بشر قليلون جدا هؤلاء الذين يلمسوك كشعاع لمسة تضىء سماء روحك وتلمس فيك كل ما هو إنسانى وإبداعى جميل ، كذلك كان حالى مع نادين شمس الكاتبة والمبدعة ؛ كان لقائى بها واحدا وحيدا، بمقر الحزب الديمقراطى الاجتماعى بالعجوزة احتل فيه الحوار المباشر بيننا دقائق ، بينما ذهب الوقت الباقى للندوة المخصصة لعرض ومناقشة أحد الأفلام القصيرة التى شاركت شمس فى صنعها .
لفتت انتباهى بعدما استدارت للجمهور وصعدت درجتين بخجل وتواضع حيث قدمتها منظمة اللقاء النشيطة المخلصة ميرى مراد ولها ودعتها إلى المنصة للحديث عن فيلمها ، ثم راحت تتحدث بصوت ملائكى يكاد لا يسمع عن تجربتها مع الفيلم ومع فريق العمل ، وكيفية اختيار الأبطال وعن مضمون القصص الثلاث الرئيسية التى شكلت موضوع الفيلم ودارت كلها تقريبا حول إحساس الأبطال بالوطن وقيمته ومعناه ، أذكر جيدا كيف وقفت نادين تجيب عن تساؤلات الجمهور بخجل وتواضع حول موضوع الفيلم وعنوانه وطبيعة شخصياته ، وكيف تلقت انتقادات الحضور وملاحظاتهم حول العمل برقة وعذوبة فنان يؤمن ويحترم حق الجمهور فى التذوق على طريقته ، وتلقت الاختلافات معها ومع رؤية المخرج ببعض الارتباك ، وترفعت – كما بدا عليها – عن أن ترد بعضهم أوأن تصحح له مفهومه لاسيما وقد ظهر عدم إحاطتهم بثقافة سينمائية وفنية تسمح لهم باستيعاب وتفهم اختيارات صناع الفيلم – وكانت شمس تقريبا هى الحاضرة الوحيدة عنهم – للشخصيات ونموها الدرامى وطبيعة الكادرات والرمزية الشديدة التى سيطرت على العمل ، وأذكر أنه لما استشعر المخرج داوود عبد السيد وكان ضمن الضيوف خجلها عن الدفاع عن عملها أو شرحه ؛ وقف يرد عنها شارحا ومفسرا للحضور باعتباره من كبار أهل الصنعة بعض ما استغلق عليهم فهمه داخل الفيلم ، وأخذ يشرح للحاضرين وكان معظمهم من الجمهور المتحمس المنضم حديثا للحزب ، فى مرحلة هجم فيها المصريون على كافة الأحزاب مشاركة واحتكاك وانشغال بالسياسة وبالندوات وخلافه بعد جرعة الوطنية الزائدة التى بثتها فيهم ثورة 25 يناير حتى تحولت سهام الأسئلة والاستفسارات بشكل مباشر إلى صدر داوود ونادين خلفه تبتسم ابتسامة ملائكية لاتنسى
ليتنى لم أذهب إلى هناك من الأساس ، وهل كنت أتخيل وقتها أن اللقاء الذى حضرته مع الصديق المقرب أحمد هلال عاشق الفنون ذو الحس المرهف والذائقة المدربة وعضو الحزب الذى ألح على فى مصاحبته ، سوف يصبح بذرة تحولت فجأة إلى شجرة حزن ضخمة ذات ظلال وفروع فور علمى بنبأ وفاة شمس المفاجىء ..ليتنى لم اذهب إلى هناك ولم ألتقيها ؟!
ظل رقم هاتفها الذى حصلت عليه فى حوار استمر من بوابة القاعة إلى باب السيارة حول الفيلم ووجة نظرها فيه وأمور أخرى تخص الإبداع ورؤيتها الخاصة بكرا فى ذاكرة تليفونى المحمول ، لم أطلبه رغم احتياجى كثيرا إلى ذلك أكثر من مرة وكان صدى حديثها ووجهها الرقيق يطلان كخلفية باهتة خلف الرقم كلما تصفحت قائمة الأسماء بحثا عن اسم بعينه
أجلت كثيرا جدا حوار صحفى كنت أنوى إجراءه معها ، كانت دائما تطاردنى أمور رأيتها فى حينها أكثر إلحاحا ، لماذا تأخرت كثيرا فى إجراء تلك المقابلة التى اتفقنا مبدئيا على إجرائها فى القريب.. لا أعرف بالضبط ؟ !
“الموت ملوش أسباب ” و”الموت علينا حق ” و”تعددت الأسباب والموت واحد “ولكل أجل كتاب ” كلها مقولات حاكمة تحدد لنا الإطار الذى يمكن أن نفهم أو نتعامل فيه مع تلك المصيبة التى تباغتنا وتتركنا عرايا من الأحبة والأصدقاء والانقياء والمبدعين ولكن لماذا تتحد كل الأسباب والظروف فى مصر وتتفق على منع الورود من التفتح .. ولماذا يقف الخطأ الكارثى خلف كل جروحنا ” ويطلع لنا لسانه ” ألم يشبع هذا الخطأ من أرواحنا بعد ، ألم يشبع من أرواح قنصها سهوا أو عمدا ، ألم تشبعه وجبة دسمة شويت فيها أجساد وأرواح مبدعى وفنانى مسرح بنى سويف مثلا ؟! ولماذا يختار ذلك الخطأ الكارثى ضحاياه بكل تلك العناية الفائقة كأنه يتعمد التقاط الأحجار الكريمة ليلضمها فى حبل واحد يزين به عنق الغياب ؟!
ثم ما السر فى فقد كل هذا الكم من المبدعين الأتقياء منذ اشتعال ثورة يناير وإلى الآن ! بكير وبسيونى وعلاء عبد الهادى والشيخ عماد ومينا دانيال أبو ضيف والجندى وكريستى وسامر سليمان ونادين شمس، هل كانت الثورة على الفساد والقبح أم أن المصريين قاموا بثورتهم على الإبداع والجمال والنقاء وهم لا يشعرون؟!
ــــــــــــــــــــ
توفيت الكاتبة والسيناريست “نادين شمس” يوم السبت 22 مارس 2013