علي الراعي
كل هذه العذوبة، كل هذا الشجن، كل هذا الحس الإنساني الغائز والدافق معا، كل هذا الشعر، كل هذا القدر من التحكم القادر في مادة الرواية، تحكم يغضي حينا ويبوح حينا، كل هذه المقومات تجعل من رواية مي التلمساني “دنيا زاد” علامة مضيئة فارقة في الرواية العربية، وفي أدب المرأة على وجه الخصوص. اليوم أردد من جديد هتافي الذي صحت به في أوائل التسعينات: “المجد للرواية العربية”، فهذه الرواية تقتحم على المدى ميادين جديدة، وترتاد آفاقاً كانت غير معروفة.
انظر إلى جولات محمد البساطي في اطراف الدلتا وبين اخلاط من النساء تجمع بين التفرد والانسانية معا، اذكر بهاء طاهر وعلاء الديب وجميل عطية ابراهيم في الرواية الإنسانية والسياسة وتأمل خيري شلبي وتمرسه بحياة الناس في قاع قاع المجتمع واذكر اعمال ادوار الخراط الواقعية الرمزية معا، وقارن ما شئت بین ماکتبه صنع الله ابراهيم وابراهيم عبدالمجيد في مجالي الرواية التسجيلية والرواية التي تقدم الناس والسجل الاجتماعي معا. ولاتنس ماقدمته ميرال الطحاوي في «الخباء»، اذ صورت لنا حياة البدو في أطراف الصحراء على مقربة من حضارة الزرع وحياة المدينة وغير هذا كثير.
الرواية العربية تمتد طولا وعرضا وعمقا، ويعلو قدرها باطراد بكتابة المبدعين المصريين والسعوديين والسوريين والليبيين والتونسيين والجزائريين والمغاربة والسودانيين – واليمنيين والعراقيين والكويتيين. رقعة واسعة وفيض من الكتابة يؤهل الرواية العربية لاقتحام حدود المنطقة وبلوغ حدود العالم.
اليوم نحن أمام تجربة فريدة حقا. هی على حد علمي غير مسبوقة: هذه رواية عن أم شابة تفقد جنينها. يموت الجنين. وكان بنتا. لأن المشيمة التى كانت تضمه قد انفصلت انفصالا تاما عنه. تموت البنت التي لم تولد بعد. فيخلف للأم شعور ممض بأن رحمها قد كان قبرا لابنتها. كان الزوج والاقارب والاصدقاء قد كتموا عنها خبر موت البنت في البطن، قالوا انها اخذت إلى الحضانة ولكنها لم تستطع مواصلة «الحياة». سمت الأم ابنتها الميتة: “دنیا زاد”، مستعيرة من الف ليلة اسم البنت التي قتلها شهریار فتقدمت شهرزاد لتجعل منها فدية لكل البنات اللواتي انقذتهن من سيف الجلاد بحكاياتها في الليالي الألف والمائة، أرادت الأم أن تكون «دنیا زاد» فدية لبنت اخرى تلدها وتتمنى لها أن تعيش. بعد أن علمت الأم بحقيقة ما وقع جاءوا لها بالصغيرة الراحلة جاءت دنیا زاد «تودع» امها كانت في أكفان بيضاء صغيرة: عدة لفات من الشاش النخليف وثلاثة أربطة عند الرأس او القدمين وعند الخصر، وملاءة كبيرة تضاعف من حجم الجسد النحيل.
أطل وجهها تحت غطاء من القطن الطبي نظرت الأم إلى الوجه المستدير المائل للزرقة: العينان مسدلتان والأنف صغير والفم يشبه الهرم شدید الزرقة. من بعد أصبحت الأم تعيش في ذكرى وجه أزرق اللوم تراه فوق صفحة السماء في الصباح، وفي تموج اغطية الفراش إلى جوارها حيث يحل المساء.
تستخدم «مي التلمساني» الصور تعليقا بيدي أحيانا جرح المفارقة، نامت الأم مساء الثلاثاء التالى لموت دنیا زاد ثم صحت علی جلبة ميلاد جدید تعم ممرات الدور الرابع كان الطبيب يهنئ الجميع بمولودة جميلة، قال : بعد ساعة نأتي بها إلى امها. أختلطت أصوات في الممر، وضح فيها صوت الأب، وصوت طفل صغير يغار من المولودة الجديدة، الغرفة المجاورة فيها فرح اكيد والصمت يعم غرفة الأم. كان الزوج نائما، وارتسمت في فضاء الغرفة صورة غائمة لدنيا زاد ولم تكن الأم قد رأتها بعد، وتستخدم «می» الصورة أيضا لتجمع بين الأضداد: الموت والحياة. حملت الممرضة الكفن فتلقاه منها الزوج وأخو الزوجة ووضعا “دنیا زاد” في سلة اشترياها من بائع زهور قريب، وغطاها الزوج بالورد فصارت مثل حديقة صغيرة أينعت لتوها . وكان الوقت آخر شهور الربيع، في سيارة الأخ الأكبر استقرت سلة الورد إلى جوار أم الزوج.
ساد المقابر هدوء غريب. الطرق المتعرجة تثقل عليها نهاية ربيع حار هبط الكفن وحيدا، وترك الزوج سلة الورد للأطفال الصغار، من بعد جعلت الأم همها ان تحارب الموت، أن تلغي الفقد. أن تحيله حياة جديدة, ومن ثم سعت الى ابقاء دنیا زاد حية دائما، كأنما لم تمت قط. واجتذبت زوجها اجتذابا جريئا کی تنتج منه مولودا أخر، فضلت أن يكون بنتا۔ وشغلت انشغالا عذبا بابنها الأول والوحید: شهاب الدين، ذي الأعوام الأربعة. جاءها ذات يوم يقول لها ان في افصيله بنتين كلتاهما تحمل اسم “سلمی” احداهما جميلة والأخرى غير ذلك. اشجعته الأم على ان يوثق علاقته بسلمی الجميلة، وجعلت تعينه على اختيار اللعبة التي سوف يقدمها لها هدية، قال شهاب الدين، أنا أريد أن أتزوجك انت ياماما؛ فقالت الأم: انا متزوجة من أبيك ياحبيبي. أحس الولد بالارتياح، لأن هذا سوف يريحه من أن يحمل هم الأم. اما دنیا زاد، فقد قرر انها عادت إلى بطن الأم حتى تكبر وتواصل الحياة
لیست رواية «دنیا زاد» اذن مشغولة بالموت على نحو كئيب. انها تحاول ان تفهمه. أن تتخطاه. أن تفتته إلى مفردات تنبعث الحياة من كل واحد منها. ان تحتويه وتفسره. تنظر الأم إلى صفحة الوفيات في صحيفة الصباح ترى فيها صورا لأناس عرفتهم، قابلت احدهم في احد الممرات وتبادلت واياه التحية على عجل. قال لها: أحدثك بالتليفون. وضرب موعدا، ولكنه نسي الموعد وقتل الفرصة وهاهي ذي صورته تظهر في الصفحة صاحبها يبتسم، وعضلات وجهه تتحرك وتقول: كان هذا الوجه حيا. الزوجة التي کانت تتالم من كسر قديم في ساقها. اراحها زوجها ووضع تحت ساقها وسادة. الزوجة الآن تبكي، تتطلع إلى صورة الزوج في صفحة الوفيات! الحياة مؤقتة. وتصاريفها لا منطق فيها، الاعلان عن الوفاة بالصور والأعمدة الطويلة محاولة لتجاوز الموت، لإلغائه. غير أن للأم وسائل اخرى «اكثر فائدة. تسمع وقع اقدام حافية فوق بلاط مصقول، في التصاقها بالسطح الناعم تصدر صوتا يحتويها، حين تفتح عينيها تجد نفسها صغيرة لم تتعد الثالثة صغيرة ونحيلة ومبتسمة كالشمس تحتضن نفسها وتقبل نفسها وتسمي نفسها دنیا زاد التي كانت تشبهها. هكذا تخلد الأم فقدرتها بأن تتقمصها بأن تصبح هي البنت التي ماتت، مانحه اياها حياة جديدة.
وتغازل الأم الحياة رغم الفقد. توشك أن تشتري فستانا اعجبتها الوان الزاهية. ترددت ثم أبعدت الفكرة ولكنها قالت: مضت شهور على موت دنيا زاد وكانت المناسبة تستحق الاحتفال، تشترك بالرأي في صفقة بيع بيت قديم تملكه الأسرة، ويحقق البيع مليونين من الجنيهات، توافق على البيع، وتعتزم أن تنتقل الى شقة أخرى معدة لاستقبالها وزوجها وابنها
يمتد اهتمامها بالحياة من حولها.. كتبت كتابا جديدا، واستقالت من عملها الحكومي وخاصمت عديدا من الصديقات وشربت السيجارة السادسة في حياتها وقررت أن تنجب طفلا ثالثا يتحرك الآن في جوفها، تشاجرت لأسباب تافهة، وكادت تصدم رجلا بسيارة وشاركت في بيع البيت، وفي تجربة حب شهاب الدین الأولى والاستيقاظ في السابعة للذهاب إلى المدرسة ، وتراودها الفكرة بأنها مصابة بسرطان الدم، تتشاجر مع زوجها فيترك لها البيت ليلتين ثم يعود معاتبا، تبكي وتشعر بانها تحبه ولا تلومه، لأنه ابو دنیا زاد وشهاب الدین.
وصديق يموت. وصديق يروح، وصديق يتلاشی وسط تفاصيل حياة مكررة واصدقاء لا تكتب عنهم لأنهم حاضرون وأصدقاء تتجاهلهم لأنهم بخلاء وابناء ستة تحلم بهم. واین وحید بلغه هاجس الموت أينما حل. فما الذي تبقي من أفلاكها ومجراتها في فجوات تاريخها الشخصي.
تبقي لأم دنیا زاد الكاتبة الشابة مي التلمساني انجاز كبير لها أن تفخر به، لقد كتبت أول رواية عن المرأة لا يستطيع الرجل، مهما أوتي من قدرة ومن خیال اور يأتي بمثلها ولو من بعيد، كتبت رواية من دمها ولحمها وحملتها كل ماتعاني من المرأة والأم من آلام وشكوك وأوهام ورغبات مكبوتة وأخرى معلنة: عاملت الموضوع الحميم الشديد الالتصاق بالمرأة الأنه يتحرك في بطنها وفي رحمها ويعيش خارج هذين معاملة فيها صدق مثير وشعر مجنح، وخيال جامح تارة ورقراق تارة أخرى، تتشاجر الأم مع زوجها فلما يعود اليها تشعر بأنها لا تزال تحس بمشاعر طيبة تجاه الاشياء، يجمح بها الخيال فجأة فتضيف: «رغم بروز عظام فكي وأنيابي صور من دراکولا أو مصاص الدماء تخنق في صدري بعض الدموع الباقية اشعر بالخوف وألتفت ورائی”.
على الحائط ترى صورا من فيلم الزوج فيه، يقترب من زوجته. هي لاتراه مشغولة بحياكة ثوب قصير لابنتها يغرس الزوج في عنقها اسنانه النهمة. تتحول الزوجة الجميلة إلى شبح أبيض هارية دماؤه، وصورة أخرى: الزوجة تغرس اسنانها بدورها في رقبة ابنتها التي لاتستغيث بالجيران، فالقصر معزول عن العالم والاشباح تلهو في الحديقة الخلفية. الصورة الأولى تصور على مستوى اللا وعي. كيف تقوم العلاقة بين الزو جو الزوجة يمص دمها والصورة التاني تصور ماتحس به الأم من ألم لا ينتهي لفقد «دنيا زاد» تتهم نفسها بأنها قتلت ابنتها. افترستها، حين جعلت رحمها قبرا لها، وحين تخلت المشيمة عنها، فماتت في قبر البطن.
ويبقى للكاتبة مي التلمساني هذ الرشاقة في استخدام صوت الرواية و الراوی، دون افتعال، ولا ضوضاء، السطور الافقية تحمل صوت الراوي و السطور الرأسية صوت الراوية، وييقى لها تلك البراعة الظاهرة في ادماج وقائع الحياة اليومية الروتينية في صلب رواية يشكل الخيال جزءا رئيسيا فيها، «تجنبت كعادتي الحديت مع الجيران، لكني أعرف عن سامي الكثير من البواب الجديد الذي لايغسل السيارة جيدا، ومن الخادمة الجديدة التي تكسر صنبور الماء في الحوض الصغير كل مرة، ومن أم زوجي التي تكثر من السؤال عن تفاصيل كل شيء ومن زوجي نفسه الذي صار يلامسنی کل صباح قبل أن يغسل ای منا وجهه وأسنانه.» تقرأ هذه التفاصيل الواقعية ثم تفاجأ بعبارات مثل: «يتثاءب الكون فتخرجمنه أزمنة ووجوه وبعض روائح منسية تتخذ لنفسها مسارات متعرجة في اللانهاية”. عندئذ قال: «كل شيء يحدد بتدبير. تصاريف حياة غريبة لايهتدي فيها سوی فاقد البصر”.
هذه رواية غنية تحمل فن الرواية خطوات إلى الأمام.