مي التلمساني المترحلة بين مصر وكندا تبلور مفهوم الأمكنة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 40
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيرين أبو النجا

في عام 1997، نشرت مي التلمساني أولى رواياتها بعنوان “دنيا زاد”، وربطت فيها بين خروج الجسد عن السيطرة وتشوه معالم المكان. خرجت دنيا زاد من رحم هذه الرواية ميتة فخرجت الرواية حية ترزق. في ثاني أعمالها عام 2003 بعنوان “هليوبوليس”، سعت الكاتبة إلى تسجيل سيرة المكان ليبقى حياً، فدمجت تاريخه مع تاريخ الطفلة ثم المراهقة ميكي، لتصبح “هليوبوليس” رواية بلوغ. لكن مع ثالث الأعمال في عام 2012 “أكابيلا”، جاء المكان والزمان مجهولين تماماً. تكثفت كل خبرات الجسد والذات والأماكن في “أكابيلا”، بحيث عكست الشخصيات بعضها بعضاً، وكأنها في مرآة. قامت رواية “أكابيلا” على صراع خفي بين ماهي وعايدة، إلى أن ترى ماهي نفسها بوضوح في يوميات عايدة. كيف نصل إلى حقيقة الكينونة عبر الآخر، هي فكرة “أكابيلا” التي تتحول إلى تقنية روائية في رابع أعمال التلمساني الصادرة في 2021 عن (دار الشروق المصرية) بعنوان “الكل يقول أحبك”.

ينعكس ترحال الكاتبة الدائم بين مصر وكندا على رؤية الكتابة، فهي تقبض على المكان واللحظة لينفلتا في مشهد تال، ترسخ ثم تقوض لتعيد ترسيخ بناء جديد. وهكذا في متتالية سردية تقدمها أوركسترا صوتية متعددة تستمد نغمتها من أشكال هجرة مختلفة تنتج هويات هجينة. فالزمان هو لحظة انتشار الوباء في فبراير- مارس (شباط- آذار) 2020، والمكان هو قارة أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا تحديداً، والمنطقة الحدودية بينهما)، حيث تتحرك الشخصيات بأريحية وسهولة ويسر ليس فقط بين الأماكن، بل بين فواصل الهوية. فهناك من هاجر مبكراً، وهناك من ينتمي إلى الجيل الثاني للمهاجرين، المصري-الكندي، والكندي- المصري، والمصري-الجزائري-الأميركي، والسوري- الأميركي، وهكذا من كل تلك الفواصل التي تجعل الهوية مزدوجة وثرية.

خمسة أصوات

طوال السرد (الذي يقدم نفسه ظاهرياً من خلال خمسة أصوات) تقدم الشخصيات نفسها طبقاً لأولوية اللحظة الشعورية الخاصة بها وتعيد عبور حدود فواصل الهوية، كما تعبر الحدود بين كندا وأميركا. لكن السؤال الذي يلح على الشخصيات لا يتعلق بترتيب الانتماء، ولا تنشغل أيضاً الشخصيات بمسألة اضطهاد العرب أو محاولة تحسين الصورة. يرتكز السرد على السعي إلى الإمساك بلحظة حب كما تفهمه كل شخصية. وفي هذه المحاولة يرتحل السرد داخلياً بكل قوته ويتمدد الحيز المكاني ليغطي مطارات ومحطات قطار ومحطات أوتوبيس. تتعدد نقاط الترحال وأشكاله ليعلن النص أن هويته تقوم على سيولة الحدود بين المعلن والخفي، الظاهر والباطن، السعي إلى الاستقرار والرغبة في الترحال، الاستسلام للقيود وكسر القيود، الفعل والإحجام عنه، الرغبة وأفول الرغبة.

هكذا، تبدأ الرواية بكمال المصري الخامل والفاقد الرغبة، يجلس في مواجهة كريم ثابت في القطار المتجه من تورونتو إلى وندسور. يجلس كمال عكس الاتجاه، يسير إلى الوراء، في حين يتقدم كريم في الزمن، محاولاً اللحاق بكمال ربما. وينتهي السرد بكريم وكمال متجاورين في طابور ركاب الأوتوبيس. منذ البداية يعمل كمال وكريم كمرآة واحدهما للآخر، وبعد التقابل يأتي التجاور. يمكن للقارئ في النهاية أن يقيس على ذلك، وتصبح نورهان (زوجة كريم ثابت) هي ناهد (زوجة كمال المصري)، تماماً كما كان صوت عاليا المصرية (وليست مهاجرة) وسردها لقصة زواجها من ماتيو الإيطالي متوازياً مع صوت داينا في سردها لمحاولة دفع بسام الحايك إلى الاستقرار معها. بهذه اللعبة التي تظهر في صوتي كمال وكريم مع تقصّد تكرار مقاطع بعينها، تنبني الرواية على السيولة وهشاشة الحدود.

لدى كل شخصية العالم الخاص بها، عالم سري، باطني، فيه كثير من الجروح والإخفاقات والفشل والنجاح. عالم ثري يمنح السرد ذاته مستويات متعددة تتكثف في مسعى كل شخصية للحب، من هنا نفهم العنوان قليلاً “الكل يقول أحبك”، حيث الكاف ساكنة غير محددة. لكن الثراء أيضاً نسبي: فمقابل سطحية كريم ثابت يقف بسام الحايك على الطرف النقيض. ومقابل يأس كمال المصري ورضوخه لأفاعيل الزمن تقف نورهان عبد الحميد في الطرف الآخر، متألقة بمشاعر الحب والرغبة والشبق إلى حد الشعور بالغثيان في الطائرة، إثر صدمة تعرفها على داينا التي انتظرت بسام الحايك زمناً. وغثيان نورهان لا يشبه غثيان كمال المصري في القطار الذي نتج عن استسلام الجسد لهواجس المرض النمطية المعدة سلفاً لكل من يتخطى الستين.

عبور الحدود

تمتد فكرة عبور الحدود خارج الشخصيات لتشمل الكتابة نفسها. فالنص يعبر الحدود ليتداخل مع أجناس فنية أخرى مثل السينما، التي أنجزت فيها التلمساني رسالة الدكتوراه، وتحديداً عن الحارة المصرية. ويظهر ذلك في امتلاء النص بالمشهدية التي لا تتوافر إلا من خلال عدسة الكاميرا (برعت أيضاً سحر خليفة الفلسطينية في ذلك)، حتى أن الكاتبة تضع هوامش تشير مثلاً إلى اعتماد مشهد بسام الحايك في حواره مع العرب يوم السبت في دكان الحلاق عن فيلم المصرية الكندية نسرين بيكر في فيلمها التسجيلي “كلام رجالة”. ثم يظهر هامش آخر في صوت داينا التي تعمل كمصورة فوتوغرافية في المناطق الساخنة، لتعلن الكاتبة أنها اقتبست من معرض الأردنية الكندية إيمان حرم. علاوة على ذلك، تحضر السينما والأدب في الحوار بين الشخصيات، ليصبح التداخل بين الأنواع فكرة وشكلاً.
أما بناء شخصية بسام الحايك وتعمد النص إلى وضع صوته كختام للسردية ليس صدفة إطلاقاً. بسام الحايك هو السوري، الذي عاصر أيلول الأسود، ومذبحتي حماة وحمص عام 1982، وهو ما دفعه إلى مغادرة سوريا لعدم قدرته على التحمل. بوصوله إلى كندا تلقى العلاج النفسي لعلاج التروما التي أصابته، لكن يبدو أنه لم يشف مطلقاً. وعاجلته إخفاقات الثورات العربية ليسقط في ظلام مطبق. لكن كل ذلك لا يمنعه من البحث عن الحب، على طريقته. بسام حايك لا ينتظر غودو ولا يأمل في شيء، وبمعنى أدق ليس لديه أشياء يمتلكها لتمتلكه. إلا أن هذا لا يمنحه الحرية المنشودة، بل يجعله تريزياس الإغريقي الأعمى الذي شهد كل شيء وعرف كل شيء، لا تساوره أدنى رغبة في الجدال أو البوح، سوى تلك اللحظات المسروقة يوم السبت، عندما يجلس في وسط العرب في دكان الحلاق، “من موقعي كخطيب يساري بدكان حلاق الشام صباح كل يوم سبت، أو من مرقدي بين الصحو والنعاس على شاطئ بحيرة ميتشغان، تضخ طاقة التذكر حياة في عروقي البائسة” (183). بسام هو البطل المهزوم الذي يقتات على حكايات الذاكرة، والذي يعبر عن نفسه وعن القراء في مونولوغ باطني ويعلن لنفسه بقسوة “يحكى أنني حاولت تغيير العالم وفشلت” (182).

على الرغم من الهزيمة الموجعة (يتصور بسام خطأ أنها هزيمة شخصية)، ينحو بسام لا شعورياً وبشكل مفارق نحو الأمل. ليس الأمل الفلسفي، بل الأمل الذي يدفع الإنسان إلى التشبث بالحياة لينتظر الغد. هكذا يفكر بسام في تهذيب لحيته ليقابل سلمى. في هذه المساحة الشاسعة من الهزيمة تظهر نقطة ضوء على استحياء، وهو ما يبرر (ويفسر) المشهد الختامي للنص الذي يجيء من صوت بسام. تلتقط العدسة السينمائية مشهداً بانورامياً لكل الشخصيات المتداخلة في العمل (ما عدا ناهد ونورهان)، وهي مجتمعة عند محطة الأوتوبيس. الكل في حركة ترحال دائم بحثاً عن حب ما. الكل يقول أحبك في محاولة لتجاوز إخفاق، أو في محاولة للنجاة من التراخي والخمول والسكون.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم