أخبرهما أن الرجل كان يأتي من مدينته المجاورة كل يوم ويقف تحتها، يظل ناظراً إلى أعلى حتى تتصلب رقبته فيعود من حيث أتى.
سأل إبراهيم مُستغرباً:
وهل كان يعرف أنهم سيقطعون يده؟
لا… لقد تحايلوا عليه، فدسوا له مُخدراً في الشراب.
سأل سعيد:
كيف عاش الرجل بعد أن قُطعت يده التي يعمل بها؟
أعطاه أهل القرية مبلغاً كبيراً يكفيه طيلة حياته.
*
ذلك الإرتفاع الشاهق وجد من يتحداه ويقتحمه. إنه الشاب الذي أصبح ذكره يُرعب كل من يسمع اسمه، ليس بسببه هو، إنما بسبب قرينه الذي أرعب الجميع. بعد ما فعله كان الواحد منهم عندما يصل إلى مكان المئذنة أو يمر بجوارها، ويكون الليل على وشك إنزال ستارته أو يكون قد أنزلها، يفر هارباً من دون توقف، حتى يصل إلى بيته مذعوراً، وينكمش على نفسه بسرعة، يدخل تحت غطائه.
*
تَاجَرَ نادر عطية في الأقمشة والحرائر، أحب فتاة جميلة، أهلها أناس أشرار، ممن تعلو أصواتهم ويتشاجرون لأتفه الأسباب، وحين علموا بتلك العلاقة بينه وبين ابنتهم تكتموا، أضمروا في صدورهم شيئاً، حثوا ابنتهم على أن تستنزف منه ماله بحجة أن ذلك دليل حب، وبحجة إرضاء أهلها كي يوافقوا على تزويجها له حين تخبرهم بأنه يدخر معها أموالاً كثيرة.
استجاب نادر لما دُبر له، مدفوعاً بقلبه وحبه، ضارباً عرض الحائط بنصائح من حوله، فقد كان مؤمناً بأن الحب حين يأتي يصبح مسيطراً وسيداً لكل المواقف، يصبح كل شيء بجانبه لا شيء.
أصبح ماله كله عند حبيبته وهي بدورها أعطت المال لأهلها.
الذي أربك عقله وجعله ينحرف إلى زوايا ردته إلى التخبط في قوائمها، أنه في صباح أحد الأيام أعلن أهل الفتاة خطبة ابنتهم لثروت الترزي صديقه.
كيف تأزم الموقف هكذا؟ لا يدري.
ظل لمدة طويلة ينظر إلى صديقه بعينين منحرفتين من دون أن يلاحظه. بعد ذلك استدار وذهب ليتجول في شوارع القرية، وعلامات كثيرة تظهر على وجهه، تعبر عما يدور في رأسه.
رأى عيون الناس وهي تشفق عليه وتواسيه، فبدا كمن يتقبل عزاء في عزيز فقده للتو.
سأل نفسه وهو يتحسس صدره، وضحك ضحكة متقطعة، كلها سخط:
– ما الذي أوصله إلى هذا الحد؟
أجاب نفسه والدموع تبلل جسر جفنيه:
– ربما هو قلبي الذي غلبني وانصعت لهواه، من دون تريث أو اكتراث لما سيؤول إليه الأمر في النهاية.
ذهب إلى محل صديقه وغريمه، مشحوناً بغليان يرفعه عن الأرض، يتحسس شيئاً صلباً تحت حزامه، الشرر يقفز من عينيه، وقف أمامه، أخرج مطواة، فتحها، رفع ذراعه بها إلى أعلى، فهوى ثروت إلى مقعده، رشقها في خشب الماكينة وانصرف.
جَبُنَ في اللحظة الأخيرة، غلبه التردد فحرك قدميه في اتجاه آخر، يشق الناس الواقفين أمامه مندهشين، ويدفعهم بذراعيه.
وصل إلى الجامع. وقف تحت المئذنة، نظر عالياً، حاول أن يصل بعينيه إلى قمتها. دخل الجامع، صعد السلم الحلزوني للمئذنة. دار في صعوده مجذوباً إلى قوة مغناطيسية تشده تجاهها بقوة.
والسلم الحلزوني بدا كسرداب معكوس يصعد إلى نهاية المئذنة ذات الارتفاع الشاهق. فالمسار الحلزوني دائماً يؤدي إلى قمة ما.
وكان في نهايته على ارتفاع ستين متراً، شرفة صغيرة تلتف حول جسم المئذنة الحلزوني، يمكن من خلالها رؤية السماء عن قرب.
عند ذلك العلو تتضاءل البيوت، والشوارع، والطرقات، تصبح نقطاً في أرض ممتدة. أصبح كل شيء تحت قدميه بلا قيمة.
سيطر على رأسه الفراغ، فخلخله.
هل كان يدري أنه يصعد لهذا الهدف؟
هل كان يبيت النية؟
هل صعد إلى تلك الشرفة من قبل وشعر بما يشعر به الآن؟
أسئلة لا يجيبها إلا هو وحده. وهو فعل ما لم يفعله أحد من قبل.