّلت الأماكن التي ظهرت بالفيلم والرواية إلي مزارات سياحية. بالتوازي كانت جي كيه رولينج وبطلها هاري بوتر يتحرّكان، وقبلهما ستيفن كينج كاتب روايات الرعب الأشهر. لم يلتفت أحد إلي نبيل فاروق صاحب شخصية رجل المستحيل رغم أنّه كان الكاتب الوحيد في مصر بعقدي الثمانينيات والتسعينيات الذي وزّع ملايين النسخ في العالم العربي.

المهم دخل المصطلح إلي مصر وتحوّل إلي حُمّي حقيقية. المثقفون بارعون في عمل موضة سنوية. الكلّ يتحدث في موسم معرض الكتاب عن عمل ما أو كاتب ما. ستبدو متخلفاً إذا لم تساير من يحدثك عن هنري ميشو. يتحدّث عن ميشو كأنه أجري رسالة دكتوراة في أعماله.

كان ميشيل فوكو بدوره نجماً في دورة سابقة لمعرض الكتاب. هكذا كان أيضاً أورهان باموق. لا. ليس أورهان باموق ولكن روايته “اسمي أحمر” علي وجه التحديد. الكتّاب الغربيون لم يفتهم الحديث عن الشهرة، لأنها حق مشروع، ولكنهم يفهمونها أو يضعونها في سياقات أخري. يقول ميلان كونديرا: الشهرة ليست حكراً علي شخص معين، بل هي ملك للجميع!

3

المهم أنّ الأحوال تغيّرت، الكاتب أصبح يبحث عن النجومية، والنجومية يلزمها “ستايل” خاص، تماماً مثل لاعب الكرة، ونجم الفن، وليس بالضرورة أن يكون هذا ال”ستايل” في شكل قصّة الشعر، أو الملابس، ولكن من خلال الصورة العامة التي يحاول أن يثبتها في أذهان الناس عنه. إنه قد يضع صوره علي موقعه الخاص، أو علي صفحته بالفيسبوك أثناء توقيعه كتاباً.. من المهم أن تحتشد الصور بالجمهور الذي ذهب إليه في حفل التوقيع. إنه قد يضع لينكاً بالجرائد التي احتفت بالحدث وبالنقاد الذين تناولوا عمله. بعض الكتّاب يعتبرون أن هناك قصوراً شديداً في الترويج لأعمالهم ولهذا فإنه يصبح مقبولاً بالنسبة إليهم أن يقوموا بمثل هذه الأشياء. ليسوا كثيرين من أتيح لهم بوستر رواية سحر الموجي “نون” الذي تم لصقه في عدد كبير من مناطق القاهرة علي طريقة أفيشات السينما. من المهم هنا عدد الزوار. قلائل من يدققون في اختيار المقبولين بالصفحة علي الفيسبوك، وكثيرون من يقبلون أي شخص. أي شخص هو زيادة في حصيلة الجمهور. بعضهم يحشد صفحته بآلاف الزوار من قبيل زيادة القراء المتوقعين.. ولكن سيظلّ الفارق شاسعاً أيضاً بين الكتّاب والفنانين الذين تخطّت جماهير بعضهم حاجز المليون.

4

الأمر ليس مقصورا علي جيل معين، كل الأجيال تشترك في هذه الظاهرة، في تنزيل مقابلة تلفزيونية تم إجراؤها مع الكاتب علي الموقع أو علي الفيسبوك. التلفزيون له قوة وسطوة. إنه يمنح مزيداً من الإحساس بنجومية الكاتب. قليلون لا يزالون محتفظين بالآراء الكلاسيكية عن عزلة الكاتب، وعن ضرورة أن يكون الأدب غامضاً. الغموض الفني قطعاً. لايزال مصطفي ذكري يقول هذا ويعكسه في كتاباته، غير أنه كسر عزلته قليلاً من خلال الفيسبوك.

في مجتمع الفيسبوك يتعامل الكاتب النجم مع جمهوره مباشرة. الصور الحاضرة للجميع، صور الكاتب والجمهور تجعل ثمة إحساسا حقيقيا بأنّ الكلام حدث وجهاً لوجه. إنه مستعد للإجابة عن تساؤلات سطحية، ولا بد أيضاً من رد التحية، والسؤال عن الأحوال، وإشعار (المعجب) بأنّ رأيه في العمل مهم، فدوره سيأتي لا محالة، في حفل توقيع، أو في ندوة تقام بمكتبة، أو في مؤسسة رسمية أو خاصة، أو بمعرض الكتاب. الحشد واحد من الصور التي لم تكن معتادة في التسعينيات. كانت حفلات التوقيع أمراً جديداً.. ولكنها تحوّلت إلي مناسبة عادية الآن تشهد فعلاً حضور عدد ضخم من الأصدقاء والأقرباء والجمهور العادي الذي تمت “تربيته” علي الإنترنت..

5

في معرض سابق لمعرض الكتاب كان طابور ضخم متعرّج يخرج من جناح إحدي دور النشر الشهيرة. المنظر شدني وتتبعت الطابور إلي الداخل ووجدت كاتباً يقف مبتسماً وهو يوقّع اسمه علي صفحة داخلية لعمله الجديد. يكتب اسمه بآلية ورتابة شديدتين، ويحيي صاحب النسخة بابتسامة مرسومة فيخرج عن الصف ويدخل التالي له وهكذا. الروس كانوا ضيوفاً علي دورة معرض الكتاب السابقة. حضر إلينا في أخبار الأدب وفد من الكتاب الروس في توقيت المعرض، وأجرينا معهم حواراً مطولاً. كان ما يقولونه شبيهاً بما أسرده. قال أحدهم إنّ الكتاب البيست سيللر أغرقوا السوق الروسية، ومعارض الكتب المختلفة هناك تشهد طوابير متعرجة لتوقيع كتبهم، ولكنهم مرفوضون من ضمن النقاد والكّاب الحقيقيين الذين لا يزالون مؤمنين بالفن لا بالتوزيع والنجومية والشهرة!

6

لا أحد يستطيع أن ينكر أن رواية “علاء الأسواني” فتحت ثغرة في اتجاه الجمهور. البعض يري أنها نجحت لأنها تعتمد في الأساس علي النميمة والفضائحية. هاجمها بعض النقاد واعتبروا أنها لا تنتمي إلي الفن الروائي بل إلي الريبورتاج الصحفي أو “الأوت شيرك”. سهولة تناولها للواقع. بشكل أدق تباسطها المخل -بحسب هؤلاء- هو ما جعلها رواية جماهيرية. الفن لا يقترب من الواقع بهذه الدرجة من المباشرة كما يقولون. الدكتور جلال أمين هاجم هؤلاء معتبراً أنّ الوصول إلي قاعدة جماهيرية في حد ذاته نجاح بالغ!

إذن هل تكون الجماهيرية أهم من الفن؟

يبدو هذا. فهناك كتّاب يعترفون بأنهم يقتربون شيئاً فشيئاً من جمهور الشارع. لا بد من مراعاة هذا الجمهور بالتباسط في شروط النوع الفني، ولكن بدون الاعتراف بهذا التباسط!

7

كتّاب البوب آرت الغربيون يتحصّلون علي شهرة ضخمة في زمن قياسي، ولكنهم يطرحون أنفسهم في سياق هذا اللون من الفن. هنا يريد بعض الكتاب التعامل بمنطق كتاب البوب آرت من الناحية الشكلية فقط. أن ينالوا الشهرة ولكنهم يطرحون أنفسهم كأدباء.. ولكن ماذا قدّموا؟ هذا يأتي في درجة تالية من النقاش، ومن المستحسن ألا يتحدّث أحد عن هذا. أصبح مجتمع الإنترنت مجالاً للاحتفاء الشخصي. الكاتب مهموم بالتحرّك قليلاً وإنجاز الأعمال بسرعة ثم طرح هذا الإنجاز بشكل أسرع علي الزوار والمعجبين.

السخرية أصبحت أيضاً مجالاً للشهرة. نجاح بلال فضل وعمر طاهر أغري الكثيرين بدخول هذا المجال، ولكن الفارق أنّ الإثنين قادمان من خلفية أدبية، الأول قاص وروائي، والثاني شاعر ومترجم، وهذا ما منحهما فهماً خاصاً وواعياً بالكتابة الساخرة، والكثيرون غيرهما وجدوا أنّ المجال ممهد أمامهم للنجاح بسهولة. الكتابة عن مصر، والسخرية منها، الاستفادة من الأحداث السياسية الجارية والكتابة عنها وإصدار كتب سريعة لرصدها. وهم أيضاً نجحوا من الناحية الشكلية، ولكن بشكل من الأشكال لا يمكن اعتبارهم امتداداً لخط الرواد، محمود السعدني، وأحمد رجب، وغيرهما.

8

الخريطة تغيّرت وكذلك الأحلام والنظرة إلي الفن..

قلائل سيظلون مؤمنين بجدوي الفن..

وكثيرون سيلهثون خلف النجومية ومغرياتها..

لأن الشهرة لها بريقها، ووجاهتها أمام الأهل والمجتمع.. الجوائز كثيرة، وكذلك الصحف والمواقع التي تتابع الكتّاب وأعمالهم الأدبية!

كما أن الطلب علي الترجمة ازداد، وحلم العالمية أصبح سهل التحقيق. لا يهم المطبوع من العمل المترجم. المهم أن الترجمة حدثت، ويمكن الإشارة إليها في صفحة الكاتب بالفيسبوك. لا يهم عدد النسخ من الطبعة المحلية. المهم بعد انتهاء الألف نسخة الأولي طبع ألف جديدة أو حتي خمسمائة و”لطع” لوجو بالطبعة الثانية والثالثة. إنها تشير إلي أن الكاتب يمضي في طريقه الصحيح نحو النجومية، فأهلاً بهذه النجومية!.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم