رجب سعد السيد
بدأت هذه القصة الحقيقية، الموشَّاة بقليل من خيوط معادن الكذب الثمينة، في نادي التجاريين، على الشاطئ المتوسطي، في موقعه بين (جليم) و(سابا باشا)، حيث اعتدتُ التردد عليه ثلاث أو أربع مرات، أسبوعياً، حاملاً أوراقي وأقلامي ولابتوبي، وقد أصل إليه مبكراً، فيكون معي لفافات إفطاري، أخفيها عن أعين رجال أمن البوابة، إذ أن جلب مأكولات من الخارج غير جائز.
أختار طاولة نائية، في (فراندة) متسعة، تتيح للجالس فيها أن تعانق عيناه البحر المتدحرجة أمواجه على بعد أقل من مائة متر. وأجلس لأبدأ عملي، بعد احتساء أول فنجان قهوة، ويعرف الشاب الذي يقوم على خدمة الرواد أن فنجاني الثاني يحين موعده بعد ثلاث ساعات من الأول، فيأتيني به دون إشارة مني.
وأبدأ العمل دون إبطاء، فأمضي مستكملاً ترجمة فصل من كتاب كنت قد توقفت قبل إنهائه بالأمس، أو أسارع بوضع الخطوط العريضة لمقال طرأت لي فكرته منذ ساعات أو أيام قليلة، فأسارع أمسك بتلابيبها قبل أن تتبخر، أو أهتم بتسجيل فكرة قصة جديدة، وقد أستسلم لغوايتها، فأترك كل شيئ جانباً، وأذوب فيها، حتى أنهي وطري منها. فالقصة القصيرة معشوقتي التي لا أمل أحضانها.
ومن ساعة لأخرى، أغادر طاولتي، متجها إلى دورة المياه، فيكون عليَّ أن أجتاز ممراً ضيقاً بين طاولات وكراسي أطاح الرواد من أعضاء النادي بما كانت عليه من ترتيب، فتداخلت، ربما ليتسنى لهم أن يستمعوا إلى أصوات بعضهم البعض ومحادثاتهم الهاتفية، بما فيها من خصوصيات بيتية.
وفي ذلك اليوم، كنت عائداً من آخر رحلة إلى دورة المياه، وقد قارب الوقت على الثالثة بعد الظهر، موعد مغادرتي، ولن يكون عليَّ إلا استدعاء الساقي، ومحاسبته، وأحمل متعلقاتي، عائداً إلى البيت.
غير أن الأمور اختلفت، وانتفى الروتين اليومي تماماً، حين سقطت عيناي، في مصادفة هائلة الوقع، على كتاب مفتوح، ومقلوب، بحيث يصافح غلافاه السماء، ويجتذب أعين المارين بتلك الطاولة، كما حدث معي.
فتوقفت في حالة هي خليط من الدهشة والارتباك، ولا تخلو من فرحة. ولم لا، والغلافان هما لكتابي (ديوك الثورة وهالوكها)؟!
نعم .. صورة الغلاف الأول .. وإسمي .. واسم الناشر (سلسلة أدب الجماهير)، مع صورتي الشخصية، على الغلاف الأخير!
إذن، فثمة من يقرأ!
ثمة من يأتي إلى نادٍ شاطئي ومعه كتاب (ثقيل الدم) – يجب أن أعترف – ككتابي!.
ويبدو أن وقوفي إزاء تلك الطاولة طال أكثر من اللازم، إذ أتاني صوت يسأل: هل قرأته؟.
صوت نسائي، إلتفتُّ إلى صاحبته التي كانت تنظر إلى المياه. سألتها، بدوري: ما رأيك فيه؟. فاعتدلت في جلستها، لتواجهني، وتقول: لفت نظري العنوان فاشتريته، فلما قرأته أرهقتني قراءته، ويبدو أن مؤلفه واحد من راكبي موجة 25 يناير بحثاً عن نصيب من كعكة الثورة.
فضحكتُ. نعم. ركبتني موجة ضحك غريبة جعلت عيون كل الجالسين في الفراندة تصب عليَّ. فتخلصت من الموقف بأن رددت: عندك حق .. والله .. عندك حق.
وعدت مسرعاً إلى طاولتي، وأنا في حالة يُرثى لها. وأشرت إلى النادل أن يأتيني بكوب من العناب المثلج. وقررتُ ألاَّ أغادر النادي إلا بعد أن أشرب العناب، وألملم نثار ارتباكي.
فلما هدأتُ، أو حسبت ذلك، وهممت بأن أعيد كتبي وأوراقي ولابتوبي إلى حقيبتي، لم تسر الأمور على نحو ما رأيت، إذ فاجأتني قارئة (ديوك الثورة وهالوكها) بكلماتها الموجهة إليَّ، وهي واقفة إلى جانب مقعدي، قالت: كثيرون هنا يعرفون أنك كاتب، ولعلني قد تجاوزت حدود اللياقة وأنا أتحدث معك عن الكتاب. أعتقد أنك أنت مؤلفه، فالصورة على الغلاف تشبهك تماماً.
جاملتُها بابتسامة صغيرة، فسحبت مقعدا مواجها لمقعدي، وجلست وهي تقول: لا أعتقد أنك ترفض أن أجالسك.
وأردفت، ببساطة بالغة: وها أنا قد جلست، فأنت رجل مهذب، لا يمكنه إلا أن يرحب بمجالسة سيدة لا تخلو من جمال.
أدهشتني كلماتها، وجعلتني أتفحص وجهها بعينيَّ، فوجدتها غير مبالغة في الإشارة إلى ملامحها المتناسقة المقبولة.
وعادت تقول بالبساطة ذاتها: وإن كنتُ ممن يقالُ لهُنَّ القواعد من النساء!.
فازدادت دهشتي، ووجدتُني أبادر قاصداً مجاملتها: إنهن العجائز اللاتي لا يُلتفت إليهن، فإن كنتِ من القواعد، فأنتِ قاعدة حقاً .. ولكن صاروخية!
حدَّقتْ في وجهي وقالت والدهشة تملأ صفحة وجهها: لم يغازلني رجلٌ منذ زمن بعيد!.
فواصلتُ أصارحُها، صادقاً: أنت مليحةٌ، حقاً.
قالت: أنت تمتدحني بصفات لم يقلها لي رجلٌ من قبل.
ولم أفكر قبل أن أقول: لعل الظروف تسمح بلقائنا ثانيةً ..
ووضعت يدي على حاجياتي، فقد حان وقت المغادرة. ففاجأتني بمقدمة لاقتراح: أظنك لا تريد التأخر على موعد غدائك.
قلت: الغداء يأتي عندما أصل إليه.
قالت: أنا تسببت في تأخرك عنه، ويمكنني أن أقلك إلى البيت. ستصلني سيارتي بعد قليل.
قلت: لا حاجة لسيارة، فأنا أتناول غدائي اليوم في مطعم على بعد خطوات من هنا.
قالت: لا أشجِّعُ الأكل في المطاعم، فطبيخ البيت لا يُعلى عليه.
فلم أتردد وأنا أقول: يتساوى عندي أكل المطاعم وما أجده في دار المسنين، حيث أقيم. وصمتنا لثوانٍ، عدتُ بعدها ألملم أشيائي، استعداداً للمغادرة، فعادت لسيرة الطعام، قالت: أعددتُ لغداء اليوم (مُسَقَّعَة) لا تُقاوّم.
أدهشتني، فأنا أحب هذه الوجبة حقاً. فابتسمتُ، وقلت: أحبها باللحم المفتت، لا المفروم.
صاحت مُرَحَّبةً بتوافقنا: وأنا لا أطبخها إلا باللحم المفتت!.
قلت: لن يفوتني أن أحصل على دعوة لغداء المسقعة بفتات اللحم. سيسعدني ذلك.
قالت: قبل أن تغادر، دعني أعطيك رقم هاتفي.
ولم تنتظر مني رداً، فأخرجت قلماً، ومدت يدها، فسحبت كفي، ووضعتها مفتوحة فوق كفها المفتوحة، وسجلت بها رقم هاتفها. شكرتها. وأدهشتني مرة أخيرة باعترافها، وهي تسحب كفها من تحت كفي: لم تلمس يدي رجلاً منذ سنوات!
وكانت آخر كلمات سمعتها منها وأنا أقف وأحني رأسي تحية لها، وأبدأ في التحرك مغادراً: إسمي أم كلثوم شافع، إسأل عني في وزارة المالية .. كنت أول وكيل وزارة أنثى!.
وقد انتهت هذه القصة الحقيقية، التي وشَّيْتُها بقليل من خيوط معادن الكذب الثمينة، بعد أيام قليلة، حين فكرتُ، قبل أن أغادر الدار التي أقيم بها، متجهاً إلى ذلك النادي، أن أتصل بها، لعلنا نلتقي هناك.
تلقيت الردَّ بعد أكثر من محاولة للاتصال، فلما ذكرتُ إسمها، جاءني صوتُها متهكماً متجهماً: من؟. أم كلثوم؟! .. لم تعد تغني!
ذكَّرتُها بإسمي، وبظروف لقائنا في نادي التجاريين، فكان ردها الحاد: لا أعرفك، فابحث عن أخرى تعابثها!.