محمد ناجى حبيشة
إن قراءة نص يعنى قراءة سطحه الأول بانتباه شديد، ثم الدعوة الى تفكيك جديد لشيفرته، وذلك لا يلغى الفهم الأول، ولكنه يكشف النقاب عن سطح آخر.والنص الحقيقى لايكون تناغمه الداخلى كلاماً، بل يكون حياة، والخوف كل الخوف أن يكون للنص لمعة كاذبة، ولابد للنص أن يتفاعل مع عقل المتلقى ليدخل فى صخب الدلالات، ومعانقة النص.
لا أريد أن أرى نفسى محاصراً بين ما يطلبه الكاتب من قارئه التخيلى، أو الحقيقى، ومايراه الناقد، وسأحاول هنا، أن أهرب من تلك الجدلية، والآن سأجول فى رواية: “دماء على جسر التايمز” للكاتب والناقد السيناوى المصرى / حاتم عبد الهادى السيد، لنحاول الولوج الى العتبة النصية الأولى فى اختيار العنوان، حيث أن هذا الاختيار فيه مراوغة ذكية، فالدماء ليست على نهر التايمز ولكنها على الجسر، والجسر هو المعبر بين أرضينْ، ولو استعملنا النقد التأويلى الذى يقول عنه “شتراوس”: انه يشيع فى النص الشكل الاستفهامى للفكر، فالكاتب من سيناء من الشرق، بسلوكه، وقيمه، وعاداته وتقاليده، فكيف يصل الى الى الجانب الاّخر من العالم الغربى سوى عن طريق الجسر، وهذا الطريق ليس معبّدا، ولا مفروشا بالورود، ولكنه طريق يسيل على جسره الدّم.
كما يظهر فى هذا النص/ الرواية ظاهرة تحييد النوعية، وظهور النصّية، وقد تمت المصالحة بين الأجناس الأدبية داخل هذا النص، وتنازل كل جنس فى هذا العمل عن بعض خصائصه، وتم عمل مصالحة بينهمظن وتلك حرفية كاتب عالم ببواطن الرواية وجوهرها الأسنى البديع.
وتقع الرواية فى خمسة فصول، تدور محاورها كلّها عن المرأة:
فالفصل الأول يبدأ ب: “ربما أعجبتك الفاتنة الشقراّء”، والفصل الثانى يبدأ ب: “دقّ الباب وتطل سالى برأسها”، والفصل الثالث يبدأ ب: “عادت سيمون”، والفصل الرابع:” تناسى مايكل لقاء سيمون”، وكذلك الفصل الخامس: ” فى حديقة الشيطان التى يكثر فيها المجون، وشرب الماء، والدماء”.
ونظراً لأن العلاقة بين العنوان والنص احتمالية،وتدخل فى المراوغة، فقد بدأ الكاتب ب: “دانيت”، ثم دلف الى مروة السورية، ثم انسلّ الىهايدى العراقية، ثم الى محبوبته جولييت التى قتلها رصاص الغدر الصهيونى على”جسر لبنان”، لنرى المقابلة بين جسر لبنان،وجسر التايمز، ويخرج الكاتب من المشهد الحزين بتلاوة الشعر على لسان مايكل:
الفستق الحلبى فى فمها
وفوق الخد فاكهة
وفى الشفة ابتسامة
ماتت على الجسر الحزين
هناك.. فى لبنان فى قانا.
ولم يرق للكاتب أن يظلّ فى مشهده فحسب، بل رأيناه يدلف بنا الى حزب الله هناك،ومزارع شبعا، ثم ينتقل الى سالى العراقية، ويعود ليحيلنا الى حزب البعث وما فعله من تشريد للكثيرين، وتلك لعمرى حيلة وحصافة ماهر بدروب اللغة والوصف عبر الزمان والمكان.
ثم يعود الراوى الى جولييت ص 23 فيقول: ” لكن السنوات مرت ولم يأخذ لها بالثأر من الصهاينة “، فهو هنا لايريد أن يخرج من دائرة السياسة فينهى المشهد ص 24 بلغة فيها المرارة فيقول: ” أيتها العروبة الضالة “.
وفى صفحة 26 تظهر علامات الشعور بالغربة والاغتراب فى سؤال هايدى لمايكل: ” ما معنى الحرية يامايكل، وهل نحن سجناء الغربة ؟ أم أننا فى أرجاء العالم نهيم كتائهين فى صحراء الحياة “.
ثم ينتقل الكاتب بحسه الدافق فيكتب عن موسيقا السيكو سيكو، وأنا لم أسمع بها من قبل، فهل هى موسيقا أوبرالية، أم موسيقى شعبية، فلقد أدخلنا الكاتب بهذا الى متاهات التأويل.
ونرى الراوى يخرج من المتاهة ليحكى لنا حلماً، ثم نراه يدخلنا فى فنتازيا جميلة العرض، ويعود فينهى الموضوع بكلمة: ” تمت ” لينهى هذا المشهد السينمائى ص 51.
وفى الفصل الخامس من الرواية يظهر لنا المؤلف أن بريطانيا لاتعنيها الأخلاق، ولا القيم أو مبادىء حقوق الانسان وغير ذلك مما تزعم، فقد نقلت ” حديقة الشيطان:” الى مكان آخر، وليس لأنه يمارس فيها الفسق والفجور وشرب الدماء.
وفى صفحة 100 أرانى قد فزعت من ظهور شخصية المقدم / حاتم عبدالهادى كضابط للمخابرات المصرية، وقد أحسست أنه يحاول أن يكون له دور، فى كشف مؤامرة الأوغاد على الوطن العربى ، ومحاولتهم زعزعة الاستقرار فيه.
ولقد بدأ الكاتب روايته بجسر التايمز، ثم أنهاها بجسر لبنان فالذى اشتاق الى الغرب بصخبه وملذاته وجمال صورته الخارجية رجع الى جسر لبنان، عبر تقنية الفلاش باك، فهذا الجسر ” رايح جاى “.
ويتدخل الراوى كثيراُ كما فى صفحة 77 شارحاً كيف يتم تقسيم مصر والوطن العربى كما يريد الأعداء.
ولى سؤال غير برىء: هل الكاتب يتجسد شخصية مايكل، فى صفحة 102: ” مايكل يكتب القصص والأشعار،وهناك فرصة ليتعرف الى الكتاب الأمريكيين، فهل الراوى فرض شخصيته على الأحداث والشخصيات، أم تدخل برؤيته السياسية واصفاً الاخوان: ” هذا التنظيم السرى الذى يحاول العبث بمقدرات الشرق الأوسط ،ذلك التنظيم الذى تتزعمه بريطانيا وفرنسا وأمريكا، وان كانت هذه حقيقة لكنها تدخّل من الراوى ورؤيته.
ولقد عرض لنا صورة عن حزب الله، وحزب البعث، كذلك على لسان الشخصية، فى مسألة الديكتاتورية التى تمارس ضد الشعب العراقى.
ورواية حاتم عبدالهادى مليئة بالنساء الحسناوات، ورغم أن الدماء على جسر التايمز، الا أننا معجبون بأن هذا الجسر هو ملتقى العشاق: ” نهر التايمز بسحره الرقراق ملتقى العشاق “.
والكاتب يعرض ثقافته المتعددة بطريق غير مباشر، وهذا محمود له، حين تحدث عن شهرزاد وثقافتها العربية كما تحدث عن آلهة الأوليمب.
كما عرض لنا بمهارة حيل مايكل الدفاعية التى يهرب فيها من الخيبات السياسية والحياتية الى السهر والمجون واللهو، وهو ليس كذلك، فهو يريد الانتقام من الصهاينة الذين قتلوا حبيبته جوليت على جسر لبنان.
أرى حاتم عبدالهادى فى هذه الرواية كاهناً فى معبد الحب، يجمع بين رقة الاحساس وشراسة المقاومة، ولا تنفصل عنده صوفية الروح عن غرائز البشر.
وهو فى هذه الرواية تقاربت عنده الأجناس الأدبية، ونزل كل جنس عن بعض خصائصه، فقام بعمل مصالحة بينهم، وتم تحييد النوعية، وسادت النصية، وتصدرت الغلاف كلمة رواية، بينما نراها كتابة عبر النوعية.
والكاتب فى الأصل شاعر مطبوع وسارد كبير، يجيد السبك اللغوى، ويعرف أبجديات التذوق الأدبى حتى حينما يتدخل فى النص كراو، وكناصح، وعليم ببواطن الأمور، وهذه كلاسيكية فى كتابة الرواية، وليست تهمة، كما يهتم الكاتب بالأحداث وتراكمها، وقفزه عبر الأزمنة، الا أنه يتخد أسلوب الرواية الحداثية فى لغة الجسد، ويستخدام الموروث الثقافى والاجتماعى كما يتعرض لعلاقات الانسان بالعالم.
وأنهى قراءتى للرواية باهدائه، كما جاء فى مقدمة الرواية، حيث يقول: ” الى الرواية، الرواية ذاتها، الرواية فقط،ولا أحد سواها، لعلها ترضى “.