-2-
استغرقتُ مكانًا أبديًا قبل أن أنطرح كالغصن الأشنع. حملتُ فقراتي بيديّ وخطوت في دُبالِ الأرض. وأدخنةٌ بطعم الصداقة والوحدة تتصاعد من رأسي المشتعل. قلت أسير في تأويل الأرض. قلت أتبع في شريعة السطوح خَطَاطَةَ القَوادِمِ. ها أنا ذا أرسل عينًا نافذةً على البحر. ها هو البحر أَرَمدُ، ومُشِعٌّ تحت جمرات الأرض القديمة. لا يكاد الفَرْطُ يفرد عباءته بالفراق حتى تتهافت جدران الخلايا العازلة، وأربطة التمحلل في الزمن. الهدْب للأرض التي حبلت سوامقَ من آكلات الضوء. الجفنُ للنار التي وهبتني على الصغر أشباحًا ولاهوتًا. يجيء أخي أكثرَ منه. يرقد جواري في قواتم الأزمنة في سحيقٍ. يتكلم عن السِّريال وهو بعدُ طفل. إن كونَكَ طريٌّ بعدُ لا يحتمل التفكيك. أيّان يهمسْ يجدْ أخوه تجسيداتٍ وأباطيلَ. وهواء الليل يرينُ، ويمتلئ بالليل. الليل صلصال التآويل. وأنا أخطو بقاع الأرض. عباءتي الدخان، وقلبي تآكل منذ زمان. وأنا أضع المكان. وأنا أبدّل المكان. وأنا أقتلع المكان بأظفاري كالهيكل من قعر الزمان.
القوادمُ يأتون أسماكًا تفوح منها سيماء البشر، وبشرًا تلوح عليهم سمة الأسماك. كلُّ وحشٍ عظيمٍ انفجارُ التشوهِ في الخليقة، وكل خليقة مشوهة بوحشها رهينة. أيهذا الفناء المتمازج بالكون، لو لاك ما كان زمان ولا صيرورة. الأرض أرضٌ لم تزل قديمة. وأخي ينطق الكلمة التي تبحر في الكون مثيرةً سلاسلَ المجردات وفقاعات الأشياء.
أخي يخاف الوحش. والوحش يقضمني في نظرة بهيمية مخيفة. أبتسم رغم ما ينقص منّي الفكّان. وأقول أنني خيرٌ وأنا. لكن أخي لم يزل يخشى. وغشاء الليل يقشعر من خشيته. يمسك بلوامسي ويهمس لي بسر خوفه. لا موتَ إلا الموتَ ولكنّ الخوفَ عتيدٌ. وحين أسمع همساته في ظلمةٍ تنسكب، تضرب أذنيّ غلائظُ الأصوات ومنكرها، متآلفة، خالقةً من العدم كتلةً صماء لا معالِم لها ولا حجم. لا تحملها الأرض. وينوء بها الفراغ ليتقعر ثم ينثقب. كل شيء يتلوى ويتقعر حولها، وهي سرطان من الوجود. وانحنى الليل تحت كلكلها واهترأ. وانبجس الضوء الناصع من حولها، يعمي ما لا عينٌ نشأتْ له.
وكان عالَمٌ من الضوء، الضوءِ فحسْب.
-3-
للكتل المهولة في الكون صوتٌ كالوحوش. وللزمان أنينٌ غليظٌ خفي، لا يدركه البشر إلا حين يتوقف. كان الضوء المنبجس كالينابيع من خرَقِ الظلام المشتتة يملأ الفراغ المنقعر كالخمر الفوّار. للضوء صوتٌ حين يملأ الفضاء ويطوّشُ الموجودات. كانت قطراته تتناثر على كل شيء مصابيحَ ولهبًا. كان النور في البدء شريرًا. كان يُحرِق ويُفنِي، ثم استأنسه الرب وكان عصيًا. لا عاصم اليوم من سطْع النور. بم التجفّنُ: لا هدْبٌ ولا جفنٌ ولا غلاف.. ولا سر ولا فؤاد ولا شغاف! الكل مضاء والكل محترِق. كان العالَم طويلاً ثم نهض على الضوء من الكون. والصُّورُ رنين ساعةٍ تعلن نفاد الزمن. الساعة صِفر، والملائكة يمتطون مهرات الضوء، والله يأتي. كان الجبارون يمزقون آخر أشلاء الظلام المرتعشة بالسّكَرات بسيوف البروق. والحرب ضوءٌ وكهرباء. كل كهربٍ يسبح في حوض ضوئه، ويتقافز منتشيًا. والله كهرباءُ ماردة في جسد الكون. وأخي يدخل قوقعته ملتفًا كالجنين الذي لم ينفضّ. تنصرف عنه قطعان الأرحام. والله يأتي.
-4-
كانت كلمات الموج تآويلَ العتمهْ
والعتمةُ مسكونُ الأحياء اللائي تتفرع فيها أشرطة التجسيدِ،
وتغمرها موجاتٌ من بحر الصرخة لشطوط التغريدِ،
وكل من كلمات الموج ينادي كائنَهُ،
يبعثه من تحت الموج المختلط بطين الخلقةِ،
وبتعزيم السحرةِ،
وبطمث الغيمهْ
تطلع من قاع البحر شِعابٌ ومفاصلُ،
وشتاتٌ من أنسجةٍ شيطانياتٍ،
ولوامسُ ترتعد بشهوات بِكْريّاتٍ،
وحشودٌ مما يتألّمُ،
يبني حول النفس القوقعةَ،
وتخرج أزواجُ محاراتٍ،
كانت قشرًا من قشر السمكِ،
انفصلتْ، سبحتْ، واحتوت الكائنَ،
والأسماك تفتّح أعينها وترى النورَ،
ويخرج منها الدرفيلُ،
ويتصاعد موجٌ ينسكب على حافة كأس الكونِ
إذا استوت الآن على سطح البحر الحيتانُ،
أَصَمّتْ أصحابَ الأسماع بمُتَّصَل الصرخات الملتحمهْ
وعلى الأرض الطحلب يزحفُ،
يخرقه كالرمح العشبُ،
لينفجر اليخضور الزاهي أشجارًا،
تخرج من صحراء الأرض،
ومن قطع المدن المنهدمهْ
الدببةُ تتأهّبُ،
والأنيب السيفية تَنشُبُ،
والأطيار على وجه الريح جناحٌ أحدٌ أشهَبُ،
والجن مع الإنسانِ
مدينة ألم واحدةٌ منحطمهْ
يخرج من جسد الإنسان الظلُّ،
ومن جسم الجن النارُ،
ويضرب شرر النار بفحمة رحم الظلِّ،
فتظهر كالشبح صفوف الأشباهْ
ومن الأشباه تخارجَ مخٌّ لزجٌ،
يبرك، يتطفل في جسم الأرض، ويفرز فيها الكلمهْ
يتلو فيها أعصابًا وصَلاهْ
يقرؤها الرعد، يرددها،
وبجسم الأرض الميت يعشب برقٌ
يؤلم كل الأحياءِ،
يقول أنا،
وأنا،
وأنا اللهْ!
-5-
تلك الصرخات الممتدة البعيدة. أكثر امتدادًا من البشر وأبعد منهم. كانت صرخات كل شيء يسري الإله بكتلته برقًا ورِعدة. القشعريرة وحي يقرؤه جِلْدُ كل شيء، والألم نبيّ. ليس الإله مشكاةً، بل ضوءًا أليمًا. القدرة الإلهية ألمٌ فوق الإرادات، فإن ذهب فكل شيء مباح. كنت أتقن تأويل الوحي بالهرمنيوطيقا، وكان أخي يتقنه بالشيزوفرينيا. كيف يمكن تأويل الألم ولا مجازَ له ولا فيه التباسٌ؟ خارقُ الوعيِ، ابنُ الحقيقةِ، مُخْرِسُ الكلمات. كفرتُ بالأنبياء وآمنتُ بالآلمين. قلت لأخي: فلنُعِدْ ما كتب دارون من قديمٍ، ونُسلسل الكائنات في دَرج الألم. قلت لأخي: كان الإنسان أكثر شيءٍ ألمًا. لكن بيوت العنكب كانت تملكه. يتلو إنجيلَ الشيزوفرينيا ويقول: الجنون أقوى سلاح. الجنون درعٌ يحمي من ألم الله. وأنا المجنون سأخرج للضوء وأعرَى. إني المجنون سأفتح عيني ودماغي، وليذهبْ كل إلهٍ بما أضاء. إني المجنون سأحلم ليتجسم حلمي عنكبوتًا ينسج النوم على العيون، ويغزل الليل رداءً رحيمًا على كل شيء مسلوخ في النور. تعال يا كل شيء وقف معي. وأنا مَنْ معي. حين أتقلص أمام النور، فأنا أتملص من قبضة الله، وأكون مظلة الكينونة، فوق الوجود الملتهِب.
وكان أخي يذهب. وكنت لا أصدقه، لكني أذهب معه.
-6-
غيمًا أمطرني |
ينشع في كبدي |
بردٌ في بدني |
أخضرَ مبْتَلا |
كنتُ، وقد كانت |
أُسكنني جسدًا |
أمي تحملني |
أخرج من جسدي |
آكل من رحمٍ |
أخرُج من رحمٍ |
أُمطر من بردي |
يأخذها شكلا |
بردٍ يغزوني |
معطفها جِلدي |
يسكن في جِلدي |
تخلع أحذيتي |
وأراقص بنتًا لا |
أخلع معطفها |
تلبس شيئًا |
أحدًا من أحدي |
إلايَ، وإلا |
إلايَ، وإلا |
أحدًا من أحدي |
تلبس شيئًا |
أخلع معطفها |
وأراقص بنتًا لا |
تخلع أحذيتي |
يسكن في جِلدي |
معطفها جِلدي |
بردٍ يغزوني |
يأخذها شكلا |
أُمطر من بردي |
أخرُج من رحمٍ |
آكل من رحمٍ |
أخرج من جسدي |
أمي تحملني |
أُسكنني جسدًا |
كنت، وقد كانت |
أخضرَ مبْتَلا |
بردٌ في بدني |
ينشع في كبدي |
غيمًا أمطرني |
بللاً مبتلا |
ينشع في كبدي |
قتلا منقتلا |
قتلا منقتلا |
ينشع في كبدي |
بللاً مبتلا |
-7-
كان زحامٌ من الهُلام يخرج ليشاهد الصراع الراجف بين الفاطر والمفطور. وكانت حبيبتي تريد أن تنظُر. وكنت أخلع أجفاني وأمنحها إياها كي لا ترى. كان النور يتجمع فائرًا. الانفجار عضوٌ من أعضائه، والنار أفكاره. ولما صار كل شيء في غضبته يشتعل ويذوب كالشمع، ولما صار الشمع من خشيته يشتعل ويذوب ككل شيء، سألتنْي، قلت لها: هذا الذي لا نستطيع إغماضَ أعيننا دونه، هذا الذي حرمنا الليل، هذا الذي سلب الحلمَ، وقتل الظلال، هذا الذي سطع فأحرق الجلود، وبخّر البحار، هذا هو الإله بلا حجاب. وحين يكون هو منكشفًا نكون نحن عرايا. والكوكب يدور تحت إشعاعه شوّاية لحم يتصاعد منها دخان البشر. هولوكست الكون يوحّد بين الأعراف، ويُذيب التفاصيل.
ما طموحُكَ؟ قالت. قلت: أعبر من خلَلِ النور. لا وطن لي إلا ما لا طريق له. لا أمل لي إلا فيما يثمر في أرض اليأس. ولا حلم لي إلا ما بدده ضوء الواقع. كوني لي فراشًا رطبًا فقد زمّلتْني سجادة الجروح. شَعرُكِ أسطورةٌ قديمة ترويها وسادتي، وتقرؤها أنفاسي. نهداكِ كأسان من ثمرتين تنبتان أبدًا مختمرتين، لا يُشرَب منهما إلا بعصرهما، وأقرعهما معًا لأشرب في حانة ليلة ابتعدتْ عنا مذ غشّانا الضوء. بطنكِ كعذابي إن لم تحملني كجنينٍ يهفو نحو التكوين. فرجكِ مخبز أعصابي. أخبزها في الليل وأخرجها طازجةً في الفجر. فخذاكِ خبزي ومعيشي. ساقاك وقدماكِ تحملان أرض المدينة وليلها. سيري على السماء مقلوبةً وامسكي رأسي براحتيك وارفعي وجهي إليك وقبّليني. كوني امرأة كالكون لا أخرج منها. كونيني أنا، ثم عودي أنثى.
بإخلاص/
يا حبيبتي.
-8-
كان الجنون يشق الضوء بظل رهيف كسم الإبرة. كانت هذه هي لعبة أخي الأخيرة الجنونية. أرني كيف تعبر من هذا الظل، بجسمكَ، بأسفارك، بأحلامك، بسفرياتك، بأرضك الأخرى، بفَتاتك، بغرورك، وخوفك، وألمك، وفزعك، وشكك، بذاكرتك التي تسربت لها المياه، بأوهامك التي عرتْها الريح ورآها الناس، بأشواكك التي انكسرت ونشبت في الحيطان.
كنت أخطُر في المحنة والملحمة. هل معركة مع الألوهة أم مع الجنون؟ مع الضوء أم مع قوس الطيف؟ لا أقارع الجنون وأقارع اللاهوت. الآلهة خصومي المعتادون، أتحداهم ولا أتحدى المجنون. اللاهوت مدخنة مسدودة والعمل على تسليكها مهنة قذرة، لكنها مهنتي ومعاشي ولا أعرف إلاها. لكن الجنون البشري بيانو عظيم يُخرج شواذ الأنغام ويجب إصلاحه. أنا ألقي بمخي كتلةً واحدةً كي يزيل بهبوطه السناج والعنكبوت والتراب وموتى الطير العوالق، لكن ضبط البيانو لا يصلحه هذا العمل الخشن القوي. قلت أمد يدي في الشق الأسود. قلت الأسود لوني، واللون سوادي، والأسود كل الألوان. هذا كفي يخرق جسم الضوء فيظهر من خلف الضوء عظام الكف. ها رأسي يعبره فيضحك كالجمجمة من البُعد الآخَر. فقراتي تزهر وتتألق كحبات المسبحة من خلف جدار الإشعاع. حملتُ فقراتي بيديّ وخطوتُ. كُلّي الآن على الناحية الأخرى أقف بلا ضوء. أنا خلف الله، وراء النور، وراء الإبصار، وبعد الكينونة والكائن، بعد المخلوق وبعد الخالق، بعد العقل، وراء النور.
-9-
#
24-25.7.2014
Köln