حاوره: صبري الموجي:
استقلّ قاربه، وانطلق يَجدِفُ في بحر الأدب؛ ليخرج لنا من لآلئه وأصدافه .
في رحلته تلك، اتخذ من نصائح أساتذته طوق نجاة، يقيه أمواجَ البحر العاتي، وظلامه المُدلهم.
استطاع أن يسبح ضد التيار؛ ليُخالف المألوف، ويجتاز الحواجز، ويخوض غمار المسكوت عنه.
ألقى في كلِّ فنون الأدب بسهم، فكتب الرواية، والمجموعة القصصية، والقصة القصيرة جدا، كما كتب للطفل، وفي الدراما، وصاغ العديد من الدراسات النقدية .
حصد العديد من الجوائز من بينها : جائزة اتحاد كتاب مصر عن روايته (موجيتوس)، وجائزة الدولة التشجيعية عن مجموعته (روح الحكاية)، إضافة إلي جائزتي نادي القصة، وإحسان عبد القدوس في القصة القصيرة .
رأس وشارك في العديد من اللجان الثقافية فكانت له بصمته الواضحة، وإسهامه المتميز .
يري أنّ التجريب هو أولى خطوات الإبداع، وأنّ مثله الأعلى هو الفكرة وليس الشخص، وأنّ التغير هو القانون الثابت الوحيد، وأنّ الديمومة والثبات أكذوبة !
يؤكد أنَّ الأصالة لا تعني التقوقع، بل أخذ الصالح من التراث والتفاعل معه بما يخدم العصر .
يتنوع نتاجُك الأدبي بين رواية ومجموعات قصصية وقصص قصيرة جدا، فضلا عن المقالات والدراسات النقدية والدراما والكتابة للطفل .. قطعا وراء ذلك نشأةٌ أسهمت في تكوين لبناتك الثقافية ؟
ولدتُ في بيئة لا تقرأ، لم تكن هناك كتبٌ ولا حتى صحف أو مجلات للكبار أو للأطفال، لكنّ أسرتي لم تكن تُمانع في ممارسة أية هواية، سواء القراءة أو الكتابة أو التمثيل أو كرة القدم . حرصتُ على قراءة كل ما أستطيع الوصول إليه من كتب، ومشاهدة الأفلام، والاستماع إلى الإذاعة، إضافة إلى حكايات الأسرة في المساء، وبالذات حكايات الجدات، كل هذا ولّد لدي شغفا بفكرة الإبداع ذاتها، أريد أن أحكي مثلما يحكي الجميع، أريد أن أصنع فيلمًا، أو مسلسلًا إذاعيًا، ولم أكن أعرف كيف يتم كل ذلك .
مع الوقت والتعرف على تقنيّات الإبداع المميزة لكل مجال، نما لديّ شغف بالتجريب، ماذا لو جربت كتابة كذا؟ أو صناعة كذا؟ والتجربة هي التي ستُثبت أنني أجيد هذا الأمر أو لا، وليست لديّ مشكلة في عدم تكرار التجربة إن ثبت لي أنني لست موهوبًا فيما جربته، وبالتدريج بعد تجربة كل ما تستطيع، يتبقى لديك محبة لأشكال محددة من الإبداع، تجد نفسك فيها أكثر، وتجدها أكثر استجابة لك فيما تريد أن تقوله، ولذلك اخترتُ الإبداع الكتابي بالذات، ومنه أركز على القصة القصيرة، ويأتي بعدها كل شيء آخر.
تؤمن بالتغير وترفض فكرة الثبات والديمومة .. ألا يتعارض هذا مع الأصالة التي تُعد من أنصارها ويعدُّ تتلمذك لسنوات علي يد الكاتب الكبير خالد محمد خالد دليلا عليها .. وهل يعني هذا الولاء رفضك للحداثة ؟
أتذكر ما قيل؛ إن القانون الوحيد الثابت هو التغير، الحياة بطبيعتها متغيرة، الإنسان لابد أن يتغير، اتجاه التغير أهو للأسوأ أم الأفضل، للأكثر قيمة أم للأكثر تفاهة، هذا ما يمكن أن نُناقشه، لكنّ الوقوف في وجه فكرة التغير ذاتها أمر لا عقلاني، بل إن من سمات الأصالة أن تُجاري التغير، ثم تأخذ بزمامه لتوجهه لما فيه خير وطنك وأمتك، لا تقف في مواجهة الطوفان، لكن احفر الوديان التي تستوعب مياهه لتستخدمها بعد ذلك، لا أفهم من يضعون الإيمان بالتغير مقابل الأصالة، هذا غير حقيقي وزائف تمامًا، انظر كيف كانت الأمة العربية والإسلامية تقود التغير في كل المجالات عندما كانت قوية وناهضة، أما من يدعون أصالة لفترة زمنية أو فكرة يتوقفون عندها، فهذا هو تعريف الجمود، لقد كان كبار علماء العرب والمسلمين في علوم الدين والدنيا يتعلمون من أئمتهم، ثم يضيفون إليهم ويعارضون بعض أفكارهم، ومن هنا تتقدم الشعوب، هل الحياة قبل الإسلام مثلما كانت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هذه مثلها في العصر الأموي، وهل يشبه هذا العصر زمن العباسيين أو الأندلس، الأصالة تعني الحفاظ على جوهر قيمك لا التكلس عليها، أن تحمل الصالح من تراثك وتتفاعل به مع عصرك، لتكون إضافة إلى هذا العصر لا عالة عليه.
لكل مبدع مثلٌ أعلي يقتفي أثره ويستلهم خطاه .. فمن هم مثل عتيبة مصريا وعربيا وعالميا ؟
سألتُ أستاذي خالد محمد خالد: من مثلك الأعلى؟ قال لي: لا تجعل مثلك الأعلى شخصًا بل فكرة، ومن يومها ليس لي مثل أعلى من البشر، حتى خالد محمد خالد نفسه، وهو ما يجعلني أقبل من كل إنسان ما أراه جيدًا ومفيدًا، وأرفض ما أراه غير ذلك، دون تقديس، ودون كراهية.
ترأس العديد من اللجان والمؤسسات الثقافية ورغما عن ذلك نشاطك الإبداعي ظاهر وملحوظ .. فكيف حققتَ الموازنة ؟
أحب الإبداع بصوره المختلفة، أمارسه لأستمتع، ولن أدع شيئًا يسلبني تلك المتعة، وأحب الحراك الثقافي، أجد أنني أؤدي دورًا ما ربما يكون مفيدًا ولو قليلًا، ولن أدع شيئًا يمنعني عن أداء هذا الدور، لذلك أسعى إلى متعتي الشخصية ودوري الاجتماعي، ربما يكون هذا على حساب أشياء أخرى إنسانية واجتماعية، لكنّ الله رزقني بأسرة تقدر ما أفعله، ولا تلومني على تقصيري إلا من وقت لآخر، وليس كثيرًا !
أنت شغوفٌ بالتراث .. ألم تَخف يوما أن يهوي بك ذلك الشغف إلي حظيرة التقليد .. وكيف حققت العصمة ؟
في كلِّ منا مزيجٌ من كل مكونات ثقافته، وما يجعلك لا تقلد اتجاهًا أو شخصًا بالذات هو أن يكون أحد مكونات ثقافتك وليس كلها، لذلك أحرص على تنوع القراءات، وتنوع مصادر المعرفة والثقافة قدر الإمكان، فهذا يترك فيك أثرًا جدليًا، تحاور هذه المصادر، تستفيد منها بما تراه نافعا ومناسبا لك، وتترك ما تراه غير ذلك، فيصبح التأثر نتيجة هذا الحوار الذي يُنتج الجديد الذي يخصك وليس التقليد لغيرك.
عُرفت بالواقعية السحرية والتي تعني التأثير والتأثر بالنص بصورة تزيده ألقا وتشعر القارئ بالإثارة والتشويق .. دلل علي ذلك في إبداعك وماذا أضفت لهذه الأعمال المُستلهَمة لتتميز عن مصادرها الأصلية .. وألا تعتبر هذا التدخل تعديا علي النص وتشويها لمعالمه ؟
قرأتُ في الواقعية السحرية لأدباء أمريكا الجنوبية، وأعجبت بها كثيرًا، لكن تأثيرها عليّ لم يكن طاغيًا لدرجة التقليد لأنني قبلها قرأتُ في التراث الشعبي المصري منذ العصر الفرعوني حتى الآن، وفي تراث الشعوب الشرقية والغربية، حكاياتها الشعبية وأساطيرها، وأرى أنني أكتب بعض أعمالي في إطار ما أسميه (الواقعية المصرية) تمييزا لها عن الواقعية السحرية لأمريكا الجنوبية التي استقت بعض مصادرها من التراث العربي أيضًا، فالحضارات لا تنتج من فراغ، وربما تنتمي متواليتي (مرج الكحل)، و(حاوي عروس) إلى هذا الاتجاه الذي أشرت إليه.
أمّا بخصوص ما أشرت إليه في نهاية سؤالك فأظنك تقصد تحويل رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز إلى مسلسل إذاعي أخرجه محمد خالد، وقامت ببطولته سوسن بدر ومحمود الحديني وخالد الذهبي بإذاعة البرنامج الثقافي، لقد حرصت على المحافظة على روح النص وسماته فوق الواقعية وأنا أنقله من لغة مكتوبة إلى لغة الإذاعة، وقد شهد من تابعوا المسلسل أن هذا قد حدث بنسبة كبيرة والحمد لله.
لعتيبة إسهامات نقدية جادة .. فبرأيك هل يُعد (نقدُ النص) قاطرة تقود زمامه أم أنه عربة تمشي في فلكه ؟
لا أحاول أن أقود النص أو أسير في فلكه، بل أحاولُ فهمه من خلال تفكيكه لمعرفة كيف بناه المبدع، وهل هذه الكيفية في البناء هي الأكثر قدرة على التعبير عن فكرة النص أم كانت هناك طرقٌ أخرى يمكن أن تؤدي إلى وصول أعمق وأجمل.
أتحاور مع النصوص ولا أنتقدها، أصغي إليها لنستمتع باللعبة معًا.
وبالنسبة للرقابة..هل تراها ظاهرة صحية تحارب الغث أم أنها حَجْرٌ علي الإبداع ؟
أنا ضد أشكال الرقابة كلها، الرسمية والفردية، لكلٍّ أن يقول أو يكتب ما يشاء، ولمن لا يعجبه الأمر يرد عليه بكتابة أو قول مضاد بعقلانية وموضوعية، أما أن تصبح ساحات القضاء أو الرقابة أو السوق الشعبية الرقمية (الفيس بوك) ساحات للتناحر للتمسك بالأفكار دون الرغبة في مناقشتها بجدية، فهذا ما لا أستسيغه، ولو جعلنا شعارنا: (رأيك خطأ يحتمل الصواب ورأيي صواب يحتمل الخطأ)، (أختلف معك في الرأي لكنني مستعدٌ لأن أحارب من أجل حريتك في التعبير عن رأيك) لجنّبنا أنفسنا الكثير من الوقت والجهد والضجيج الفارغ، وفي كل الأحوال الرقابة لا تحل مشاكل حقيقية، بل غالبًا ما تكون على حساب المهم والمفيد.
إذن كيف نتغلب علي الإسفاف في الأدب والخروج عن القيم والتقاليد ؟
كما قلتُ لك، الرد على الإسفاف يكون بتقديم العمل الجيد، والخروج عن القيم والتقاليد شعارٌ يجب أن نحلله، أية قيم وأية تقاليد، هل هي أساسية ومهمة وإنسانية ولا غنى عنها، أم هي عوائق في طريق التقدم للأمام، فليس كلُّ ما ورثناه يستحق أن نحتفظ به، وليس كل جديد يستحق أن نتمسك به، لم تقض الرقابة على رأي، أنت تذكر الحلاج الآن، لكنك لا تذكر قاتله، وتذكر سقراط ولا تعرف أسماء من حكموا عليه، وهكذا دائمًا، الرأي بالرأي، وليس بالرقابة أيا كان شكلها أو مستواها.
كتبتَ للطفل فهل هي كتابة بغرض الانتشار ومدّ مظلتك لكل الميادين أم أن هناك أهدافا تنشدها ومقاصد تستشرفها.. وبرأيك ما هي مقومات الكتابة الجيدة للطفل ؟
كان الكتاب الثالث في مسيرتي الأدبية مجموعة قصصية للفتية بعنوان (الأمير الذي يُطارده الموت وحكايات أخرى)، فتواصلي مع الكتابة للفتية والأطفال يرتبط ببداياتي، وعندما أكتبُ للأطفال أحاولُ أن أقترب منهم وأفهمهم، وأفكر معهم، ولا أهدف لأن أمنحهم خبرتي وتجاربي وأفهمهم حكمتي العظيمة! بل فقط أحاول أن أكون قريبًا منهم لدرجة أن يتقبلوني بينهم لأعود طفلًا.
مختبر السّرديات بمكتبة الإسكندرية .. (أعتذر) هل هو فقاعة ثقافية تُضاف للعديد من الفقاعات أم أن له أثرا ونشاطا ملحوظا ؟
لا تتوقع مني أن أدافع عن المختبر، لكن راجع تاريخه وما قدمه خلال 15 عامًا، والمختبرات العديدة التي أنشئت في دول المشرق العربي اقتداءً به، وقرر بنفسك.
مجالسُكم العُتيبية هل هي إحياء لفكرة الصالونات الثقافية التي قلّت مقارنة بذي قبل أم ماذا ؟
لا، إنها سياحة في الروح والعقل والأفكار من خلال حوار بين جيلين، أسئلةٌ حائرة تحاول أن تجد إجاباتها، مع اتخاذ الإطار التراثي المتمثل في العلاقة بين الشيخ والمريد، ومراعاة روح العصر الذي يفضل الإيجاز والوصول إلى المعنى من أقصر الطرق.
تمتاز روايتك الأخيرة (حكايات عزيزة) بوحدة الفقرة والتي تساعد القارئ علي قراءة الرواية من أي مكان وهذه صنعة مبهرة .. فهل تؤثر هذه الصنعة علي الإبداع ؟
هذا خطأ شائع، اعتبارُ الإبداع بلا صنعة، مع أن تراثنا العربي نفسه لا يرى ذلك، ومن أشهر كتب النقد العربية كتاب (الصناعتين) لأبي هلال العسكري، ويقصد بهما الشعر والنثر. والجاحظ يتحدث عن الأفكار الموجودة على قارعة الطريق، ويعلي من شأن صياغتها المبدعة، إذن الكيفية هي جوهر الإبداع، والكيفية تعني التقنيات، تستخدم تقنيات متاحة بطريقة مبدعة خاصة بك، أو تحاول ابتكار تقنية تناسب فكرة عملك، وهذا ما حاولته في روايتي الأحدث “حكايات عزيزة”.
تقييمك للمشهد الثقافي في ظل ثورة النشر والإنترنت ؟
التقييم فوق طاقتي، لأنه ليكونَ تقييما موضوعيا لابد من أدوات للقياس، أرقام، محددات متفق عليها، لكن يمكن أن أصف ما أراه بأنه مشهدٌ مترامي الأطراف بفضل التكنولوجيا، ملئ بالإبداع الحقيقي، وبه الكثيرُ من الغث بالتأكيد، سهل على الكاتب التواصل مع جمهوره، وجعل الأمر صعبًا جدًا لكثرة من أصبحوا يكتبون، لستُ ضد أي كتابة فهي ستكون مفيدة بقدر أو بآخر، لكن ما نحتاجه فعلًا، هو وجودٌ مؤسسي له رؤية واضحة ومُعلنة وخطة عمل وآليات تنفيذ للخطة؛ لكي يخرج من المشهد الثقافي المصري أفضل وأعمق ما فيه ويركز عليه وينميه.
نقلا عن الأهرام