أنتبه و”كريمة” تضرب خديها لمّا تلمح صاحبة المحل وهى تراقبها من نافذتها الكبيرة، بصدر يمتلئ بياضًا ولحمًا.. تخلع “هبة” من حلمها وتجريان.
فى السادسة والربع، أفوت عليهما فى آخر الشارع، وأرى “كريمة ” مطوية فى ركن غير مرئى، ودماغ “ هبة “فى حجرها.
الثالثة صباحًا تقريبًا، ألمحه قادمًا من أغمق نقطة، لا ينظر لى ولا يكلمنى، خطواته المتعجلة تترك على الأسفلت بقع طين جاء بها من بعيد، فردة حذاءه اليمنى مقطوعة عرضيًا من تحت، واضح جدًا أنه يمشى بالفردة الشمال فى الوسخ وباليمنى فى النظيف، تنغزه فتافيت زجاج السيارة التى صدمت بائعة الورد الليلة، قميص وبنطلون وعَرَق، ستة أرغفة وفول وطعمية، أحيانًا ربع فرخة، وكل أسبوعين روشتة لأمه التى ينزل لها أربع سلّمات تحت العمارة، أسمع وجعها وسهره عليها ربع النصف الباقى من الليل، ينام الربع الأخير.
لم يطلب منى أن أطلّ على أمه فى غيابه، فقط يريدنى أن أسعفها لمّا يطلع صوتها من تحت: “عايزة اشرب”، لا أعرف اسمه ولا عمله، له جسم إنسان ووجه أرض داستها ملايين الكائنات.
فى ليلة خرج من تحت العمارة يطارد مخلوقًا لا أراه، ورمى بوجهه زجاجة الدواء، ثم سمعت سقوط روح ما، أو صعودها.
“الجعانة”، تربط حول وسطها حبل وسخ رفيع، علّقت فيه أكياس محشّية ورق جرائد، شرائح كرتون، وبقايا قماش قديم، تغطى دماغها بكيس شفاف ربطت حوافه بأستك تتدلى نهايتاه أمام عينيها، فى عبّها زجاجة بلاستيك صغيرة، لمّا تتبول تنحنى وتفتح وركيها، تُمركز الزجاجة فى عمقهما، وتطرطر نقط صفراء، مرات تحزق لوقت طويل ولا تنزل نقطة واحدة، أسمع جوعها لمّا تفوت من أمامى، تدخل مطعم الفراخ من الباب الخلفى، تضرب برجلها بطون القطط للسقف لتنفرد بالأرجل والأجنحة، تبقى ساعة تحت طاولات المطبخ مع بواقى الصحون، تطلع بصدر فرخة وكيسًا يمتلئ بالأجنحة.
فى السادسة والثلث أقف بمحطة الترام، أرمى بقايا سندويتش فول على أكياس الزبالة، تنتفض “الجعانة” من بين الأكياس، تطاردنى لآخر الدنيا، حتى نجلس مُفكَكين فى مكان مجهول، بين قضبان ترام غير مستعملة.
“خالة غزالة”، أشوفها فى الجهة المقابلة من الشارع، نار هادئة بمنتصف حجرتها، فوقها “قدرة فول” كبيرة، تُلقى بداخلها حبّات العدس والطماطم وأعشابًا ملونة، لمّا تُطفئ نارها أروح لها، تُشمّر ذراعيها وساقيها، أشوف لطعات بُنيّة لسوعتها بها القدرة التى أرفعها معها، ونثبتّها فى عين عربة يد خشبية تنتظر بالخارج، صحن كبير يمتلئ ببصل صغير، قرون فلفل أخضر، لمون، زجاجات الزيت، الدقة، الطحينة، طاولة عيش صاحى لا تنتهى و( يا عالم بالحالة.. إكرم الخالة غزالة) مكتوبة فى صدر العربة ببويا حمراء مرتعشة، “خالة غزالة” تغسل شعرها، تسرّحه تحت إيشارب ملون ومطرز بخرز، تلحس لطعة جديدة لتطفئها، تلبس بالطو أبيض على بطنه جيب كبير، وتقف على “قدرتها” ( بعد دقائق تنضم إليها طفلة تلمّ الصحون المستعملة، تشطفها فى جردل وترصّها على العربة)، الأرض تعصر أمعاءها وتخرج لها كائنات عاملة تحيط بها، وتقعد على أنصاف وقوالب طوب، يشتركون فى أكلة تزيد درجة حرارتهم، بصل عضّاض، فلفل حراق، لمون، دقة، طحينة، طرشى، كوز بلاستيك يسقى الكل.
بعد ساعتن تكون “خالة غزالة” قد ملأت بطونًا لا تشبع إلا من يدها، وشرب البالطو ألوانًا وخطوطًا ترسم لوحة إنسانية عرقانة، يحبل جيبها بفلوس مكرمشة، مخرومة، عرجاء، مقطوعة، ملزوقة، عرقانة، تعبانة و.. ترفض الموت.
فى السادسة وخمس دقائق، أفطر مع “خالة غزالة” بأول طبق حار من “القدرة”، تحطّه بينى وبينها على نصف قالب طوب ونقعد على قالبين، ندشّ البصل، نمسح قعر العيش فى ركبتينا، نتسابق فى أكل الفلفل الحرّاق ولهلبة جسمنا.(قلت لخالة غزالة أنى أعشق جسمها العضّاض: بصلُه وفلفله ولمونه وزيته الحار.. ضربتنى بقالب طوب فى بزّ رجلى.. آآآآآآآه.. ضحكت مبسوطة)
قبلما أمشى تحط فى يدى سندويتش خصوصى.
لا ألتزم بزىّ حارس الأمن.
لا أقعد على الكرسى طول الليل أمام المحل.
الخصومات كثيرة من مرتبى الصغير، لكنى اشتريت العروسة والحذاء “لهبة“، سأرسب هذا العام وأشترى لها الفستان آخر الصيف.