مى التلمسانى ويوم فى الجزائر

عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شعبان يوسف

من الراسخ فى تصورى منذ أكثر من عقدين، أن الكاتبة والمترجمة والقاصة والروائية مى التلمسانى، تملك صفات الزعيمة، أو القائدة، وهذا لكافة الأخبار التى كانت تتطاير هنا وهناك عن أفكارها وحركتها فى الحياة الثقافية، واسمها الذى كان يبرز ويكبر يوما بعد يوم، وذلك ضمن فريق أدبى وفنى يحلم بالتغيير وحفر تيار سردى خاص للغاية، كان هذا الفريق يتكون من الأصدقاء منتصر القفاش ومصطفى ذكرى ونورا أمين، وأصدر كل واحد من هؤلاء مجموعة قصصية أو مجموعتين على الأقل، أو على الأقل “رمى بياضه”، كما نقول فى اللغة الدارجة، وبانت علامات كل من هؤلاء الأربعة، ورغم أن الأربعة كتّاب كانوا يتناغمون حول أفكار تكاد تكون شبه مشتركة، إلا أن كل واحد منهم له مذاقه الخاص، وتقنياته المختلفة، ورغم أن أحلامهم كانت تتدثر فى طموحات باسقة، إلا أن الطرق أخذت كل واحد منهم مآخذ شتى.

ومنذ أن التقيت بمى التلمسانى، عندما كانت تسعى لتأسيس ندوة خميسية فى مركز الهناجر، وجمعت حولها شعراء وكتّابا مبشّرين وواعدين وفاعلين فى المشهد الثقافى، ولمحت تلك السمات التى تميّزت بها “مى”، وربما لأنها سليلة أسرة ثقافية فنية لها تأثير ثقافى منذ عقد الأربعينات، وربما لأنها تتقن الفرنسية، وتقرأ بها، ومتأثرة ببعض كتّابها، وربما أخيرا لأنها جمعت بين ممارسة الإبداع السردى، والنقد التطبيقى فى الأدب، والانشغال بالسينما، كانت مؤهلة لكى يكون حديثها لافتا ومختلفا وجاذبا فى الوقت نفسه، لم يكن حديثها فقط، بل كتابتها التى كانت تنشر بعضها فى مجلة “أدب ونقد”.

تلك العناصر التى ذكرتها آنفا، جعلت من “مى” زعيمة وقائدة، تنثر أفكارا وإبداعات مرموقة ومؤثرة، وتأكد ذلك بعد روايتها القصيرة “دنيا زاد”، والتى حققت حضورا فنيّا ذا شأن، وربطت فيها بين السرد المتخيّل، وأطياف من السيرة الذاتية كما قيل آنذاك، وهذا ما دفع القائمين على الجوائز فى المجلس الأعلى للثقافة، لتأسيس جائزة تحت هذا المعنى “رواية السيرة الذاتية”، لكى تكون رواية “دنيا زاد” باكورة الروايات الحاصلة على هذه الجائزة، وأعتقد أن الأمر لم يتكرر فيما بعد.

كانت مىّ تحرص على ندوتها الأسبوعية فى الهناجر، وتشتبك بقوة مع الحاضرين، وحرصت أنا كذلك على حضور بعض فعالياتها، لما كان يثيره الحاضرون من مناقشات جادة بالفعل، ولا أتذكر بالضبط إذا كان حضورها إلى ندوة ورشة الزيتون قبل أو بعد لقائى بها فى ندوة الهناجر، ولكننى أتذكر جيدا أن ميّ أتت وهى فى كامل لياقتها الفكرية، وكذلك كانت تتحرك ـ كما يتحرك القادة ـ بين رفاق وحرّاس وأصدقاء ومحاورين، ويبدو أنهم جمهرة، حتى لو كانوا قليلين، فهى تملك ذلك الحسّ الذى يعطيك شعورا بأنها تتحرك فى موكب فنى وأدبى وفكرى ملحوظ، موكب له قسماته الخاصة جدا، أينما تراها تجد نفسك محاطا بروح ذلك الموكب، فى ندوة الهناجر، وكذلك فى دار شرقيات، حتى فى منزلها العامر، تجدها تمارس روح القيادة الفنية، حيث أننى كنت ضيفا عليها وعلى رفيقها وصديقنا د وليد الخشاب، ولا تخلو تلك اللقاءات المنزلية من مناقشات وطروحات فكرية واسعة، بينما يتناول البعض بعض الساندوتشات الخفيفة.

ذهبت مىّ ذات عام إلى كندا، لتنقطع الصلات وتتجدد هكذا دواليك، حتى أن التقينا فى الجزائر منذ أعوام قليلة، وفى اليوم الذى جاءت فيه، اختلف الميعاد الذى كنا نعتقد فيه حضورها، وبالتالى وصلت إلى مطار هوارى بومدين دون أن يكون فى انتظارها أحد، هذا الخطأ الفنى استطاعت مىّ أن تعالجه ـ كالقادة ـ بيسر وسهولة كما تراءى لنا، لم يكن معها أى أرقام تليفونات، وكنا قلقين للغاية، حتى وجدناها تدخل الأوتيل بعد رحلة جوّية أكثر من 18 ساعة، وهى مستيقظة، ولكن كل ذلك لم يجعل الابتسامة التى تشبه ابتسامة رئيسة وزراء تفارق وجهها المشرق، كان معى فى استقبالها الكاتب الكبير رشيد بوجدرة، وبعد تبادل التحيات التى تليق بالقادة، كانت على موعد بعد نصف ساعة مع ندوتها، لم تشك مىّ من أى إرهاق ـ هكذا يفعل القادة أيضاـ ، وذهبنا جميعا إلى الندوة، وصعدت مى إلى المنصة فى كامل لياقتها المتعددة، وألقت ورقتها البحثية التى لفتت الحضور بشكل قوى، وتحاورت مع ذلك الحضور باللغتين: الانجليزية والفرنسية، ولم تتلعثم، ولم تتعطل لغة الكلام فى أى لحظة من الندوة، وكان الحضور من مختلف جنسيات العالم، مما جعلنى أشعر بفخر، وكنت أريد أن أقول بين كل جملة وأخرى :”هذه الكاتبة من بلادى العظيمة”.

ولا أبالغ عندما أقول بأن حضور مىّ فى تلك الندوة، كان مبهرا للجميع، ورصانة ورقتها، ورغم تلك الرصانة إلا أنها كانت جاذبة بشكل مبهج، وفى عودتنا مساء ذلك اليوم، احتفى رشيد بوجدرة بها وبما أثارته، وكانت سهرة فى بهو الفندق لا تنسى.

ومن الطبيعى أن يكون كل منا له انشغالاته ورفاقه ومعارفه، ولكننا قررنا أن نصنع يوما مصريا بامتياز، وفى تلك التظاهرة الجزائرية الحاشدة، وبالفعل اتفقنا أن نبتعد قليلا عن تلك الأجواء، وأروقة الفعاليات، وقضينا يوما جميلا، وكشف كل منّا أوراقه التى لا يكشفها إلا فى مثل هذه الرحلات المفاجئة فى قطار العمر، ربما يأتى وقت آخر لكى أحكى عن ذلك اليوم، والذى تخلّت فيه مىّ عن كونها رئيسة وزراء الأدب، أو قائدة فى حزب سياسى متمرد، كما يبدو لى.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم