منْ هذا المُنطلَقِ يُمكنُ التَّعامُلُ معَ نصوصِ شريف رزق، في: “عُزلة الأنقاضِ”، في منطِقِها الجماليّ الخاصِّ، دونَ قياسِ هذه الشِّعريَّة على شعريَّة السَّبعينيَّاتِ؛ فهذه الأخيرة ليست المرجعيّة للتَّجريبِ اللغويِّ والجَمَاليِّ؛ فمعلومٌ صِلةُ شِعريَّتِها بشعريَّةِ مجلَّةِ “شِعْر” اللبنانيَّة، وصِلةِ الأخيرَةِ بالشِّعريَّاتِ الفَرنسيَّةِ والإنجليزيَّةِ، والواقع أنَّ التَّيَّاراتِ الشِّعريَّةَ التَّجريبيَّةَ قد ظهرت في عدَّةِ عَوَاصِم أوربيَّةٍ، ولمْ تقتصِرْ على فرنسا؛ التي هيمنتْ شِعريَّتُها على أداءِ شعريَّةِ أدونيس وأُنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وسِوَاهُم منْ شُعراءِ مجلَّةِ: “شِعْر” اللبنانيَّةِ، الذين هيمنتْ شِعريَّاتِهم على المَشْهدِ الشِّعريِّ العربيِّ الجديدِ؛ ففي أسبانيا كان جيل 1927؛ الذي حاولَ شعراؤُهُ “إقامةَ علاقاتٍ جديدةٍ بينَ الدَّوالِ ومدلولاتِها، وإنشاءِ عالمٍ فنيٍّ مُختلِفٍ كلّ الاختلافِ عنْ إطارِهِ المَرْجعيِّ؛ إنْ صحَّ أن يكونَ له هذا الإطار، ثمّ إنَّه يعتمدُ اعتمادًا كامِلاً على المفردَةِ بوصفِهَا إشارَةً مُطلقةً، وعلى تركيبِ العِبارَةِ بوصفِهِ بناءً قائمًا بذاتِهِ.”[1]
كمَا أنَّ مُعظمَ آليَّاتِ الحداثةِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ ومُصطلحاتِهَا؛ مثل: شعريَّة الصَّمت، كيمياء اللغة، شِعريَّة الشِّعر.. موجودةٌ لدى الرَّمزيين الفرنسيِّينَ، وقد نقلَ د. حامد أبو أحمد في كتابِهِ: “نقد الحَدَاثة”، عبارةَ استفان مالارميه: “إنَّ القصيدةَ تُكتَبُ لا بأفكارٍ وإنَّمَا بكلماتٍ”[2]..كذلكَ يُمكنُ العثورُ على مرجعيَّةِ هؤلاءِ الشُّعراءِ في مُنجزَاتِ السِّرياليِّينَ الفَرَنسيِّينَ، وقد حَاولتْ الشِّعريَّةُ الجديدةُ الخروجَ عن المَنطقِ الجَمَاليِّ الذي هيمنَ على شِعريَّةِ الحَدَاثةِ، عَبْرَ التَّجريبِ اللغويِّ وتكثيفِ البنيةِ المجازيَّةِ والتَّشديدِ على حضورِ الدَّوالِ أكثرَ منْ حضورِ الدَّلالاتِ، ومنْ أبرزِ ملامحِ مَنطقِ التَّأسيسِ، الجديِْدِ، التَّخفُّف منْ المَرْجعيَّةِ الثَّقافيَّةِ، والانهِمَاك في المَرْجعيَّةِ الحَياتيَّةِ؛ المَعِيشَةِ والرُّوحيَّةِ، والنُّزوع إلى الأداءِ البسيطِ، والانفتاح على خِبْرَةِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ، والتَّجربَةِ الإنسانيَّةِ بتفاصِيلِهَا الحيَّةِ، وَرُؤاها الخاصَّةِ، وعوالمِهَا الحَميمَةِ.
تأسِيْسُ المَنْطِقِ
حاول شريف رزق، بما لديه من موهبةٍ وتثقيفٍ لغويٍّ، أن يُؤسِّسَ منطقَه اللغويَّ الخاصَّ في نصوصِه، مُعتمدًا أوَّلاً على المَرجعيَّة المَعيشةِ ومرجعيَّةِ عوالم الذَّات، وثانيًا على حسِّه الجماليِّ؛ بكائنية اللغةِ وتَصريفاتِها، في أداءٍ لغويٍّ بسيطٍ ومدهشٍ، والشَّاعرث- باعتمادِه على اللمحاتِ الشِّعريَّة الخاطفةِ، القائمةِ على الصُّورة البَصَريَّة المُشرقةِ الدَّالة- يجعل ذاتَه منطلقًا له في معظمِ النُّصوص، وأحيانًا يُحيلُ هذه الذَّات إلى شاهدٍ، وفي كلِّ الأحيانِ يتبدَّى صوته الشِّعريُّ الخاصُّ، في نبرةٍ عميقةٍ، يتقطَّرُ بعفويَّةٍ، ورشاقةٍ، وكثافةٍ،وحِدَّةٍ كذلك، يقولُ:
“لعلَّها أعضائي
هذه التي تدفعث التَّوابيتَ
في الهواء.
25/ 6/ 93” [3]
فهو هُنا يضع تشكيلاً حيًّا لمنطقٍ ممكنٍ على المستوى المعرفيِّ والجماليِّ، وقد يُحوِّل الشَّاعر مفرداتِ الكون إلى لغةٍ طيَّارة تقطرُ شِعرًا عن طريقِ التَّصوير الحرِّ المُكثَّفِ، كما في قولِهِ:
“هذه السَّحابةُ جثَّتي
تتفصَّدُ كائناتٍ وأنقاض.
25/ 6/ 93
أتسمَّعُ القرقعاتِ
منْ بهوِ صَدْري.
25/ 6/ 93 “[4]
ومجموع هذه التَّشكيلاتِ الشِّعريَّة تثكوِّنُ صورًا لعالمٍ مخرَّبٍ ، تبدو فيه الذَّات الشَّاعرة وحيدةً بين أنقاضٍ وخرائبَ حولها وداخلها، تُعاني تمزُّقًا حادًّا وواقعًا مريرًا وشائهًا، ويبدو احتفاءُ الشَّاعر ببناءِ هذا العالمِ المُخرَّبِ واضحًا، بداية من احتفائه بدورِ الكلمةِ؛ باعتبارها أولى بنيانِ منطقِ التَّأسيس لديه، ثم باحتفائه ببناء الجملةِ ورسمِها ووضعِها، على طريقة الأسلوبيينَ، مُضيفًا إلى مفهومِها مفاهيمَ أخرى، تنتمي إلى حقولٍ جماليَّة أخرى؛ كالسِّينما والَّرد والدِّراما والتَّصوير، وهيَ مفاهيمُ تنفتَّح على تحوُّلات المعنى، والذَّات، والآخر، والازدواجيَّة، والأحاديَّة[5]، يصهرُ الشَّاعر هذه المفاهيمَ في نصوصٍ شديدةِ التَّكثيفِ والتقطيرِ، في أداءٍ شعريٍّ ينزعُ إلى البساطةِ والتَّدفُّقِ، بوعيٍ يجمع بين الثَّقافة الطَّليعيَّة والصُّوفيَّة معًا، في أبنيةٍ شديدةِ التَّكثيفِ والإيماءاتِ، وفي بعضِها تتبدَّى بنيةُ المفارقةِ بين العناصرِ والأشياءِ؛ التي تبدو أحيانًا متباعدةً ومتناقضةً في الواقع المعيشِ، فيقوم ببناءِ عالمٍ آخر، يمتزج فيه المعيشُ بالمتخيَّل، والرُّؤيويُّ بالحياتيِّ، في خطابٍ شعريٍّ يشكِّلُ منطقَه الخاصَّ:
“مستنقعٌ
وكلابٌ ضالةٌ
وصَهيلْ
والمَدَى: غمامةٌ
يشتعلُ فيها النخيلْ.
25/ 6/ 93 “[6]
وإذا كان من الغالبِ أنَّ الاتِّجاهاتِ الجديدة كثيرًا ما تجنحُ إلى التَّوسُّعِ في كيميا اللغة، والإغرابِ، وكثيرًا ما تبدو مُغلِقةً، ومُعطِّلةً منطقَ التَّوصيلِ في اللغةِ، بوصفها أداةً اجتماعيَّةً، فإنَّ ثمَّة نصوصًا أخرى، تعتمدُ في تشكيلِ شِعريَّتها، على البساطةِ المدهِشةِ، وعلى التَّمسُّك بمنطقِ التَّواصُل، وإلى هذه الشِّعريَّة الأخيرةِ تنتمي تجربةُ: “عزلة الأنقاض”، في بناءِ خطابِها الشِّعريِّ، محقِّقةً، بهذا، انفصالَها عن الشِّعريَّة الأولى؛ التي احتفى بها الأدونيسيون وذويهم من شعراء السَّبعينيَّات المصريَّين والمغاربةِ والبحرينيِّين.
ويحتفي الشَّاعر– على محورِ البناء- احتفاءً لافتًا ببنيةِ التَّشظِّي، على مدارِ الدِّيوان؛ فالنُّصوصُ– في الدِّيوانِ– تتشكَّل من شظايا شعريَّةٍ، شديدة التَّكثيفِ والتَّقطيرِ والإشعاعِ.
وملمحٌ آخرٌ نجده عند شريف رزق، يتَّصل باستغلالِ طاقاتِ اللغةِ، في أداءٍ شديدِ التَّكثيف، يُحقِّق بأقلِّ قدرٍ من الكلماتِ إشعاعاته الدّلاليَّةَ الباهرةَ، بما يضعُ المُتلقِّي في موضعِ المُشاركةِ، في استقبالِ إشعاعاتِ الرُّؤى، ومن ذلكَ قوله:
” يذرعُني البرقُ.
26/ 6/ 93
أدفعُ الرُّؤيا
في البحر.
26/ 6/ 93
لِلْحِصَانِ ، إذْ يخرِقُ الجِدَار
وَيَتْبَعُ رَائِحةَ الدَّمْ.
26/ 6/ 93
خلفَ كلِّ صرخةٍ
فضاءْ.
26/ 6/ 93 “[7]
إنَّ هذه التَّشكيلاتِ اللغويَّة المُكثَّفة؛ النَّاقصة منطقيًّا، مُكتملةٌ جماليًا وشعريًا، وهيَ تشي بموهبةِ الشَّاعر، ووعيه بالبناءِ، وبكشفِ التُّخومِ الكامنةِ الحارَّة، وخصوصيَّة نبرته الشِّعريَّة وأدائه، ورهافته في الإيماءِ إلى مواضعَ تنزفُ في جسدِ واقعِ المُمْكنِ.
مُستوياتُ الخِطابِ
أمّا مُستوياتُ الخِطابِ الشِّعريِّ عند شريف رزق، فهيَ متعدِّدةٌ، ولكنَّها تُشدِّدُ في مُعظمِ التَّجلِّياتِ، على دلالةِ: شِعريَّة الشِّعر؛ حيثُ الشِّعر موضوع الشِّعر وشاغله في الغالبِ، وحيثُ يكون “الخِطابُ الشِّعريُّ أو أحد موضوعاته الرئيسة حدث كتابة الشِّعر نفسه، فضلاً عن الصِّلة بين المُؤلِّف والنَّصِّ والجمهور؛ فشِعريَّة الشِّعر تُطلق على القصيدةِ التي تشتملُ على مستويينِ خِطابيَّينِ مُتوازيينِ.
أوَّلهما: يتناولُ ما نطلقُ عليه “قصيدة”، والمستوى الثَّاني- الذي يتوازى مع الأوَّل أو يتقاطع معه- يُقدِّم لنا قصيدة تُثيرُ تأمُّلات حول طبيعتِها الخاصَّة ومنشئِها وشروطها ..” [8]، وهناك شعراء كثيرونَ كتبوا في هذا المصطلحِ، مثل جيرموكارنيرو، ولويس ماريا نانيزو؛ فالنَّص هُنا يخلقُ في حدِّ ذاته سؤالاً ما يتَّصلُ بلغتِه، وبكتابته، وبتقنياته الجماليَّة، ودلالاته المعرفيَّة والمنطقيَّة، وللتَّأسيس المفترضِ منذُ البداية؛ إذْ أنَّ الشَّاعر يُحاولُ أن يجعلَ من نفسِه، ومن نصِّه، بؤرةً لهذا التَّأسيس، ويُحيلُ ذاتَه إلى مركزٍ، تتصارعُ فيه، وتتواكبُ معه الأشياء، وخاصةً في قصائدِهِ الطَّويلة، وهذا لا ينفي استفادة الشَّاعر من الموروثِ المُعاصرِ؛ جماليًّا وفنيًا، لشعراء كان لهم السَّبق في هذا المِضمار؛ ولكنَّ الذي يمنحُ تجربتَه خصوصيَّتها ومذاقَها الخاصّ، سعيها الجماليّ إلى التَّجاوز، والتَّميُّز الذي يُؤسِّسُ لهذا الصِّراع المُمكنِ، بينَ الواقعِ – بما فيه – وبين واقع آخرٍ- كائنٍ ونازفٍ- فنجده يقيم بناءً كبيرًا من اللغةِ، ويُصبحُ النَّصُّ، في أحيانٍ، عالَمًا خالصًا من اللغةِ؛ ينتمي إلى عالمِ اللغةِ أكثر من انتمائِه إلى لغةِ العالمِ، ويبدو الحضورُ اللغويُّ للنَّصِّ مُوازيًا للحضورِ الإنسانيِّ، أو مُتقدِّمًا عليه بدرجةٍ، كما في نص: “جسدي وهذه تصانيفُ الغبار” ، ومنه:
” تَتَعَرِّيْنَ
حَانَةً مِنَ الظِّبَاءِ
وَعَليَّ أنْ أُرَتِّبَ حَالاتِي
بِالْجُلوسِ عَلى العُشْبِ، فِيْمَا
تَنْتَشِرُ الطُّيوُر المُضَاءَةُ في السَّمَاءِ
أنْتِ الشَّاهِقَةُ البَيْضَاءُ
وَأَنَا:
نَزْفُ الغُبَارِ.
وَجْهُكِ مِئْذَنَةٌ
الرُّعَاةُ يَذْهَبُونَ في أقَاصِي الكَلامِ
بِالسِّيوفِ وَالشُّموسِ الصَّغِيرَةِ
لا تُوْلِمِي جَسَدِي لِهَذَا الضِّيَاءِ
اكْتَمِلِي في طُغْيَانِكِ – مِثْلَمَا تَكْتَمِلِيْنَ –
وَفِيْمَا أرْتَجِفُ
خُذِيْنِي في انْفِجَارِكِ…
هَذَا المَاءُ ظَمَئِي إليكِ
وَنَاقُوْسِي يَهْجِسُ في الهَوَاءِ
تَتَّسعُ المَرَاعِي.
حُبْلَى بِانْفِجَارَاتِي السَّمَاءُ.
نَهَارٌ مُقاَتِلٌ على المَاءِ
وَأَنْتِ تَجِيْئيِنَ بِضَجِيْجِ الاحْتِمَالاتِ
نَهَارٌ ذَائِبٌ على العَرْشِ
يَنْهَضُ العُشْبُ، مِنْ صَيْحَتِي…
6/6/ 93
تكشفُ النُّصوصُ عن ذاتٍ مُرهفةٍ، وحيدةٍ، تستحيلُ اللغةُ في منطقِها العاديِّ إلى لغةٍ تُشبه لغةَ الخاصَّة، أشبه ما تكون بالإشاراتِ التي تحتاجُ لمن يُكملُها، كما نلحظ في عملِ الشَّاعر وعيَه الكبيرَ بواقعِ الكلمةِ داخلَ الجملةِ وبواقعِ لغة التَّصاريف الصَّوتيَّة؛ صوامت، وصوائت، وفونيم، ومورفيم، داخل البناءِ الشِّعريِّ الخاصِّ؛ ممَّا يُؤسِّسُ حركة التَّشكيل داخلَ النَّصِّ ومستوى الخِطاب فيه، ويجعل القصيدةَ في النِّهايةِ منطقًا مُولعًا بالنَّفاذ وانتصارًا بين شتَّى الهزائمِ التي نلقاها في فضاء النَّصِّ واقعًا فعليًّا وَحَيًّا؛ لذا تأتي فاعليَّةُ الشَّاعرِ في إيجادِ نصٍّ مُغايرٍ بعد نوعًا من التَّحقُّق أوْ الكينونةِ بين عدميَّة الواقعِ المُوغلِ في الانكسارِ وسديميَّة الحياةِ الحاضرةِ، جميلٌ أن نحقِّقَ شيئًا، ولو نصًّا، جميلٌ أن يوجد حيِّزٌ محدَّد الملامحِ والإطارِ وسطَ هيولى العِلاقاتِ والمواقعِ والإمكانيَّات، وكما أشار أمجد ريَّان، في حديثِه عن هذا الدِّيوان، فإن الشَّاعر طرحَ عنوانًا قويَّ الدّلالةِ في التَّعبيرِ عن واقعٍ مشتَّتٍ تنقسمُ أجزاؤهُ وتتنافرُ[10]
فنجده في خِطابه يطرحُ كلَّ شيء لينفردَ بذاتِه كمحورٍ للعالمِ؛ لإعادة اقتباس اللحظة الحياتيَّة الفاعلةِ وكبديلٍ لطغيانِ الأشياءِ من حوله، وانعداميَّة الفعلِ على المستوى الفرديِّ والمستوى الجَمْعيِّ، وهُنَا يبرزُ فعلَ الكتابة باعتباره فعلاً مجاوزًا لبقيَّة الأفعال، وثاني المحاورِ التي تتوهَّج على خريطتِه الشِّعريَّة: محور الكون، لكنَّه كونٌ أُعيد بناؤه وفقَ منظورِ الشَّاعرِ ولغتِهِ، وليست الطَّبيعة في الدِّيوان كائنًا يستبدلُ معطياته في تباديلَ وتوافيقَ عشوائيَّة، كما يُشيرُ أمجد ريَّان في دراستِهِ للدِّيوانِ، بل إنَّ درجة الوعي في اختبار الألفاظِ الكونيَّة، ولا أقول الطبيعيَّة، مُلفتة للنَّظرِ في هندسةٍ بنائيَّةٍ مُحكمةٍ، وخاصَّةٍ:
” كانَ الهواءُ مُموَّهًا بالجُندِ، وكانَ الطَّريق إلى البيتِ بعيدًا، في كلِّ خطوةٍ تطلعُ نخلةٌ في المَدَى، ويطير حمامْ”.
لذا نجدُ أنَّ أهمَّ ما يُميِّزُ هذا النَّصَّ أنَّ شاعريَّته واضحةٌ برغم [11] ارتكانِ الشَّاعر على بنيةٍ إيقاعيَّةٍ ولغويَّةٍ مغايرةٍ؛ وذلك باستقطابه لمفرداتٍ بالغةِ الحساسيَّةِ، في إيحاءاتٍ شعرية خالصةٍ، ولكونه أيضًا يعتمد معنى قويًّا له رؤيتُه الخاصَّةُ؛ التي تُفجِّرُ طاقات الشِّعريَّةِ، وفي هذا السِّياق يُشيرُ عبد الله الغذّامي، في سياق حديثِه عن شِعريَّة النَّصِّ، أنَّ الشِّعريَّة كثيرًا ما تستأثرُ بالنَّصِّ الأدبيِّ، ويستأثر بها- “لأنَّها سببُ تلقِّيه كنصٍّ أدبيٍّ، وبدونها لا يحظى النَّصُّ بسمتِه الأدبيَّة، والنَّصُّ يأخذ بتوظيفِ الشِّعريَّة في داخله ليُفجِّرَ طاقات الإشاراتِ اللغويَّة فيه؛ فتتعمَّق ثنائيَّات الإشارات، وتتحرَّك من داخله؛ لتقيمَ لنفسِها مجالاً تُفرزُ فيه مخزونَها، الذي يُمكِّنها من إحداثِ أثر انعكاس، يُؤسِّس للنَّصِّ بنيةً داخليَّةً، تمتلكُ مقوماتِ التَّفاعُل الدَّائم، من حيثُ إنَّها بنيةٌ ذات سمة شموليَّةٍ، قادرةٍ على التَّحكُّم الذَّاتيِّ بالنَّفسِ، ومؤهَّلةٍ للتَّحوُّل فيما بينها؛ لتوليدِ ما لا يُحصى من الأنظمةِ الشِّعريَّة فيها حسب قدرةِ القارئ” [12]، باعتبار أنَّ النَّصَّ يتعدَّي مجرَّد البناء إلى تلخيص التَّناقُض- كما هو عند الشَّاعر- الحاد الذي يعتمدُ على الإغرابِ الطَّريف ، وعلى الطَّزاجة اللغويَّة المُغرية، في هدم ثوابتِ التَّقليد، التي تصدم الحسَّ أحيانًا بهذه الغرابةِ، وتُحاولُ رصدَ الأُطروحاتِ في الواقع، وكطريقٍ موحٍ لتعويضِ بنية الإيقاع الثَّابتةِ المُتكرِّرةِ؛ لذا نُحسُّ بانبثاقِ شاعريَّةٍ جديدةٍ بين ثنايا اللغةِ، على حدِّ تعبير صلاح فضل، في معرضِ كلامِه عن تجربةِ محمد الماغوط[13]، وبذلك لا تتعطَّل الشِّعريَّة بمجرَّد التَّخلي عن بعض مقتنياتِ الفِعلِ الشِّعريِّ التَّقليديِّ، وللدَّلالة أيضًا على تفجُّر الشِّعرِ فقط عن طريقِ اللغةِ وحرثِها وتناقضاتِها الدَّالة، كما تشي بذلك خريطةُ اللغةِ التَّصويريَّة عند الشَّاعر في قوله:
“الذِّئبُ في أنْقَاضِ الليْلِ
يَتَمَطَّى
وَالغُبَارُ يَدْخُلُ القتلى
فينقلبونَ على جُنُوبِهِمْ
مُهْطِعَيْنَ
فِيمَا تُحَلِّقُ القَوارِضُ
فَوْقَ رَأْسِي العَابِرِ
وَالْجِمَالُ تَذْرَعُ السَّمَاءَ
يَمُرُّ الجِدَارُ أَمَامِي
بِنقوشٍ ناقِصَةٍ
ِلجنودٍ وسَعَالي
وَصَيْحَاتٍ باهِتةٍ لا تَنْتَهِي
أنْتِ غَائِبةٌ
وَبِالزَّوَارقِ تَمْلئِينَ الهَوَاءَ
السَّرَادِيبُ تثَّاءَبُ بالدُّخانِ
أَنَا قادِمٌ
أيُّهَا الاشْتِعالُ البَهِيجُ
ذِي خُيولِي…”[14]
فمزجُ الذَّات بتناقضاتِها والواقعِ بتناقضاتِهِ، مع بسطٍ لغويٍّ جادٍّ، ورؤيةٍ نافذةٍ متخيَّلةٍ، يُؤدِّي في النِّهايةِ إلى خَلْقِ كونٍ لغويٍّ ونفسيٍّ، يُمكِنُ أن يصنعَ صورةً شبه متكاملةٍ لدراما الحياة الإنسانيَّة كما هيَ موجودةٌ، وأيضًا كما يُمكِنُ أن تُوجدَ، ولكنَّ هذا الاشتباك اللغويَّ وتعدُّد المداخل الكلاميَّة ومخارجها، والانتقال بالأفعالِ والضَّمائر من صيغٍ إلى أُخرى، وتطريب ياء المتكلم على هذا النَّحو، وهذا التَّناقض قد يُؤثِّر بشكلٍ ما على وضْع النَّصِّ في إطار المخصوصِ من المنطقِ؛ فهيَ نصوصٌ خاصةٌ لكسر ما هو مُؤطَّرٌ وتقليديٌّ في الشِّعر، إلاَّ أنَّ نجاح الشَّاعر في رسْم صورةٍ خاصَّة للذَّات وللكونِ وللواقعِ، عن طريق التَّصوير، جعلَ النَّصَّ مفتوحًا أمام الاستقراءِ والتَّدليل، وخاصةً تلكَ المُقطَّعات الدَّالة؛ التي تنبي عن قدرةٍ جماليَّةٍ، وفعْلٍ لغويٍّ خاصٍّ: ” كفُّكِ غيمةُ الرُّعاة ألمُّكِ باتِّحادي وتُطيِّرُني رياحُكِ. 7/ 6/ 93
التفَّتْ السَّاقُ بالسَّاق إلى هدمِكِ العَاتي المَسَاق. 7/ 6/ 93 ” [15]
وبذلكَ فقد وضَعَ شريف رزق نفسَه، في ديوانِه الأوَّل، في إطارِ الشُّعراءِ أصحابِ الرُّؤى الخاصَّة، والمُفجعَةِ، والرَّائعةِ، في الوقتِ نفسِه، بما لديه من رؤيةٍ للعالمِ، ورؤيةٍ لغويَّةٍ، ونفاذٍ للضَّميرِ في سماءِ الشِّعر.
المراجع
[1] حامد أبو أحمد – نقد الحداثة – كتاب “الرِّياض” – أغسطس 1994- ص:160. [2] نفس المرجع – ص:161. [3] شريف رزق – عُزْلة الأنقاض- 1994- ص :10. [4] عُزْلة الأنقاض – ص ص: 10- 11. [5] أنريك أندرسون امبرت- مناهج النَّقد الأدبي- ترجمة الطَّاهر أحمد مكي- دار المعارف- 1991- ص :184. [6] عُزْلة الأنقاض – ص :11. [7] عُزْلة الأنقاض – ص : 15 ، 13 . [8] حامد أبو أحمد – نقد الحداثة – السابق – ص:171. [9] عُزْلة الأنقاض – ص ص:81 – 85 . [10] انظرْ – أمجد ريان – مجلة: “الشِّعر” – شتاء 1994 – ص:82. [11] عُزْلة الأنقاض – ص :77. [12] عبد الله الغذامي– الخطيئة والتَّفكير- الطَّبعة الثَّانية -1991- ص ص:22-23. [13] انظرْ– صلاح فضل– مجلة: “العربي”- عدد يناير 1995- ص:133. [14] عُزْلة الأنقاض – ص: 68. [15] عُزْلة الأنقاض- ص: 85.
ثمَّ في كتاب: نظريَّة السَّرد في الشِّعر المُعَاصِر، للدّكتور: محمد زيدان.”
|