سمير عبد الفتاح
تحفل مجموعة حسين عبد العليم الأولي “مهر الصبا الواقف هناك “بعدة ظواهر وقسمات لافتة، لعل أوضحها أنه قسمها إلى قسمين :
الأول: وتعرض لمرحلة الطفولة بأفراحها وأتراحها وهي طفولة فقيرة لا تملك سوى أن ترسم حلمها على الورق، أو تتعقب حاويا وتقتنص منه سعادتها حتى يمر اليوم بهدوء. أو تستعيض عن ضعف النقود بقوة الجسد، وعن العلم بالهرقلة “قصة لزوم ما يلزم”. أو تعود إلى موطنها القديم. في قصة “ترنيمة الحزن الشفيف”، بحثا عن أطلال آلت، وزالت.
والثاني: تصور فيه مرحلة البلوغ الجسمي، والنكوص النفسي والعقلي في حياة سكان قريته، وهي حياة في مجملها تقوم على كثير من الأوهام والأحلام المحبطة، كما تقوم على الخرافة والمكايدة.
فهناك من يستطيع أن “يربط” قرية بكاملها، أي “يحرمها من الإنجاب والعزوة”، ومن يعمل على تكريس مبدأ السيد والمسود وذا بالدعوة لأن يلحق الثاني بالأول حتى في الموت.ومن يؤمن بولاية بعض الناس وقدرتهم على إلحاق الضرر والخراب بغيرهم.
وهو تقسيم موفق إلى حد كبير، لم تشذ عنه سوي قصتين سنعود إليهما فيما بعد.
الملاحظة الثانية :
هي توفيق الكاتب في اختيار عناوين قصصه، وهي مسألة تشف عن قدرة تنظيمية هندسية. لا يوليها كل زملائه الاهتمام الكافي رغم أهميتها، كما جاءت أحجام القصص متقاربة إلى حد بعيد.
الملاحظة الثالثة :
هي شيوع الحوار العامي في كل القصص تقريبا وهي قضية قديمة لها أنصار وأعداء، بيد أن النص وضروراته تحسم القضية لصالحه عادة، والحق أن الحوار هنا مقتصد إلى حد بعيد، ومضفر في لحمة النص، ويساهم في تجسيد الشخصيات، واستنباطها وكشف ثقافتها ودوافعها الباطنية.
الملاحظة الرابعة :
هي تمثل. واستحضار. بعض القيم والمفاهيم التراثية، وهي تناصات يصعب عزلها بسهولة..لأنها تكون مع غيرها مرتكزات محورية في بنية النص، وخطاب أبطاله، وهي اقتباسات مصدرها القرآن والملاحم الشعبية والأحداث التاريخية، والأحاديث القدسية والنبوية الخ..
الملاحظة الخامسة :
لم يلتزم الكاتب بوحدتي الزمان والمكان، وإن كان قد التزم بما سماه النقاد بوحدة الأثر أو الانطباع، فتجده في صفحة 95 مثلا يقول” ورحلت عنايات عن زوجها في تاكسي، وهناك تحبل عنايات وتلد، ثم تحبل وتلد “الخ وهي صياغة. كما هو واض، تطيح بوحدتي الزمان والمكان وإن كان الكاتب قد حافظ على وحدة جغرافية للمكان هي “دارة المحتسب لتكون مسرحا لأحداث القسم الأول كما جعل القرية مكانا بانوراميا لأحداث القسم الثاني”.
الملاحظة السادسة :
هي قدرة الكاتب على الصياغة المتمكنة البسيطة والبساطة لا تعني التبسيط. ومن هنا يشعر القارئ بمتعة ما..تدفعه لأن يقرأ المجموعة دفعة واحدة. وهي بساطة بادية، تعكس تعقد الواقع لا بساطته البادية وتناقضاته التي يستهلكها كل يوم دون أن يشعر بأي حرج أو خجل أو وجل.
وقد ساعد الكاتب على ذلك حداثة السن في القسم الأول، الأطفال والطفولة، ثم نوعية الثقافة والناس في القسم الثاني.
كما نلاحظ. أيضا. أن النهايات في القسم الأول من القصص نهايات غير حادة وغير انقلابية، فهي نهايات تشبه البدايات بمعني أن ليس ثمة فواصل فارقة بين البداية والنهاية، على خلاف نهايات قصص القسم الثاني، الذي يخرج فيه البطل شاهرا سيفه في قصة “حكاية الرجل الغليظ” أو يصر على الانتقام والقتال في قصة “حكاية محمود وبطة”.
الملاحظة السابعة :
هي أن حرص الكاتب على إضفاء جو من المصداقية والواقعية على قصصه، صاحبه ونتج عنه بعض التعبيرات الخارجة أو العامية في سياق فصيح، كما أوقعه في بعض المثالب اللغوية الأخرى كأن يقول مثلا “على جنب” بدلا من جانب وانضراب بدلا من ضرب أو يقول كان سائق العربة الكارو “ملهوا بتدخين سيجارة” أو يقول نعاس عميق بدلا من سبات أو نوم عميق لأن النعاس لا يكون عميقا لأنه بداية النوم وفتور الحواس، أو يقول “يرفص الأرض بأقدامه بدلا من قدميه الخ.
وفي جميع الحالات يجب ألا تحرمنا هذه الهنات من الاستمتاع بالظواهر المشرقة والتي تشي بموهبة الكاتب الحقيقية، وامتلاكه لأدوات فنه ومقومات خطابه.
بقي أن نشير لقصتين خرجتا عن السياق الهندسي الذي حرص الكاتب على تأكيده، وأشرنا إليهما آنفا وهما حكاية “محمود وبطة” و”حكاية الرجل الغليظ “.
في القصة الأولي، يصور مشكلة بين زوجين، محمود وبطة، وهي مشكلة خرجت من أيديهما إلى النيابة والمحكمة، والتهمة “تبديد عفش الزوجية” وحين يطلب القاضي من الحارس أن “يحجز المتهم” حتى آخر الجلسة، وهو إجراء قانوني روتيني معروف. يرفض محمود ذلك بشدة، ويقاوم ذلك فيطرحه الحارس أرضا حتى يسيطر عليه ويدخله الحجز، وهنا فقط، وإزاء هذا الخطر المشترك، تنسي “بطة “كل ما حدث بينها وبين زوجها، وتدفع الحارس في صدره، وتصيح فيه: يا مفتري،
فيدهش محمود، ويكون أول من يخنق الحارس يضربه حين رأي زوجته علی الأرض، وقد “سال الدم من أنفها وشفتيها “ولم يعد “العفش “أو منقولات الزوجية هو المشكل الأول، ولم يعد “التبديد” مشكلة تستوجب تدخل الغرباء أو رأيهم، بل أصبح تدخلهم هو المشكلة، ومن ثم أصبح العسكري. الحارس، هو المشكلة الأولي، والعدو الجديد الذي يجب أن يقاوم.
فقد حسم مشكلة، وخلق مشكلات، فأصبح عدوا مشترکا رازحا لا يمثل ذاته “الغريبة” فحسب، وإنما مثل ويمثل تاريخ العسكر كله، تاريخ القهر والتجبر، ولم يعد حتی “تدخله الشرعي” مقبولا أو مستساغا، فهو. في النهاية يمثل سلطة العزل والتفريق، والكبح والحبس، ومن ثم اتحدا ضده، ذلك العدو المشترك، ونسيا خلافاتهما القديمة فكلها خلافات، مهما كبرت، خلافات شخصية أو عائلية يمكن حلها بعد فنجان قهوة أو قبلة زوجية، ومن هنا صاحت بطة من ثقب زنزانة محمود: “متخافش يا محمود..حتستأنف، وحتنازل عن القايمة متخافش يا محمود.”
ويصبح الهم الجديد للزوج أن ينتقم، ليس مما تسبب في حبسه. ولكن ممن حبسه بالفعل، ممن أغلق عليه الباب لهذا وذاك يصيح من خلف القضبان “أنا عرفته ومش حسيبه.. هقطع لك ايده يا بطة”، ثم يؤكد في نهاية القصة: “حتسجن فيه يا بطة حتسجن فيه.”
أما القصة الثانية التي خرجت عن السياق الذي رسمه القاص، فهي قصة “حکایة الرجل الغليظ وما فعله معي”، وهي من أهم قصص المجموعة. فيما أري. أن لم تكن أفضلها على الإطلاق، وتصور حالة من الحصار والملاحقة يشعر بها البطل دون أن يفهم السبب.
فبينما هو يقف أمام شباك تذاكر السينما، يداهمه شخص غليظ سخيف، على حد تعبير القصة. ويطلب منه أن يصرف له تذكرة متجاوزا بذلك الطابور كله. ورغم أن البطل من مجندي النظام والقانون، إلا أنه يضطر. أمام إلحاح هذا الطاغية، ونظراته النارية أن يصرف له تذكرة، بعد أن أقنع نفسه بأنه لن يستطيع. وحده. أن يصلح الكون، وأن الفساد أشمل وأعم من أن يصلحه فرد، لكن الواقع طرح تداعياته، فعرف أن المسالة لم تنته بهذا التنازل الذي قدمه، ولكنه بدأ به، وأنه قد دق أول مسمار في تابوت حريته وسلامه الداخلي.
ففي السينما، في الظلام، أراح الرجل مرفقه على كرسي البطل، فلم يستمتع البطل بالفيلم وظل يخامره الغيظ والألم.
لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد..ففي اليوم التالي وفيما كان البطل ينتظر وزوجته الباص، انشقت الأرض عن ذلك الشخص السخيف الغليظ فزاحمهما في الصعود بل وحال بين الزوجين حتى استنفد البطل صبره.
وظل سؤال زوجته: “هو مفيش إلا أنت قدامه؟” معلقا في الفراغ، وباتت الرائحة التي لا تطاق قوية إلى درجة يصعب إزالتها بماء بحر کامل وشيئا فشيئا انتقل الحصار من الخارج إلى الداخل بسهولة فأتاه في الحلم “كابوسا رازحا “فرآه ينتزع مفاتيح شقته ويضعها في جيبه، ورآه يتجول في شقته بحرية لا يملكها هو، وقد تعري تماما ولاحت عورته، ثم رآه يتشمم ملابس زوجته الداخلية ورآه يناقشها ويصفعها على وجهها وكأنه زوجها، فيهب البطل من نومه وقد احترق دمه، وعرف أنه أهين، وأن إهانته قد وصلت إلى الحلقوم، ولم يعد ثمة فارق يعتد به بين ما يحدث في الواقع وما حدث في الحلم، وتنتهي القصة بأن يخفي البطل سكينا طويلا في جريدة قديمة.ويخرج بعد فوات الأوان. إلي الشارع الطويل.. شاحذا نصلها.
ولكن من يكون هذا الرجل الذي حرمته القصة من أداة التعريف. ومن أين جاء ؟ وهل هو يمثل نفسه كذات عارية منفردة، أم يمثل سطوة محددة؟ سطوة سلطة، أم سطوة مجتمع؟ ثم كيف تشكل البطل بهذه الهشاشة والسلبية، وهل ما أقدم عليه هو نهاية البداية، أم بداية النهاية؟
……………….
*من كتاب “القصة القصيرة في مصر ـ الجيل الخامس”.