مي التلمساني.. أيقونة الحكاية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 54
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نجيب محفوظ نجيب

عندما تتحدث فهى تحكى، وعندما تصمت فهى أيضا تحكى، وأنت فى معيتها لا تملك سوى أن تصغى لحديثها و أيضا لصمتها، فالصمت لديها هو إمتداد للحكى، هى ببساطة تملك خيوطا ذهبية رقيقة تجذبك بأسلوب سحرى إلى عالمها الأدبى الخاص الملىء بالفن و الإبداع الحقيقى و الصادق.
إنها أيقونة الحكاية، الأديبة والأكاديمية والمترجمة والناقدة السينمائية، الدكتورة مى التلمسانى، أستاذ الدراسات السينمائية بجامعة أوتاوا بكندا.
ولدت فى منزل يحيط به هالة من الثقافة و الفنون، فالأم مدرسة لغة عربية و الأب مخرج الأفلام التسجيلية الكبير الأستاذ عبد القادر التلمسانى.
تتذكر الدكتورة مى الفترة المبكرة جدا من طفولتها وسط أسرتها فتقول:
الصور تجعل الأنسان يتذكر أشياء، صورى الأبيض و الأسود و أنا طفلة تعرفنى مثلا أنه كان يوجد مرحلة فى حياتى مرتبطة جدا بالبحر، كنت أذهب إلى البحر مع عائلتى و العائلة الكبيرة أى الجدة و العمات و أولادهم و عمى حسن التلمسانى و أولاده، كنا نذهب إلى رأس البر مثلا.
ذكرياتى عن مرحلة ما قبل دخول المدرسة تأتى من الصور و تأتى أيضا مما حكى من عائلتى عن تكوينى و إهتماماتى، أتذكر أن والدتى قالت إننى فى اليوم الثالث أو الرابع بعد ما ولدت ضحكت بصوت عال و هذا لم يكن شيئا طبيعيا  بالنسبة لطفلة صغيرة مثلى.
أتذكر أن حالة البهجة هذه ظلت مصاحبة لى حتى اليوم، أنا مثل أى إنسان من الممكن أن يقابل أى مشاكل فى الحياة بأبتسامة كبيرة و يحاول يتجاوز المشاكل بالأبتسامة و بطاقة إيجابية و بتفاؤل.
أيضا فى هذه الفترة كنت مهتمة بالموسيقى و هذا كان إهتمام واضح تؤكده قصص الأسرة أنه كان لدى إيقاع و إحساس بالموسيقى منذ أن كنت طفلة.
لكن أول ذكرى حاضرة فى ذهنى كصورة و أنا أتذكرها جيدا، كان لدى 5 سنوات و أنا أقف فى شرفة بيتنا فى مصر الجديدة و أسمع أغانى حزن صادرة عن الميدان، و أتذكر مشهد أننى أحاول أن أقول لوالدتى و أنا أجذب طرف فستانها ماذا يحدث، أحملينى، أحملينى لكى أرى  ماذا يحدث وراء سور الشرفة، أريد أن أعرف ماذا يصدر عن الميدان،
والدتى كانت فى حالة حزن و كان لدى مربية أخذتنى معاها إلى المطبخ و أخذت تغنى لى و تهدءنى، المهم أننى فهمت بعد وقت أن هذا كان وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، و كتبت هذا المشهد فى رواية لى بعنوان : هليوبوليس. ”

في عام 1953، عاد الأب عبد القادر التلمسانى من فرنسا بعد دراسة السينما و أحضر معه مكتبة ضخمة جدا من الكتب الفرنسية. و لهذا قرر الوالدين أن تلتحق الأبنة بمدرسة راهبات فرنسية هى مدرسة نوتر دام دى أبوتر  Notre Dame des Apôtres لكى ترث هذه الكتب الفرنسية.
فى البداية، كانت تصطحبها والدتها أو المربية. لم تكن تبكى مثل باقى الأطفال فى سن الحضانة أثناء ذهابها إلى المدرسة بل تؤكد والدتها أنها كانت سعيدة.
و عندما أصبحت فى الصف الأول أو الثانى الابتدائى، بدأت تذهب بمفردها إلى المدرسة التى كانت تقع بجوار المنزل. فتولد لديها إحساس بالثقة و الحرية، فها هى قد كبرت لدرجة أن الأهل قد تركوها لكى تذهب بمفردها و لم يعودوا يخافون عليها كما كان فى الماضى.

تتذكر مى سنوات الدراسة فى المدرسة بسعادة بالغة، فقد كانت طالبة ملتزمة و مثالية، تحصل دائما على ميداليات لتفوقها فى مواد مختلفة خاصة اللغات، مثل اللغة العربية التى أحبتها  لأن والدتها كانت مدرسة لغة عربية، و اللغة الفرنسية و الإنجليزية.
و لم تنس و هى فى الصف الثالث أو الرابع الابتدائى أول عقاب حصلت عليه ربما لأنها قد تحدثت فى الفصل أثناء شرح الدرس. فتمت معاقبتها بأن تمكث فى المدرسة بعد إنتهاء اليوم الدراسى لكى تكتب جملة أنها لن تتحدث مرة أخرى فى الفصل أثناء شرح الدرس عدد كبير جدا من المرات.
و تسبب هذا العقاب فى قلق والدتها عليها لأنها تأخرت عن الرجوع إلى المنزل فى ميعادها. فذهبت تبحث عنها و أصابتها الدهشة عندما وجدت أبنتها المتفوقة و هى تعاقب.
تمر الأيام و السنون و تثبت مى تفوقها فى جميع المواد الدراسية حتى وصلت إلى مرحلة الثانوى العام فكان لزاما عليها أن تختار بين القسم الأدبى و القسم العلمى.  كان من الواضح أنها سوف تختار القسم الأدبى لأن وعيها كان قد تفتح على الرواية من خلال الكتب الفرنسية التى أحضرها والدها معه و التى كان معظمها كتب أدبية فى الرواية و المسرح و تاريخ السينما.
تتذكر مى طوال الوقت نصيحة والدها لها : ” أذهبى وراء شغفك الحقيقى، و إذا كان شغفك الحقيقى هو اللغة و الأدب فيجب أن تختارى أن تلتحقى بالقسم الأدبى. “ أيضا كان لوالدها دور مؤثر جدا عندما حصلت على مجموع كبير جدا فى شهادة الثانوية العامة و كان ترتيبها 25 على مستوى الجمهورية، و لكنها صممت أن تلتحق بكلية الآداب، فانحاز إلى قرارها و ساندها قائلا : ” إذا كنت تحبين أن تلتحقى بكلية الآداب فدعينا نختار قسم اللغة الفرنسية و آدابها، فدراسة اللغة و الأدب الفرنسى سوف تساعدك على تحسين مستواك فى اللغة و الأدب الفرنسى و أيضا سوف تساعدك على إستكشاف عوالم أخرى غير الأدب العربى الذى كنت قد بدأت فى قراءته.

فهى قد بدأت تقرأ أدب نجيب محفوظ، يوسف إدريس، يحى حقى، يوسف السباعى، محمد عبد الحليم عبد الله و مسرحيات مترجمة من المسرح العالمى. 

أى كل مستويات الأدب، وهذا كان جزءا أساسيا من تكوينها، و هى لا تزال فى الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمرها.

ألتحقت فعليا بقسم اللغة الفرنسية و آدابها.
 ” من أكثر المواد التى كنت أحبها أثناء دراستى للأدب الفرنسى كانت مادة تحليل النصوص، و خاصة تحليل النصوص الروائية، فكنت أحاول أن أفهم هذه النصوص الروائية على مستوى مضمونها و على المستويات الجمالية المختلفة و على مستوى كيفية رسم الشخصيات، و كنت أهتم بالتعرف على مراحل تاريخ الرواية الفرنسية، فقد درست أهم الروائيين فى القرن 19 مثل : جوستاف فلوبير  ( رواية مدام بوفارى ) و إميل زولا و جيرمينال و مارسيل بروست. و من أهم الكتاب الذين أثروا فى تكوينى الشخصى كروائية أستطيع أن أقول جوستاف فلوبير و مارسيل بروست. أيضا كان لدى شغف بمادة الترجمة و خاصة الترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية.
و من الأساتذة الذين تعلمت منهم و تركوا أثرا عميقا فى نفسى الدكتورة هدى وصفى التى أضاءت فى ذهنى إمكانيات كبيرة جدا لها علاقة بالترجمة و الحضارة و حرية الرأى.  هى كانت تساندنى فعليا. أيضا كان يوجد أستاذة فرنسية كانت تدرس مادة اللغويات، ساعدتنى فى التفكير كيف يستطيع الإنسان أن يتحرر من القيود المفروضة عليه.
و فى العام الثانى لى فى الجامعة راودتنى فكرة التحويل من دراسة الأدب إلى دراسة السيناريو فى معهد السينما. و تقدمت فعليا للاختبارات و نجحت و تم قبولى فى قسم السيناريو، و لكنى عدت أفكر مرة أخرى بمساعدة والدى الذى ناقشنى و سألنى : ” لماذا تريدين أن تلتحقى بقسم السيناريو؟ ” أجبته : ” لأننى أحب أن أحكى حكايات و أحب أن أكتبها “. قال لى : ” تستطيعين أن تبدأى تحكى حكايات دون أن تدرسى تقنية السيناريو.” و أقترح على أسماء بعض الكتب التى أستطيع من خلال قراءتها أن أطور مهارات الكتابة و ملكة الحكى بصفة عامة. و جعلنى أقرأ سيناريو فيلم العزيمة الذى كان قد نشر فى كتاب، و سيناريو فيلم البوسطجى. و عندما قرأت سيناريو هذان الفيلمان شعرت فعليا بأنهما أقرب للأدب. شغفى الأدب و الكتابة و الحكى جعلنى أشعر بأننى أستطيع أن استغل الطاقة التى تولدت داخلى فى الكتابة. فأكملت دراسة الأدب الفرنسى حتى تخرجت عام 1987 و كان ترتيبى الأولى على الدفعة. كان يوجد إحتمال أن يتم تعيينى معيدة و لكن لم يتم اختيارى لأسباب لها علاقة برغبتى الدائمة فى التعبير عن رأى فى الأدب الذى أدرسه. ”

 عدم تعيينها معيدة لم يقف حائلا أمام حلمها و حبها للتدريس. عرض عليها التعيين كمعيدة فى جامعة المنوفية، و كانت من المؤسسين لقسم اللغة الفرنسية و آدابها فى هذه الجامعة التى ظلت تدرس بها لمدة ثلاث سنوات ثم انتقلت بعدها للعمل فى أكاديمية الفنون فى القاهرة للتدريس فى معهد السينما و الترجمة فى مركز اللغات و الترجمة.
فى معهد السينما كانت تدرس السينما الفرنسية و نظريات الفيلم المرتبطة بالسينما الفرنسية و فى مركز اللغات و الترجمة كانت تترجم كتب متخصصة فى مجال الفنون مثل السينما و المسرح من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية.

فى عام 1988 قررت تسجيل رسالة الماجستير،  فاتصلت بأستاذ فرنسى كان يدرس الأدب الفرنسى فى جامعة القاهرة و هو جون لويس باكيس، فاقترح عليها 5 أعمال أدبية كانت أعمال أولى أو أعمال لكتاب غير مشهورين و لم يتم دراستهم فى الأدب الفرنسى بشكل كامل. ما لفت نظرها و أسترعى أنتباهها هو الكتاب الأول للكاتب مارسيل بروست : الملذات و الأيام 
Les Plaisirs et Les Jours. Marcel Proust.فقررت أن تدرس هذه الرواية تحت إشراف الاستاذ جون لويس باكيس، لكنه للأسف أضطر أن يعود إلى فرنسا، فاشرفت عليها الأستاذة الدكتورة آمال فريد التى كانت من أهم أساتذة الأدب و الرواية الفرنسية فى هذه الفترة. موضوع رسالة الماجستير كان يحاول أن يدرس فكرة تنوع مستويات السرد فى رواية الملذات و الأيام للكاتب مارسيل بروست.

فى عام 1989 عرض عليها هى و خطيبها السفر إلى فرنسا لتجميع مادة علمية للماجستير، فتزوجا لكى يستطيعا السفر، و بالفعل سافرا فرنسا عام 1990.

و فى عام 1990 أصبح لديها طفل هو ابنها الكبير شهاب، و فى نفس العام بدأت رحلة الكتابة الإبداعية.فمنذ عام 1990 و حتى عام 1995، كانت قد بدأت فى كتابة قصص قصيرة و نشرها فى مجلات و دوريات مصرية و عربية.
فى عام 1995 نشرت أول مجموعة قصصية لها بعنوان : ” نحت متكرر “، فمن بين حوالى 80 قصة قصيرة كانت قد كتبتها، أختارت منها 20 قصة للنشر فى كتاب.
و هو نفس العام الذى فقدت فيه مى أبنتها ” دنيا زاد ” لحظة الولادة، وهى التى كتبت عنها روايتها الأولى : ” دنيا زاد “فيما بعد.
و هو أيضا نفس العام الذى كانت قد أنتهت فيه من كتابة و مناقشة رسالة الماجستير.عام 1996 بدأت مى فى التفكير فى تقديم مقترح Propose لرسالة دكتوراه فى جامعة القاهرة يدور حول فكرة الاقتباس بين الأدب و السينما. كانت تريد أن تدرس Albert Cossery
ألبير قصيرى ( كاتب مهجرى كان يكتب باللغة الفرنسية تحولت بعض أعماله الروائية إلى السينما )

و Andrée Chedid
أندريه شديد  ( كاتبة مصرية تكتب باللغة الفرنسية تحولت رواية من روايتها و هى : رواية اليوم السادس إلى السينما )
و لكن للأسف تم رفض فكرة موضوع رسالة الدكتوراه من قبل جامعة القاهرة.

لم تستسلم لليأس و الإحباط، و تقدمت بنفس فكرة الموضوع لجامعة مونتريال فى كندا فتم قبولها و سافرت بالفعل لدراسة الدكتوراه فى كندا عام 1998.

تتحدث الأستاذة الجامعية بالتفصيل عن السنوات الأولى لوجودها فى كندا لدراسة الدكتوراه، و توضح لنا كيف كانت هذه السنوات : تكوين فكرى و إثبات ذات و ثقة فى النفس و توسيع فى أفق المعرفة و إكتشاف و تعرف حقيقى على إمكانياتها و طاقاتها فى التفكير. 
فتقول : ” المجتمع الأكاديمى فى كندا يختلف تماما عما تعودت عليه فى مصر أو فى تجربتى القصيرة فى باريس. فهو مجتمع يقوم على فكرة أن الأستاذ الجامعى دوره هو أن يساعد الطالب أن ينمو فكريا بحرية شديدة. مجتمع يوجد به حرية فى العلاقة بين الأستاذ و الطالب بدون أى فصل جذرى فى السلطات بين الأستاذ الذى يكون لديه سلطة المعرفة بالكامل و بين الطالب الذى لا يزال يتعلم و ليس لديه معرفة و لا يستطيع أن يقول : أنا أعرف.  و هذا يجعل الطالب يشعر أنه مثل أستاذه، فكلاهما يبدع فى العمل الأكاديمى. و لهذا تقدمت بفكرة موضوع رسالة الدكتوراه عن : ” الحارة فى السينما المصرية ” إلى أستاذة جامعية كندية ليست متخصصة فى السينما المصرية أو فى الثقافة المصرية و لكنها متخصصة فى الجماعات التى تتشكل حول فكرة الهوية القومية.
و الحارة كانت بالنسبة لى أطروحة رئيسية فى الرسالة، فالحارة هى المكان الذى تتشكل فيه الهوية المصرية. هذه الأستاذة ساعدتنى على المستوى النظرى و ساعدتنى بتواضع شديد منها من ناحية المعرفة. فمنذ أن ألتقينا كانت تقول لى : ” أنت لديك معرفة أكبر بالسينما المصرية و بالثقافة المصرية و أنا أثق فى قدرتك على تحليل السينما و الثقافة بشكل قوى، ما ينقصك هو المنهج و الإطار النظرى، و أنا سوف أساعدك فى المنهج و فى الإطار النظرى.
فتولد داخلى إحساس بالثقة بأن ما لدى من خلفية معرفية سيساعدنى على أن انطلق فى الكتابة فى عالم الإبداع الأكاديمى، فالدراسة الأكاديمية تساعد على تفتح الأفكار و هذا ما تعلمته فعليا فى جامعة مونتريال : الثقة فى النفس و حرية التفكير.

بدأت التدريس فى جامعة مونتريال فى قسم الدراسات السينمائية. قمت بتدريس تاريخ السينما و نظرية الفيلم و أنا لا أزال أدرس فى السنة الثانية أو فى السنة الثالثة فى مرحلة الدكتوراه.  

موضوع رساله الدكتوراه “الحارة في السينما المصرية: 1939 ـ 2001″، صدر فيما بعد فى كتاب عن المركز القومى للترجمة، ترجمة رانيا فتحى ومراجعة الدكتورة مى التلمسانى نفسها.في الفترة بين عامى 2001 و2005 عملت محاضرًا للسينما والدراسات العربية بجامعات مونتريال وكونكورديا ومكجيل فى كندا، ثم عينت أستاذًا مساعدً للسينما والدراسات العربية بجامعة أوتاوا الكندية عام 2006.

فى عام 1990 بدأت الأديبة الروائية الكتابة الإبداعية.
فنشرت أول مجموعة قصصية لها : ” نحت متكرر ”  فى دار شرقيات عام 1995 بدعم من الناشر حسنى سليمان، و هى مجموعة قصص قصيرة تحاول فيها أن تستكمل موضوع الكتابة العابرة للأنواع الذى كانت قد بدأته فى فترة التسعينات، فهى ليست قص أو حكى و لكن هى نصوص بين السرد و الشعر يوجد بها روح أو دفقة شعرية، و يوجد بها أيضا مقاربات لاساطين القصة القصيرة فى العالم مثل : أنطوان تشيكوف و جى دو موباسان.
و كان الأديب الكبير إدوارد الخراط قد كتب عن هذه المجموعة القصصية, فكان هذا مصدر سعادة بالغة بالنسبة لها.

عام 1995 حدثت حالة وفاة أبنتها دنيا زاد، و عند خروجها من المستشفى كان أمامها حل من أثنان : إما أن تكتب عن الوفاة و إما أن تغرق تمامًا فى الحزن و هذا سيؤدى إلى اكتئاب شديد و قد يؤدى إلى القضاء على حياتها هى شخصيا.
تتذكر هذه اللحظة الصعبة بحزن عميق و الدموع بدأت تملأ عينيها : ” كان لدى أبن لديه 4 سنوات و هو شهاب، و كنت أنتظر أبنة و هى دنيا زاد التى توفت فى الرحم أثناء الولادة. كان إحساس الوفاة على شعورى بالأمومة  إحساس قاتل، كان من الصعوبة أن أقبل فكرة أن الرحم كان مقبرة لأبنتى، فكانت هذه لحظة وجودية صعبة جدا أنقذنى منها محاولة الكتابة التى ساعدتنى على تجاوز المأساة، ففكرة أن أكتب و أحكى الحكاية بتعدد أصوات، بصوت الأم التى فقدت أبنتها لحظة الولادة، و بصوت الزوج الذى يشهد لحظة ولادة إبنته، و بصوت صديقة تتكلم لأن الأم تقرر أن تستقيل من عملها. و هى رواية قصيرة فى نهايتها تحاول الأم أن تنجب طفلا جديدا،  هذا الطفل هو أبنى الصغير زياد. ففى الحقيقة هى رواية سيرة ذاتية تنطلق من المأساة الذاتية لهذه الأم و منها تفتح على مجال التخييل. هذه الرواية أحدثت فارق فى مسارى كمبدعة لأننى وجدت نفسى فى سياق الإعتراف النقدى بهذه الموهبة. فأبتدأ العمل الأدبى بالنسبة لى يصبح مستقبلا. و مع رواية دنيا زاد شعرت أن مستقبلى الحقيقى سيكون كروائية أو ككاتبة سرد قصة و رواية.

 بعد رواية “دنيا زاد” التى نشرت عام 1997، نشرت ثانى مجموعة قصصية لها بعنوان: “خيانات ذهنية” عام 1999  و هى بعض القصص القصيرة التى كانت قد كتبتها بين عام 1995 و عام 1999 حاولت فيها محاولات على مستوى التيمة  (الموضوع ) و ليس على مستوى الأسلوب، حاولت الكلام عن المرأة و عن مشاعرها و عن جسدها.

ثم عام 2000 نشرت رواية هليوبوليس التى كانت تكتب كقصص قصيرة و تنشر فى أخبار الأدب ثم تحولت إلى رواية.
و عن هذه الرواية تحكى لنا مى فتقول : ” هليوبوليس تعتبر ثانى رواية سيرة ذاتية بالنسبة لى، لأننى ولدت فى حى مصر الجديدة و عشت فيه طفولتى و شبابى و لدى علاقة قوية جدا بالحى كمكان. و الكتابة عن حى مصر الجديدة سمحت لى أن أعود إلى تاريخ العائلة فى فترة محددة من فترات التاريخ المصرى و هى فترة السبعينيات التى كانت فترة تحول كبير جدا فى تاريخ الطبقة المتوسطة فى مصر بصفةعامة.  و أنا أحاول أن أرصد هذا التحول من خلال حيوات 4 شخصيات نسائية الجدة و الأم و أثنين من العمات من وجهة نظر طفلة أسمها ميكى تحكى لنا التغيرات التى تطرأ على الطبقة المتوسطة المصرية. فهى رواية مكان و رواية طبقات خاصة الطبقة المتوسطة التى كان لها علاقة أساسية بتاريخ هذا الحى باعتباره تاريخ كوزموبوليتانى. فهو حى أنشأه البارون البلجيكى إمبان فى العشرينات من القرن العشرين لمختلف الطبقات المصرية و الجاليات الأجنبية البلجيكية و الفرنسية و اليونانية و الإيطالية و الأرمينية و إرساليتهم و مدارسهم. فهو حى له تاريخ عريق من الناحية المعمارية و تم الحفاظ عليه على مدار عقود ثم نرى فجأة شبه إنهيار له أبتداءا من السبعينيات. حاولت أن أرصده فى هذه الرواية التى أهتمت أيضا بالأشياء التى نستخدمها و كيف تختفى. فهى رواية ترصد تاريخ المكان و تاريخ الأشياء و تاريخ الطبقة المتوسطة و ما حدث لها من تطورات و نسيان. و ترصد أيضا الحنين إلى الفترة الكوزموبوليتانية التى لا تزال حية فى ذاكرتنا عن سيدات مصر الجديدة و مدارس مصر الجديدة و عن اللغات التى كنا نتحدثها فى مصر الجديدة و اختفت مع الوقت.

 ثم نشرت كتاب ” للجنة سور” و هو عبارة عن يوميات و قصص قصيرة عام 2009، كانت تنشر كيوميات فى جريدة روزاليوسف، و هى تتحدث عن الشخص الذى يعيش بين مكانين مصر و كندا.

و بعدها رواية ” أكابيللا ” عام 2012، و هى تدور حول علاقة الصداقة بين شخصيتين نسائيتين، و يوجد فيها خروج عن المحددات الزمنية و المكانية فهى لا تحدث فى زمن معين أو فى مكان معين، و أختارت أن يكون التركيز فيها على العلاقة بين الشخصيات.

ثم نشرت ثالث مجموعة قصصية لها بعنوان : “عين سحرية” عام 2016 و التى كانت الفكرة الرئيسية فيها علاقة الأدب بالسينما، و تعود فيها إلى أن تكون السينما هى موضوع النص نفسه.

حاولت أن تكتب رواية باللغة الفرنسية هى لا تزال فى الأدراج حتى اليوم لم تفكر أن تنشرها. 

الغربة تجربة صعبة، البعض قد يكتشف فيها ذاته، و البعض قد يعانى لكى يتأقلم مع المكان الجديد. و ما أفاد مى فى بداية وجودها فى كندا هو فكرة إحساسها أنها قد جاءت لهدف أكاديمى أى لكى تدرس، و بعد الحصول على الدكتوراه سوف تعود إلى مصر. فهى تشعر طوال الوقت أنها مصرية تعيش فى كندا للحصول على درجة الدكتوراه.

و ها هى تحدثنا عن أثر الغربة على حياتها و على كتاباتها :

” منذ اللحظة التى قررنا فيها الهجرة كأسرة، كان لدى وقتها ولدان قد بدءا يدرسان فى مدارس كندية و يتأقلمان مع المجتمع الكندى، بدأت أشعر بالانقطاع عن المكان الأم، المكان الحضن أو المكان الذى أشعر فيه بالطاقة الحقيقية التى تأتى من الناس و الشوارع و الذكريات و التاريخ الثقافى و التواصل مع المبانى و الأغانى و السينما.

فالسنة الخامسة أو السادسة من حياتى فى كندا كانت سنة الصدمة الحقيقية بالنسبة لى، فقد قررت تنازلا عن رغبتى الأصيلة فى الرجوع إلى مصر، قررت أن أظل فى كندا نزولا على رغبة الزوج و الأولاد. أيضا كنت مضطرة أن أبقى فى كندا لظروف عملى خاصة بعد أن أصبح لدى مسئوليات و التزامات ضخمة لها علاقة بالتدريس فى جامعة أوتاوا منذ عام 2006.  و لكونى كندية فأنا مدينة بأشياء كثيرة بسبب وجودى فى كندا التى تعلمت فيها أن أفكر بشكل أفضل، تعلمت فيها حرية الفكر و حرية التعبير و حرية العقيدة، كما أننى مدينة بأستقرارى الأسرى لكندا.  

لكن فى النهاية قلبى و روحى مرتبطان بمصر. فأنا فعليا قد تكونت فى مصر، و عندما هاجرت إلى كندا كنت فى الثلاثينيات من العمر. طفولتى و شبابى و ذكرياتى و أحلام التطوير و التغيير تحدث حقيقة فى مصر. و أيضا سعادتى الحقيقية مرهونة بوجودى فى مصر.  و لهذا فى الأعوام الأخيرة قررت أن أرجع بشكل تسلل منظم أى أتسلل عودة إلى مصر بشكل منظم و منهجى. فبدأت أعود ثلاث أو أربع شهور و حاليا أعود لمدة ستة شهور و بعد قليل ستمتد هذه الفترات إلى فترات أطول.

و وجدت لنفسى مكان لم يضع و لم يختف لأننى أكتب و أنشر فى مصر و مصممة على الكتابة و النشر باللغة العربية و يوجد لدى فعليا جمهور من القراء فى مصر و عندما ينشر لى كتاب المردود المعنوى بالنسبة لى يأتى من مصر أو من الدول العربية لأننى أيضا أسافر كثيرا إلى الدول العربية للحديث عن عملى كأكاديمية أو عملى كروائية. كل هذا جعلنى أشعر أن مكانى الطبيعى و فى الحقيقة مكان القلب و مكان الروح هو مصر. فبالتالى يجب أن أجد لنفسى دور. أريد أن أرجع إلى مصر لكى أعطى جزءا مما أخذته من كندا و أوصله فى إطار من الحرية بما تسمح به الظروف المصرية. و لهذا وجدت فكرة أن أنشىء بيت التلمسانى و هو بيت بين الحضر و الريف على طريق مصر إسكندرية الصحراوى، نقلت إليه مكتبة والدى عبد القادر التلمسانى و نقلت إليه جزء من مكتبة الكاتب الكبير إدوارد الخراط تبرع به أبناءه، و حولت المكان إلى مكان ثقافى فنى عندما تدخله تسمع موسيقى و ترى لوحات و كتب، و لأنه بيت كبير أخترت غرفة ومكتبة لى و باقى الثلاث غرف حولتهم إلى مكان لإقامة الكتاب و الكاتبات أثناء إستضافة ورش الكتابة. “

 و لأن حياة الإنسان لا تمض دائما على وتيرة واحدة، فالفرح فيها صديقا للحزن، و النصر صديقا للهزيمة، و الضحك صديقا للدموع. فمن الطبيعى أن يمر الإنسان بظروف صعبة تحاول أن تكسره، فيجد نفسه أمام أمرين إما المقاومة و الصمود أو التراجع و الإستسلام.
و بالنسبة لمى التلمسانى فهى قد اختارت أن تواجه أى صعاب تعترض طريقها و تحولها إلى طاقة إبداع.
حياتى كلها مبنية على فكرة أنه مهما كنت أواجه من صعوبات فأنا أستطيع أن أراها فى إطارها الحقيقى و هو أن هذه الصعوبات مرتبطة بزمنها و بعد فترة يمر هذا الزمن فاعود لكى أقف على قدمى مرة أخرى. و أنا أفكر دائما فى العلاقة الجدلية التى توجد بين الحياة و الموت فمنذ وفاة دانيا زاد و أنا أعيش مع الموت، أنا لا أنس أبنتى. ”
و هنا انهمرت الدموع من عينيها سيولا و أنهارا تعبيرا عن حزنها العميق. و بعد أن هدأت دموعها أستطردت فى الحديث لتشرح لنا كيف استطاعت أن تتجاوز الآلام و الأحزان : ” الإنسان يستطيع أن يعيش مع الموت و يصبح بالنسبة له جزءا من الحياة، و هذه فكرة فلسفية أن الحياة و الموت يعيشان معا. و يجب على الأنسان أن يرى كيف يتعامل معهما. فلحظة وفاة دنيا زاد كانت لحظة فارقة فى حياتى لأنها عرفتنى فعليا أن الكلام النظرى الذى كنت أدرسه فى الجامعة من الممكن أن أعيشه و بالفعل قد عشته فى علاقة أم تفقد أبنتها لحظة الولادة و هو ليس أمرا سهلا بالنسبة لأى أم لكننى حولته منذ ثالث أو رابع يوم من عملية الولادة إلى كتابة. أتذكر أننى ألتقيت فى حياتى بناس حدثت لهم نفس الأزمة و أستطاعت هذه الرواية ان تساعدهم فعندما قرأوها أدركوا كيف يتغلب الأنسان على فقد صعب خاصة و أنه فقد يشعر فيه الأنسان بالمسئولية أى أنه كان سببا فى الوفاة. فيجب طوال الوقت الحياة مع الموت، و هذه الجدلية تحل بأشكال و أدوات مختلفة. أنا أستطعت أن أفعلها لأننى كتبت. طوال الوقت يعيش الأنسان ما بين الذاكرة المؤلمة و قدرته أو الطاقة الداخلية التى تجعله يتجاوزها بأن يعيش معها و لا ينكرها أو يقمعها. أيضا يستطيع الأنسان أن يحول حياته الذاتية المليئة بالأسرار و الأمور الدفينة و الإنكسار و الإنتصار إلى طاقة إبداع. فالحياة ثرية بالتجارب و لا يجب أن نهدرها بدون أن نبدعها كحياة. أنا دائما أفكر كيف أحول حياتى اليومية إلى طاقة إبداع فى صور و أشكال مختلفة مثل : أمل للآخرين، نقل معارف و خبرات للناس، حب للجذور و للبلد، إعتراف بالجميل لكندا. أنا دائما مهمومة بفكرة أن حياتى ليست فقط حياة فرد بين الناس، الناس تساندنى و تسير معى، فأنا لا أسير فى الحياة وحدى. لكن المهم بالنسبة لى هو كيف أحول كل هذه المعرفة إلى وعى بذاتى و بالآخرين و كيف أوصل هذه التجارب بالرغم من قساوتها و صعوباتها إلى الآخرين بإبتسامة صادقة صادرة من قلب يحب الحياة حبا حقيقيا.

 هذه هى عاشقة الكلمة، رائدة من أهم رواد جيل التسعينيات فى الأدب،. الأديبة و الأكاديمية و المترجمة و الناقدة السينمائية، أيقونة الحكاية، الدكتورة مى التلمسانى التى صدر لها حديثا رواية : ” الكل يقول أحبك ” عن دار الشروق, يونيو 2021.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم