موضوع البحث عن الشعر وأفق التيه والامتداد في ديوان “أبحث عن الشعر”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد النبي بزاز

يطغى موضوع الشعر ويهيمن على مجموعة “أبحث عن الشعر” للشاعر العراقي مروان ياسين الدليمي، ويتوزع هذا الموضوع بين شق تعريفي ورد في العديد من المقاطع؛ كالمقطع الرابع حيث يقول: “الشعر ليس طائراً./ بل جناحاً يرفض العودة إلى الطائر.” ص 13، وهو تصور وتصوير لماهية الشعر التي لا ترتهن لأي أفق أو محددات، ولطريقة كتابته التي تتم عبر لغة موسومة بالخفقان والارتعاش: “أنا لا أكتب الشعر./ أنا أُمَدِّدُ جثة اللغة/ وأنتظر أن يرتعش إصبعها الصغير.” ص 13، وفي علاقته بكتابة الشعر يقول: “أكتب القصيدة كما يكتب المجنون/ وأمنح لكل قارئ حق التيه…” ص 34، الذي يربطه بالجنون، ويفتح أمام القارئ مساحات للتيه والزوغان، ليطغى بعدها البحث عن الشعر على جل مقاطع المجموعة ابتداءً من أول مقطع: “أبحث عن الشعر،/ كما يبحث الماء عن ملامحه في كأس مكسور…” ص 11، ولينطلق البحث عن الشعر دون توقف، ولا مواربة، بل يرسم امتدادات وآفاقاً لبحث لا ينضب معينه، ولا يتوقف مساره المرهون بنبش في التفاصيل، وغوص في الأضابير: “أنا لا أبحث عن الشعر،/ أنا أبحث عن السبب الذي يجعل الحجر/ يريد أن يرقص،/ وعن الكلمة التي توقظ الريح من نومها.” ص 16، فهو ليس بحثاً محدداً ومحدوداً بل يستجلي ما يحيط به، أي الشعر، من تغييرات، وما يعج به من تحولات ذات إفرازات تغمرها الغرابة والدهشة، تغيّر ثبات المفاهيم، وجمود الرؤى: “كنت أظن أن الشعر طريق،/ فاكتشفت أنه قافلة،/ تسير في العكس…” ص 17.

ويخترق جل تفاصيل متن المجموعة وفصولها من أول مقطع إلى آخره ثنائيات ضدية ترتبط بالبحث عن معنى الشعر كما ورد في المقطع 105: “أبحث عن معنى الشعراء/ في تقاطع الدموع والضحك،/ في تمازج الصمت والضجيج/ في ثنائيات لا تنتهي…” ص 75، وهي ثنائيات تحفل بها العديد من مقاطع المجموعة: “أبحث عن معنى الشعر،/ في تداخل الضوء والظل،/ في لقاء الغياب والحضور،/ بين الصمت والكلام الذي يقال.” ص 57، بحث يظل مسترسلاً في توليفة تجمع بين أطراف متناقضة: “أبحث عن الشعر/ حيث يتصادم الصمت والضجيج” ص 129، وفي: “أبحث عن الشعر/ في صراع النسيان والذاكرة” ص 132، حيث الذاكرة تقابل النسيان، والفراغ يقابل الامتلاء اللذان يدخلان في تصادم: “أبحث عن الشعر/ حيث يتصادم الفراغ والامتلاء” ص 134، وما يفرق بين الصمت والصخب من تناقض وتباين: “أبحث عن الشعر/ في تناقض الصمت والصخب” ص 135.

وتقاطعاً مع مهمة البحث عن الشعر تحضر القصيدة كجزء ومكون من مكونات الشعر، وما يحيط بطرائق وتصور كتابتها: “حين أنتهي من كتابة القصيدة،/ أشعر أنها لم تبدأ…” ص 22، في تجاذب وتناوش بين الانتهاء من فعل كتابتها وبدايته، فضلاً عمّا تزخر به من زخم مجازي غني باستعاراته: “في القصيدة،/ ينبح الزجاج،/ وتنزف الأشجار طيناً،/ وتضع الأسماء حذاء جديداً لا يناسب مقاسها.” ص 23، في استعارة النباح للزجاج، وما تنزف به الأشجار من طين، وارتداء الأسماء لحذاء على غير مقاسها. والتفكير في القصيدة، وتشبيهها بباب في جدار غير محدد الشكل، باب معلق في الهواء يسقط في كمينه/ ذاته كل من اجتاز عتبته: “أحياناً/ أفكر أن القصيدة/ تشبه باباً يتدلى من الهواء،/ وكل من عبره سقط في ذاته.” ص 29.

وعن كتابة القصيدة فالشاعر ينفي ذلك قائلاً: “أنا لا أكتب القصيدة،/ بل أعد لها مكاناً فارغاً،/ كرسياً مكسوراً،/ ونافذة تطل على جدار يشبه السؤال.” ص 31، في تصور مختلف لكتابة القصيدة بوضعها في مكان فارغ، أو مقعد يحتاج للإصلاح والترميم، أو كوة مشرعة على جدار يحمل ملامح السؤال، ليقحمها، أي القصيدة، في متاهات غير متناهية المعالم والأبعاد، وينتقل لتصوير كيفية ولوجه عالم القصيدة، الذي يشبه دخول غريب إلى بيت فارغ من إيقاع الوقت، مسكوناً بالتوجس يتلمس الأثاث، ويجترح صيغة سؤال مختلف موجه للهواء بخصوص سكانه: “دخلت القصيدة/ كما يدخل الغريب إلى بيت هجره الوقت،/ حذراً،/ أتحسس الأثاث،/ وأسأل الهواء عن سكانه.” ص 35.

وعلاقة الشاعر بالقصائد التي تعج بها دواخله، والتي لم يحن موعد ولادتها وخروجها للوجود: “في داخلي قصائد لم تولد…” ص 41، يكبلها الغموض، وتركل الصمت لحرمان الشاعر من النوم: “تتقلب في الغموض،/ وتركل الصمت كي لا أنام.” ص 41، مع ما تحمله من معانٍ مجازية، ويخلص الشاعر لذكر الشبه الخالص والمطلق الذي يجمعه بالقصيدة: “ولكنها تشبهني أكثر مما يشبهني اسمي.” ص 44.

وكلما تشعبت وتعددت طرائق ومسلكيات البحث عن الشعر تعدد تعاطي الشاعر معها كتابةً، وتصويراً، وتفاعلاً. وموازاة مع موضوع الشعر والبحث في هويته وماهيته وعلاقته بالقصيدة يذكر الشاعر عناصر تتشكل منها مدونة الشعر، ويقوم عليها بناؤه كالتشبيه، والمجاز، والبلاغة: “مررت أمس بشارع تعفن فيه التشبيه،/ ورأيت مجازاً/ يتسول تحت شجرة برقوق.” ص 15، بأسلوب مجازي استعاري، والصورة التي يقول بصددها: “الصورة عندي لا توصف،/ بل تُشم،/ تُذاق…” ص 21، والاستعارة: “كل استعارة وُلدت ميتة،/ نفخت فيها من خوفي…” ص 32، في إشارة لقدرة الشاعر على زرع الحياة في الاستعارة لما يضفيه عليها من نفس جمالي ودلالي، والبلاغة: “البلاغة فخ نصبه العاجزون عن الحيرة…” ص 50، وهو تعريف يصور ما يحفل به الحقل البلاغي من أوجه تعبيرية تتعدد وتتنوع أساليب تفسيرها وتأويلها. وكلها عناصر نابعة من صميم الشعر وصلبه وردت مخترقة ومشبعة بمسوحات مجازية وجمالية.

فإلى جانب موضوع البحث عن الشعر وما يقترن به من عناصر وأدوات برز مكون المجاز بشكل لافت في مقاطع الأضمومة بدءاً من أول مقطع الذي ورد فيه: “الليل،/ ذاك العاطل عن الضوء،/ يمشي أمامي/ بقدمين من قطران/ وعينين مملوءتين بخيبة العشاق الذين كتبوا قصائدهم/ على الرمل.” ص 11، مستعيراً القدمين والعينين لليل الذي ينخرط في السير، والنباح للزجاج: “في القصيدة/ ينبح الزجاج…” ص 23، والمراقبة للغموض: “الغموض يراقبني” ص 121، والتنهد للنافذة: “النافذة تتنهد” ص 122، واتكاء السخرية على عصا الزمن: “السخرية تتكئ على عصا الزمن” ص 126، وتململ الصحراء: “الصحراء تتململ/ كأنها عجوز تحلم بحكايات الريح.” ص 133، إلى آخر مقطع (168) حيث يرقص النسيان، ويبتسم الغموض: “النسيان يرقص كشبح يضحك في الظل… الغموض يبتسم،/ كأنه شيخ يحكي أسطورة بلغة مكسورة…” ص 137.

وهناك تعابير مختلفة في أسلوبها عن الأساليب المعتادة كما ورد في قول الشاعر: “الأشياء التي لا تُقال،/ هي التي تكتبني.” ص 30، إذ كيف لأشياء أن تكتب الشاعر؟ والقصائد التي تنمو داخل ذات الشاعر في انتظار ولادة مؤجلة، وتشبيهها بأجنة تحيا من المجاز، ترسف في أصفاد الغموض، وتركُل الصمت في حركة تتغيا منع النوم عن الشاعر: “في داخلي قصائد لم تولد،/ تمشي في دمي كأجنة تتنفس بالمجاز،/ تتقلب في الغموض،/ وتركُل الصمت كي لا أنام.” ص 41.

والإصغاء لرائحة المصابيح: “أسمع رائحة المصابيح/ كأنها أنفاس متعبة تتسرب من قلب الليل.” ص 137، وهو استعمال غير مألوف تغدو فيه للمصابيح رائحة ترتبط بالسمع. كما تضمنت المقاطع عبارات أخرى تنأى عن المعتاد والشائع، تصور فيها الاحتفاء بالتيه، الغوص في اللاجدوى: “لكنني سعيد،/ بهذا التيه،/ بهذا الحفر في اللاجدوى…” ص 52، في رسم لملامح تفكير يقوم على الانزياح عن كل ما هو محدد ومعروف، وتعقب معالم التيه، والنبش في خفايا اللاجدوى، وجوهر الوجود بطلب من الحياة: “كأن الحياة نفسها تطلب مني أن أعيد التفكير في معنى الوجود.” ص 52، وهي هواجس وجودية أنطولوجية تشغل تفكير الشاعر بما تثيره في ذهنه من أفكار، وتصورات، ومفاهيم من قبل العبث واللاجدوى، وجوهر الحياة والوجود.

فمجموعة “أبحث عن الشعر” بمقاطعها الشعرية المشكلة من عناصر بلاغية مجازية، وموضوعات تتمحور حول ماهية الشعر وكنهه، وما يتوسل به من أدوات فنية وجمالية، وانفتاحه على آفاق بعيدة المرامي، متشعبة المسالك، بخوضه في متاهات لا محدودة، انطلاقاً من رؤى تنشد الاختلاف، وتروم التحرر من كل القيود والأغلال التي تعيق انفلاتات الشعر، وتحد من زخم انسياباته وامتداداته بما تضعه من إلزامات، وما تحدده من قواعد وضوابط.

…………………

*ناقد من المغرب

* أبحث عن الشعر (شعر) مروان ياسين الدليمي، دار الميثاق ـ العراق ـالموصل  2025.

مقالات من نفس القسم