حميد بن خيبش
لاشك أن التعصب، بمعناه الإيجابي الذي يحيل على الاعتزاز و الاستعلاء، هو أحد البُنى الكامنة في أعماق كل جماعة بشرية. وقد يشكل وقودا للتضحية و البذل والريادة. إلا أن المشكلة تكمن في تغلب جانبه السلبي، واستهدافه العلاقة مع الآخر. لذا من الطبيعي أن يرتبط المفهوم ذاته في أذهان الناس بصور التحامل والإقصاء، وطغيان الدم لغة وحيدة لتأكيد الذات.
بخلاف الباحثين الاجتماعيين، يقدم “القارئ” والمؤلف الموسوعي ألبرتو مانغويل نهجا مغايرا لتناول قضايا الهوية والتعصب، ورصد سبل التعايش واحترام التعددية الثقافية. حيث تسمح الرحلة إلى عالم الكلمات والقصص، ومتعة الإنصات إلى الروائيين و الشعراء باستعادة المفاتيح المخبوءة في دولاب الفكر و الأدب، لتبديد سوء الفهم، وتدشين سلسلة من القراءات المتجددة لتمتين الرابط الإنساني.
يقدم مانغويل عبر (مدينة الكلمات) تجربته الخاصة في محاولة تهدئة العالم عن طريق الكلمات، ومنح اللغة الإبداعية فرصة تجميع هوياتنا المشوشة و الحائرة. من يدري؟ فقد تنجح القصص في مَدنا بالقدرة على احتمال العيش المشترك وتغيير العالم !
تجربة المنفى طورت إدراك الروائي الألماني ألفريد دوبلن للغة لتصبح أداة تعيد صياغة الواقع وفهمه. إنها صيغة من حب الآخرين الذين لا نحتاج إليهم قطعا كي نتنفس، لكننا بحاجة إليهم للتحدث !
وإن كانت اللغة هي الوسيلة، فالقصة هي الذاكرة، و القراءة هي الحرفة التي تعيد فهرسة الذاكرة وخلقها مجددا. إذ تتيح لك القصص اختراق المظهر الزائف للمضي نحو تبين الأعماق. وفي أحيان كثيرة تمنحك طوق النجاة من كابوس اللحظة الجنونية، حيث تدين ميلينا، محبوبة فرانز كافكا، بالفضل لنصوص مكسيم غوركي المحفوظة في ذاكرتها، والتي شكلت ملاذها الآمن بعيدا عن الرعب اليومي في معسكرات الاعتقال النازية.
تعيد القصة، بل اللغة الإبداعية عموما، بناء الواقع من كلمات، معتمدة في ذلك على الحدس و التخييل. بينما تفعل السياسة الشيء نفسه بطرق أمبريقية. إن كلا الكيانين متداخلان بحيث يصبح البناء الأدبي مخططا أوليا لبناء المدن و الدول. وبحسب أفلاطون فإن كل خيال أدبي لا يفضي إلى التناغم بين الموقع و الفكرة يجب أن يُنفى خارجا !
قد يكون أفلاطون محقا إلى حد ما، لكن يظل الأدب فضاء خصبا للخبرات عن العالم، وإعادة بناء للهويات الجمعية. في رائعته ( برلين، ميدان الإسكندر) يصور دوبلن ملامح هوية برلين الشرقية، معتمدا بشكل أساسي على ميثولوجيا الكتاب المقدس، من منطلق أن الوظيفة الحيوية للأدب هي التحريض على مساءلة المعتقدات و الأجوبة، حتى في الظروف القاسية التي تستدعي خلالها الحكومات معيار أفلاطون لتقصي المبدع، وتخفض رتبته إلى منزلة حكواتي !
يمضي دوبلن في الدفاع عن القصص باعتبارها مُسكنا لوطأة الواقع، وتذويبا للهويات الجامدة التي تصر لغة السياسة وجوازات السفر على حصرنا داخلها. في روايته الشهيرة يقترح يهودي شرقي على فرانتس بيبركوف، الباحث عن هوية أعمق، أن العلاج قد يتحقق عبر القصص: ” أشد الأمور أهمية للمرء هي قدماه وعيناه. لا بد لك من أن تكون قادرا على رؤية العالم و التوغل فيه، فالقصص تساعد الأعرج على المشي، والأعمى على الإبصار”(1)
ترسم ملحمة جلجامش بُعدا آخر لاستكشاف علاقة المدينة بالكلمات، أو البناء المعماري بنظيره الأدبي. كما تحيل على التوازن بين العالم الطبيعي، ممثلا في شخص إنكيدو بعد اكتشافه لإنسانيته ووعيه الذاتي، و العالم المتحضر الذي فقد معنى العدالة تحت وطأة الاستبداد، ثم يستعيدها ضمن مسار أحداث قادت جلجامش إلى إدراك ما هو أعمق من الحياة؛ أعني الموت الذي يفكك ارتباطنا بالآخر ليحدث تمزقا في الهوية. وبذا يكشف جلجامش عن درس رهيب مفاده أن إدراكنا لكينونتنا لا يتحقق إلا بحضور الآخر .
ملحمة جلجامش هي قصة ملك تعلم الإنسانية و العدالة من رجل بري، إلا أن الصلة الحميمية امتدت لما هو أبعد من صدى البطولة المتردد. فبعد المغامرات و الفقد الموجع لا بد للملك من أن يقوم بأمرين :يصون عظمة مدينته ويروي قصته (2). إنها مقاربة ثنائية تنبني على استيعاب غنى الخارج لتحرر المجتمع من نقائصه الداخلية، وبذلك تستعيد (يورك) مجدها الأسمى لتصبح نموذجا لالتحام الهوية الفردية بالجهد المتواصل للاحتواء !
وبدورها تطرح أسطورة بابل بُعدا ثانيا لعلاقة المدن بالكلمات، حين يؤدي الانسياق خلف رغبة مجنونة لهدم السماء إلى حلول لعنة التشرذم اللغوي، وهيمنة التمييز و النزاعات على نسيج مجتمعي ضم إخوة الأمس .
يستكشف مانغويل جانب الأسطورة الخفي، حيث تتضمن اللغة المشتركة مقومات العيش معا، واندماج ال(أنا) وال(أنت) لتحقيق الإنصات والفهم، وتشكيل العمود الفقري للقصص. كما يحدد من جهة أخرى ما يمكن أن يعيق الكاتب عن تشييد أبراج بابله المستقبلية، حيث تُخلف الحروب و الاستبداد و التطهير العرقي تشظيا في البنية التخيلية للهوية. بيد أن هناك من يفلح في إنتاج سرد كوني يتحدى المنع.
أما مع سيرفانتس في عمله الأشهر “دون كيخوته” فإن اللغة تتحول إلى أداة حادة للإقصاء، و الاستعادة الدامية لأصالة المكان. كل شيء يمكن أن يتحقق عبر القصص: تبرير الهيمنة ووحشية الاستئصال.
لم يكن مديح دون كيخوته للفروسية سوى تمجيد للحرب التي تعيد سلام المسيح إلى الأرض، تماما كما هو الشأن مع كل العقائد الامبريالية منذ فجر التاريخ. إلا أن امتيازات القوة و السلطة لم تفلح دائما في محو الفن و الثقافة من الذاكرة، إذ ابتكرت مجتمعات عدة طرقها الخاصة لترميم هويتها المتضررة رغم الإقصاء الرسمي. وتقدم إسبانيا الكاثوليكية في عهد فرديناند أنموذجا لإصرار الضحية على تمرير سردية مشتركة تستعيد الهوية و الأصالة.
في قراءته الباحثة عما وراء مسايرة الشعور القومي الإسباني المناهض آنذاك للعرب و اليهود، يسبر مانغويل أغوار القصة، ليكشف عن حدة الانكسار الذي خلفه ترحيل جزء من الأمة الإسبانية قسرا إلى أراضي شمال إفريقيا المجهولة. إن ما قدمه سيرفانتس في الواقع هو احتفاء بالثقافات المحظورة ضد قوانين التطهير العرقي، وكشف للهوية الزائفة التي تطمح من خلالها أوربا إنكار ماض مشترك عبر اختلاق حاضر مسيحي “نقي”.
كل المدن تنشد تحقيق السعادة، بيد أنها في الواقع سعادة موسومة بالأنانية، حين تُنسب الشرور و المخاطر لبرابرة متربصين خلف الأسوار. لذا تحرص كل مدينة على إنشاء آلية اجتماعية لإبعاد الخطر، إلا أن الأمر غالبا ما ينتهي بإقصاء معظمنا للاكتفاء بأقلية سعيدة(3).
ضمن عمل روائي غير مكتمل بعنوان ” مكتب الاغتيال، ليمتد” يتناول جاك لندن فكرة القتل المبرر اجتماعيا، والمجازفة المرعبة خلف السماح بإنشاء آليات يُفضي مبدؤها التعصبي، في النهاية، إلى تدمير صانعيها أيضا. وإذا كان الضحايا في عمل لندن أشخاصا، إلا أن الآلية قد تمتد إلى الأمل المخبوء في ثنايا قصة أو عبارة. يُمكن ببساطة كبح تعددية القراءات لنصوص تتوق لمجتمع عادل وحسن التنظيم، أو تدمير اللغة وحشرها في الاستخدام الدوغمائي المبتذل و الزائف. كما يمكن الاستعانة بخدمات النموذج الصناعي لتقويض الكتابة الجيدة، وإخضاع فعل القراءة لصنمية تجارية.
يحتج مانغويل ضد التطويع الذي يحول الكتابة الإبداعية إلى ورش يعبث فيه المحررون وباعة الكتب، لإنتاج أدب معني فقط بزيادة المبيعات وتوسيع شريحة القراء. كل ذلك على حساب القدرة الفكرية و الجمالية. إن الكتب “المريحة” والخاضعة لقواعد التبادل التجاري لا يمكن أن تواسينا أو تمنحنا طرق الثبات في عالم سائل، لأنها ببساطة جزء من آلية اقتصادية مرعبة، همها الأساسي هو استخلاص المنفعة.
في سعيك لتشييد مدينة من الكلمات لن تؤازرك حتما تلك القصص التي تغذي شعورا ضيقا بالانتماء، ومسايرة لحماقة الاعتقاد بالتفوق، أو السرديات التي تقصي الآخر وترميه خارج الأسوار بمقتضى كلمة الرب. إن يورك و برلين بعد النازية وأبراج بابل تَدين بالفضل لشُعلة الخيال التي تمنحنا، كما يقول مانغويل، نهايات سعيدة ومريحة، وتغذي الأمل ببقائنا أحياء على هذه الأرض المنتهكة !
……………………..
1- ألبرتو مانغويل : مدينة الكلمات. دار الساقي 2016 .ص 37
2- ص 56
3- ص 122