حسني حسن
(1)
تعالى الصوت، الشجي الدافئ، بالأغنية الجديدة للعندليب الأسمر، في فضاء شارعنا، الجانبي الهادئ، عصر ذلك اليوم الصيفي الحار، ومع أولى نسمات الغروب الموشك على النزول. لابد أن العديد من الجيران كانوا قد أسرعوا بتشغيل أجهزة الراديو، واللف بمؤشر الموجات، بحثاً عن الإذاعة التي تبث تلك الأغنية، الجميلة الحزينة، في ذلك التوقيت غير المنتظر، لكن من دون جدوى. لمحنا، نحن الصبية الصغار الذين يمتلكون حرية ورفاهية بالبقاء خارج الشقق والبيوت طيلة أيام العطلة المدرسية وأماسيها، بعض الصبايا والشابات من بنات الجيران وقد أطلت رؤوسهن، الملفوفة غالباً بالإيشاربات الساتان الزلقة، من النوافذ والشرفات في محاولة لمتابعة الغناء الصادر عن شقة الأستاذ ماجد بالدور الأرضي للبناية ، الضخمة العتيقة، المواجهة لبيتنا. أعرف أنهن يتساءلن، بلهفة، عن صاحب تلك الأغنية الآن بعد أن تأكدن أنها غير مذاعة بالراديو. انتهزت إحداهن، وهي شادية الطالبة الجامعية ابنة الأستاذ عبد الموجود الموجه بالتعليم الفني، فرصة مرور عبد السميع صبي المكوجي من تحت شباكها، لتستطلع منه الأمر، فأجابها، بابتسامة كبيرة وبرضا غريب عن النفس، قائلاً إنه ليس العندليب، بل الأستاذ سيد المصري مدرس الموسيقى، القصير السمين، الذي يسكن مع عائلته الكبيرة؛ عائلة الحاج محمد المصري صاحب شونة المخلفات، الضخمة المكتظة بكل الأشياء التي لا يريدها أحد، ويبحث عنها كل أحد، من إكسسوارات السيارات الخردة إلى الفئران المتكاثرة في الأرجاء.
على نحو ما لم أكن أفهمه بوضوح، كنت أعرف أن الحاج محمد المصري قريب لأبي، وأن أسرته الكبيرة المكونة من زوجته، التي اعتدت على أن أناديها “ستي أم رجاء”، وأبنائه التسعة المكونين من أنثى وحيدة رجاء الكبرى وثمانية ذكور، قد ضربت أفرادها، جميعاً وبلا استثناء، غواية الإبداع ولوثة التفرد الغادرة الماكرة من سيد الموسيقي البدين بعوده الرخيص الذي لا يفارقه، إلى جمال الأصغر بقدرته المدهشة على إغواء كل خادمات الجوار الصغيرات لمداعبة عضوه الذكري البازغ، مروراً بسامي الذي كان يحلم بدراسة المسرح لينتهي بالعمل دليلاً ومرشداً للمشاهدين بدار سينما مصر العريقة، وليس آخراً بأحمد سوسو الوسيم الذي شغفني بالحديث عن اختراعاته وبحوثه العلمية السرية ليغدو، في نهاية المطاف، حداد كريتال للأبواب والشبابيك وأسوار المنازل والحدائق!
(2)
أمَا الأغنية، فقد كانت موعود؛ تلك التي غناها عبد الحليم ليلة شم النسيم الأخيرة قبل نحو شهرين، مباشرة قبيل سفره المقرر إلى لندن لتلقي العلاج. أغنية موجعة، مغموسة في إدام الألم المبرح، ومنقوعة في زيت الرجاء الخائب والتوقع التراجيدي الذي لا يخيب. وعلى عادتنا قبل كل شم نسيم، فقد رحنا؛ نحن الصغار والصبية، نشحن بطاريات الحلم بقضاء ليلة، مبهجة طويلة، لا يرغمنا أهلنا فيها على النوم بالموعد المحدد، فيما انشغل الشباب والكبار بتتبع أخبار تفصيل حفل السهرة، وتدوين كلمات الأغنية التي سيتغنى بها العندليب لأول مرة، أو النقاش حول جدارة التحلق أمام شاشة التليفزيون لمشاهدة وسماع عبد الحليم، أو الاكتفاء بمتابعة حفل فريد الأطرش الذي ينحاز له الأكبر سناً، من خلال الإذاعة، والإنصات إلى تقاسيمه على العود وهو يعيد شدوه السنوي بالربيع. لكن الغلبة، في نهاية الأمر، كانت للشباب ولموعود.
بدوري، انحزت لعبد الحليم دائماً. فهل كنت أعلم وقتها إلام أنحاز بالضبط؟
لا، وما كان بمقدور الصبي الذي كنته أن يعلم حقيقة ما يجري بروحه حينها. ما يمرح في سهوبها المخفية من حملان وذئاب يفتنها الفن ويقض مضاجعها، الفتية الطالعة، الغموض والسر. غاية ما في الأمر، أني ربما كنت أحدس، وإن بشكل شبحي مثير، أن ثمة شئ هنا يقترب من القلب، فيما يتواجد هنالك شئ آخر، جميل كذلك، لكنه يتصل بالعقل. والحاصل أن الأمر راح يجلي نفسه، بنفسه، هكذا على الدوام: موعود أم لحن الخلود؟ عبد الحليم أم فريد؟ عبد الوهاب أو السنباطي؟ أم كلثوم أم فيروز؟ وردة أم فايزة؟ نجاة أو شادية؟ ومن بعد، باخ أو موتسارت؟ بيتهوفن أو تشايكوفسكي؟ الباروك أم الروكوكو؟ إلى آخر تلك الثنائيات الشقية التي، وبقدر ما عمقت الإحساس بشجن الوجود المركوز، بقدر ما هددت ذلك الوجود نفسه بالشحوب والاصفرار والذبول والضيق.
في طنطا طفولتي، أخذت الاستعدادات للسهر أمام التليفزيون بالبيت الكبير تتواصل طيلة يومين عبر توجيه الدعوة للجيران للمجئ بأطباقهم معهم من الترمس والحمص والفول والحلبة، والاشتراك في تلوين البيض المسلوق، وتكليف الصغار بالجري لآخر شاع طه الحكيم، ثم النفاذ إلى شارع البحر، لشراء اللب والسوداني من مقلة نور الصباح المزدحمة بالمشترين، والعودة بأقصى سرعة، وأخيراً الجلوس للعب الكوتشينة أو الطاولة أو الشطرنج، بانتظار بدء الحفل الساهر، والجميع يقاوم النعاس بعناد، فمنا من يفلح ومنا من يخسر حربه باكراً نسبياً مع سلطان النوم اللذيذ!
(3)
كنتُ قد التقطتُ عدوى الحصبة بالمدرسة، وبات لزاماً علي أن أعتزل بالبيت، لأسبوعين كاملين، قرب انتهاء الفصل الدراسي الثاني. ولأني أدمنتُ النظر إلى نفسي باعتباري التلميذ المجتهد المجد النجيب، فقد أنكرتُ على ذاتي فكرة استمتاعي السري بالتعطل والتبطل فيما يضطر إخوتي وأقراني للذهاب، في موعدهم كل صباح، إلى فصولهم الدراسية الرتيبة. ولمَا كان حوش مدرستي الابتدائية يمكن لي رؤيته، بوضوح تام، من شرفة منزلنا الكبيرة، فقد بقيت أتابع طابور الصباح في موعده كل يوم، موزعاً بين الشعور الباطني اللذيذ بالفرح والانعتاق، وكذا بشماتة خبيثة مجهولة المصدر، وبين الإحساس بالذنب والدونية والخذلان كوني لستُ في مكاني، الطبيعي، هناك، وهو الإحساس الذي كان يتعاظم في وقت الفسحة وأنا أرقب اندفاع أقراني الصاخب المرح، كما أفراخ دجاج صغيرة فتحوا أمامها مزلاج العشة، نحو الحوش المفروش بالرمل.
في نهاية أسبوع العزل الأول، سمحوا لأقراني وأصحابي بزيارتي من دون تلامس ولا تلاصق ولا عناق. الحقيقة إن مثل تلك الزيارات لعيادة زميل مريض كانت شيئاً اعتيادياً، أكاد أقول فريضة مدرسية واجتماعية. ولأني كنتُ أنجب أقراني و”ألفة المدرسة” كلها، فقد غدا تشكيل وفد التلاميذ المكلف بزيارتي مهمة لابد وأن تنهض بها معلمتنا العزيزة ” أبلة أنعام” بنفسها. وهكذا كان الزائرون كلهم هم أشطر التلاميذ وأنظفهم ملبساً، وربما أثقلهم ظلاً، إلا أحدهم!
فاطمة خضير….
لا أعرف، حتى اليوم، كيف وافقت معلمتنا على السماح بانضمام تلك الفتاة، الصغيرة الشاحبة، ذات العينين الخضراوين بلون الفستق النئ والجديلتين المضفورتين على الطراز الريفي القديم، ذات الوجه الطفولي البرئ والفم الصغير المزموم والصوت الرفيع جميل التنغيم الذي تقرأ به آيات القرآن في طابور الصباح، وذات الكبرياء والتشامخ والإحساس الآسر بالقيمة والثقة في النفس برغم مظاهر الفقر البادية في الملبس.. أقول لا أعرف كيف سمحت المعلمة لها بالمجئ لبيتنا ضمن الوفد المدرسي، على خلاف المعمول به، بصرامة، من التزام القواعد الجندرية في مثل تلك المناسبات!
أدخلتهم أمي لحجرة الصالون، وجاءتهم بالعصير وبعض الحلويات. راح الصبيان يثرثرون ويبلغون سلامات جميع الزملاء والمعلمين والمعلمات، ورحت أنا، وكما يجدر بتلميذ مجتهد، أسالهم عما فاتني من دروس طول الأيام الفائتة كي أحاول استذكارها بنفسي ولا أتأخر عنهم، وبين الحين والآخر، كنت أجاهد كي أهرب من وقع نظرتها الصامتة التي سددتها نحوي وثبتتها علي، من غير أن تنشغل بفكرة تشاغلي عنها وعدم التفاتي، بالمرَة، نحوها.
– بعض أعداد من مجلة سمير، أنت تحبها، أليس كذلك؟
أفيق على صوت الصبية المتسلل إلى أذني بثبات وبغير وجل. أبحلق في عينيها لثوانٍ، ثم أُرغَم على الهروب بسرعة. وفيما راحت هي تلملم بقايا ابتسامتها الطيبة، فقد ضبطت نفسي أنا أبتعث واحدة من تلك الذكريات العجيبة، التي لم أتوقع أبداً، أن تكون معششة هناك في السراديب المظلمة للذاكرة. كنتُ قد تابعت، ذات مرة، المعلمة وهي تضرب فاطمة بالخيزرانة، على أطراف أصابعها الهشة، بعد أن كتبتُ اسمها على السبورة ضمن من يتكلمون ويثيرون الصخب بالفصل أثناء غياب المعلمة عنه. تذكرت لحظتها، وبجلاء نادر، كيف أني لم أشعر بأية مشاعر للشفقة تجاهها وأنا أراها تتألم بصمت، ولا تسمح لنفسها بالتأوه والأنين والصراخ على عادة الأطفال. وتذكرتُ كيف أني أحسست تجاهها بمشاعر عدائية، وأني تمنيت، في أعماقي، أن أراها وهي تبكي وتئن تحت ضربات الخيزرانة، التي كانت المعلمة قد كلفتني أنا، وباعتباري “ألفة الفصل”، أن أقوم بجمع ثمنها من القروش التي يؤديها التلاميذ بأنفسهم، وكذا بشرائها من أحد باعة الخيزران بشارع السكة الجديدة قرب المشهد الأحمدي!
– فيها عدد عن شم النسم، وطريقة تلوين البيض، كل سنة وأنت طيب.
أسمع كلماتها ترن في داخلي، ولا أرد.
إلى اليوم ترن في داخلي، ولا أرد!
(4)
موعود بعيونك أنا، موعود!
كان شريط الكاسيت الأول، في حياتي كلها، الذي أشتريه لنفسي بنفسي. كنتُ في السابعة عشر من العمر تقريباً. وكانت الأشواق قد أفرخت أشواقاً، والأحلام قد أنبتت أحلاماً، والرغبات المبهمة الدافئة لذيذة المذاق قد أيقظت حواساً وأقضت مضاجعَ. أمَا “هدير البوسطة” فقد كانت ما هو أكثر بكثير من مجرد وعد بمتعة السمع، كانت نصلاً مغروساً في لحم الصعود الكوني باتجاه مطلق لحني راقص متألم هزلي ومخاتل. وبالمصادفة المحضة، وآهِ منها كل تلك المصادفات المحضة، فقد ابتعته من محل الشرائط بشارع البورصة، ليلة شم النسيم، مختلساً ثمنه من نقود درس الإنجليزية. صحيح أني ربما فشلت في تعلم الإنجليزية، على النحو الذي يليق ويجدر بتلميذ نجيب، لهذا السبب ولغيره، لكني، وبالمقابل، قد تعلمت ما هو أهم وأشد ضنى؛ الحب!
مع فيروز تعلمت كيف ينبغي لي أن أحب، وكيف أتوقف عن قول كلام تافه ثقيل لا معنى له مثل كلمة ينبغي تلك. لكن فلأنتظر قليلاً، فليس ذلك مقام الكلام عن ربة الفن والسلام. ستسنح لي فرصة أخرى بالقطع لقول بعض ما أقدر على قوله عنها؛ أعني عجزي المخيب للآمال عن القول. فقط، لو تمهلنا كورونا فسحة من الأمل.
(5)
ما الذي يمكن للإنسان أن يتعلمه من الكلمات؟
ربما لا شئ أبعد من استحالة كل تعلم.
إذاً، فلماذا تثير كل ذلك اللغط والبلبلة؟
ربما لأني أتوهم إمكانية القبض على الإيقاع، ربما لأني أتمنى ذلك، وحسب.
أجل، إنها مسألة الإيقاع. ولطالما عرفت، من دون أن أعرف، أنها كذلك!
لم يكن العندليب وحكايات مرضه الحزينة وسفره التراجيدي غداة حفل شم النسيم لتلقي العلاج.
وما كانت كلمات محمد حمزة التي تنضح بالمبالغات التعبيرية عن الوجد وعن الفقد.
ولا كان صوت الأستاذ سيد المصري الذي يجتهد في محاكاة صوت عبد الحليم، ولا بالطبع خيبة أمله في الفن وفي الحياة وفي تقديرها للرغبة بالتفرد.
بل كانت رحلة بليغ حمدي، في مسعاه السيزيفي، لاقتناص الإيقاع الثاوي في ركام الكلمات والأصوات.
وحده بليغ، وغواية الإيقاع!
(6)
هو تهديدٌ لا معنى له في الحقيقة؛ الموت. يبقى الإيقاع خالداً، فلا زمن هنالك ليمر أو لينقضي. الكلمات تمر، وكذا قائلوها، أمَا جرسها فوحده الباقي، لذا فأنا لا أعنى بكورونا وأنا أعبر من أمام المبنى، التاريخي الفخم، لأوبرا الإسكندرية، أو لمسرح سيد درويش كما اعتدنا أن نسميه في صبانا وشبابنا. كنت قد تخرجتُ في جامعة القاهرة مدركاً أني لن أجد لي مكاناً للعمل بها. لقد اخترت ذات يوم ألا أبقى في مقاعد النابهين النجباء، الذين يكلفون بجمع القروش من زملائهم لشراء الخيزرانة التي يُؤدَب بها الكل. وهكذا، فقد صار لزاماً علي دفع ثمن اختياري، مثقلاً بفوائد، قديمة مركبة وباهظة، من جراء الاجتراء على عدم الرد على نداءات طيبة من صبية ذات عيون فستقية نيئة. سألتني صفاء، مستنكرة ومستفزة، عمَا إذا كنتُ أفضل الزواج بامرأة وادعة صامتة لا تهش ولا تنش، فأجبتها بأني كفرت بالكلام كله كله، حلوه ومره، وأراه فائضاً جداً عن حاجة الإنسان، وأثقل، بما لا يطاق، من قدرته على الاحتمال.
– أنت تخادع نفسك، لكنك لن تخدعني.
ولم أرد هذه المرة أيضاً. وكيف لي أن أرد وأنا أعاين تلك العينين، الفستقيتين النيئتين، ذاتهما تحاصراني وتضيقان الخناق على شغفي المراوغ بالإيقاع؟!
لم يكن من بديل أمامي إلا قبول العمل المؤقت كعامل نظافة ورفع مخلفات المطاعم الكبرى والفنادق وصالات الأفراح وقاعات الاجتماع بالشركات والنوادي، ومسرح دار الأوبرا قبل إقامة الحفلات الغنائية والموسيقية عليه. كنا قد تزوجنا في الخريف السابق، وأمضيت الشتاء، طوله، في لملمة زبالة ونفايات رواد تلك الأماكن الفاخرة ليلاً أو نهارأ. عشت شهوراً طويلة أفكر في أن هذا العالم قد شاخ جداً، وأني قد مضيتُ فيه حتى حافته النهائية المشرفة على الهاوية النجمية، وأحلم بانتظار تلك اليد الرحيمة التي ستقدم على منحه الدفعة الأخيرة اللازمة للسقوط خارج المجرة. وفي يوم الجمعة الحزينة، أبلغني منسق العمل بشركة النظافة أنه على الاستعداد للذهاب صباح أحد القيامة، مع باقي “الفريق” فهكذا كان يسمينا نحن البؤساء المقطوعين للنفايات، إلى مسرح سيد درويش لتنظيفه نظافة شاملة قبل إقامة حفل ليلة شم النسيم الموسيقي به. هناك، كانت المفاجأة أن عازف البيانو المصري العالمي رمزي يس هو الذي سيعزف مساءً مختارات من موسيقى موتسارت وشوبان ويوهان سباستيان باخ أعطاها عنوان “إيقاعات”. وبينما نحن منخرطون بالعمل، كانت المفاجأة الثانية بقدوم العازف الشهير، ودخوله علينا، وصعوده فوق خشبة المسرح، ثم انهماكه في ضبط وتوليف أوتار ومفاتيح البيانو الأسود الضخم، استعداداً للتدريب على عزف المقطوعات. رحت أرقبه بصمت ورهبة وقد توقفت عن العمل، الأمر الذي لابد وأنه لاحظه لأنه رفع وجهه عن مفاتيحه البيض السود، وخصني بواحدة من أجمل الابتسامات التي أشرق نورها الإنساني يوماً علي. حياني بإيماءة بسيطة من رأسه:
– هذا المسرح واحد من أفضل المسارح التي عزفتُ عليها في العالم كله، ترددات الصوت فيه رائعة، ويعطيك الإيقاع الذي تريده بوفرة ودقة.
لم أصدق، بادئ الأمر، أنه إنما يخاطبني أنا بمثل هذه الكلمات، ما دعاني، عفوياً، إلى التلفت من حولي للنظر إن كان يخاطب أحدهم ولا أراه. أدرك ما أفكر به، فوسَع من ابتسامته أكثر، متابعاً:
– سأسمعك ما أعني، دعنا نجرب.
أخذ يرتجل بعض الجمل اللحنية على بيانه، وراحت أصابعه، الطويلة المسحوبة النحيلة، تنتفض بعصبية ولهانة فوق لوحة المفاتيح، فيما شرع جسمه الصغير كله بالذوبان والتلاشي باللحن رويداً رويداً، قبل أن يخبط بقوة خبطة ختامية، ويهتف بي:
– لعلك تابعت وفهمت ما أقصده، إنه سحر الإيقاع وفتنته.
للحظة خاطفة، سألت نفسي عما إذا كان الرجل يسخر مني ويتلاعب بي، أو عما إذا كان ممسوساً بإيقاعاته وموسيقاه فلا يرى غيرها، أو ربما، وهذا ما آمله، أن يكون فناناً وإنساناً حقيقياً، يمتلك بصيرة الفنان والإنسان الحقيقي، حيث سيأخذه الإيقاع إلى ما بعده، إلى ما لابد أنه يكمن بعد كل بعد؟!
– أخمن أنك تحب الموسيقى.
– أحبها، لكني…
– لكنك ماذا؟
– لكني ما عدت أمتلك ترف العيش في حبها.
لم أعرف كيف نطقت بتلك الكلمات التي لم أفكر فيها من قبل، التي لم أفكر إلا فيها من قبل كل قبل. لاح لي، على نحو ما، أن كلماتي قد آلمته، إذ لمحته يعض على شفته السفلى ويسرح لثوانٍ قبل أن يهمس:
– تبدو متألماً، لكن الموسيقى ليست ترفاً، إنها الإيقاع، والإيقاع هو نسغ الحياة ودمها. قل لي من يعجبك أكثر من الموسيقيين؟
– باخ.
– باخ؟ ولماذا باخ على الخصوص؟
– ربما لأن موسيقاه حزينة ومتألمة.
استغرق في التفكير، بردي، لدقيقة عاودت خلالها أصابعه النقر بخفة على البيانو، ثم أجاب:
– هي تُصَنف، عادة، على أنها ابتهالات فرح سماوية وروحية، لكنك على حق بالتأكيد، ثمة أشياء حزينة ومتألمة كثيراً جداً فيها. هل ستحضر حفلي الليلة؟
سأل ببساطة وتلقائية، وكأن حضوري لحفله من أكثر الأشياء طبيعية في هذا العالم الذي يخاصم طبيعته، أو كأنما حضوري من أكثر الأشياء أهمية بالنسبة لي أو له. همست له بخجل:
– لا أقدر على دفع ثمن التذاكر.
أطلق الموسيقار الشاب ضحكة، صافية ممتلئة وراضية، وقال:
– تذاكر؟ لا تذاكر، أنت سددت الثمن مسبقاً، وأنت ضيفي، قل لي كم دعوة تريد؟
– اثنتان، لي ولزوجتي.
قام من فوره، وأمرني بأن أتبعه، حتى دخلنا على مدير المسرح. قال للمسئول إني ضيفه، وطالبه بحجز مقعدين لي بالصفوف الأمامية. حدجني الرجل بنظرة بيروقراطية مستريبة، غير أنه لم يبدِ أي معارضة، ووعد بتنفيذ مطلب الفنان. عند خروجنا من المكتب، رأيته يمد لي كفه البيضاء الصغيرة، بأصابعها النحيلة الأرستقراطية، مسلماً، ويؤكد:
– تذكر، الإيقاع ليس ترفاً. سنلتقي مساءً إن شاء الله، أمَا الآن فلنعاود العمل.
بالليل، توجهتُ وصفاء لحضور الحفل. عندما لمحتُ المدير المسئول واقفاً، عند بوابات الدخول الخديوية، يُشرف بنفسه على الداخلين، ذهبت أذكره بتعهده الذي قطعه للفنان، فما كان منه إلا أن زجرني طالباً أن أنتظر لحين الانتهاء من إدخال كبار المدعوين وحاملي التذاكر. وبينما أنا غاطس في حزني أفكر بأخذ زوجتي والعودة أدراجنا بالخيبة، إذ بالسيارة التي تقل الموسيقار تدخل وتقف بالقرب من مكان انتظاري. حرضتني صفاء على الذهاب له لشكوى مدير المسرح، غير أن الفنان كان هو الأسبق بالمجئ إلي. سلم علينا وكأننا صديقان قديمان لديه، وسألني عن المقعدين فأجبته بإحساس بالخزي عما جرى باختصار. لاح غضب مكظوم في عينيه السوداوين، وسحبني من يده، بغير كلام، حتى بلغنا المدير الذي بدا الذعر يكسو إمارات وجهه، وهو يصغي لكلمات الموسيقي الحازمة المكبوحة والقاطعة:
– قلت لحضرتك إنهما ضيفاي، ألا تفهم ما أقول؟
هز المدير رأسه، موافقاً، ثم نكسه، مستسلماً، على طريقته البيروقراطية العتيدة، قبل أن يأمر أحد مرؤوسيه باقتيادنا إلى مقعدين مميزين، لابد أنه كان يدخرهما ليجامل بهما أحداً ما، على طريقته البيروقراطية العتيدة دائماً.
في ليلة شم النسيم، البعيدة المنسية تلك، تعلمت، لمرة إضافية، أن أحب وأن أثق، ثم أن أتجاوز حتى الحب والثقة، وصولاً إلى الإغفال فالنسيان فالتلاشي، ولعل ذاك هو ما كنت أنشده بالضبط، لعله عين الإيقاع!