منطقة للمودة

منطقة للمودة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شادي عبد العزيز

يقول علاء خالد في (خطوط الضعف): "كان عم محمد يمتلك منطقة للفرح، أو هذا ما بدا لي في أول لقاء معه، كان هذا الفرح هو التوحد مع الآلام بواسطة صديق عابر. هي المنطقة الضعيفة التي يدخل منها الآخرون، والتي تعني أن هناك آلاماً لم يتم الحديث عنها بعد، آلاماً ما تزال تتفاقم ويعاد بناؤها من جديد. الظلام لم يسدل تماماً، ما زالت هناك ذات أخرى لم يتم الحديث عنها، الذات الأمل، التي لا تتحقق إلا في وجود آخرين بالنسبة لعم محمد"

يمتلك علاء خالد منطقة للمودة، يجيد الإنصات إلى البشر، ويستمتع بحكاياتهم، لا يتكلم كثيراً، وفي كلامه القليل أسئلة أغلب الوقت، أرى انشغاله بالرحلة انشغالاً بالبشر قبل المكان، يأخذ من الوجوه التي يقابلها علامات وخريطة رحلة يكملها بنفسه، يصف عم محمد أنه يمتلك منطقة للفرح ثم ينتقل بسلاسة إلى تعريف الفرح المقصود، فلا أنشغل بعدها بمقابلة عم محمد في رحلة مستقبلية إلى سيوة، بل أنشغل بوصف الكاتب لهذا الفرح، وأخرج من الوصف فرحاً، أراني أقرب لمعرفة علاء بعد نهاية الفقرة، أو هذا ما يبدو لي.

وما يجمع الانشغال بالبشر والانشغال بالمكان عند علاء خالد يظهر في وصفه للمكان في حواره مع نائل الطوخي[1]: ا”لمكان فكرة علمية فيها نوع من المعرفة المادية والقريبة أكثر من تلقيك المعلومة من خلال زمن”، المرور على الأماكن والأشخاص في خطوط الضعف ليس مروراً عابراً، ولا أعني بذلك مدة الإقامة قدر ما أعني عمق النظرة نفسها، جمع التفاصيل وتسجيلها، الإنطباعات الشخصية التي تؤطر تلك التفاصيل وتخلق مناطق التقاطع والاختلاف مع المكان وساكنيه، الوصف في خطوط الضعف يحاول التحرر النسبي من المسافة من خلال المعرفة المادية القريبة التي تأتي بالاحتكاك المباشر، بالإقامة في التفاصيل لا بالمرور العابر، بالحكي الحر، لا بالأسئلة المكررة.

لا يجب أن نغفل عنوان السيرة، فالكتاب رحلة كذلك في خطوط ضعف شخصياته دون أحكام مطلقة، ودون نماذج جاهزة، ولا يعفي علاء نفسه من خطوط الضعف، فيقول في مقال له بمجلة العربي[2] أن فكرة الكتاب هي (البحث بدأب عن خطوط الضعف التي تتخلل حياته) والحقيقة أن خطوط الضعف تتخلل حياة شخصياته كذلك، خطوط أشبه بشقوق صغيرة تجعل شخصياته أكثر إنسانية، فيقول عن روبيكا: 

الملابس الواسعة التي ترتديها “روبيكا” دائما، كأن آخرين يعيشون معها داخل هذه الملابس وتحملهم أينما ذهبت، أو آخرين منتظرين سيكون لهم هواء بالقرب منها، مثل علاقتها بصاحب محل المشغولات والذي تقضي عنده اغلب وقتها، وأنه لمس قدمها الباردة كثيرا، ليس لها علاقة جيدة بالتدخين، السيجارة هي الصديق المؤقت تحمله معها لوحدتها، ودعامة تقوي بها عمودها الفقري.

لا يجمع الإسكندرية وسيوة سوى الأفق الواسع لكل من البحر والصحراء، المساحة المفتوحة للتأمل بين نقيضين، بين المدينة سريعة الحركة والتغير، وبين الصحراء الأزلية، كان هذا الكتاب مهماً لعلاء في ظروف حياتية في التسعينيات يصفها بالصعوبة، وترتيب الكتاب مهم كذلك بين باقي كتبه، نرى علاء هنا أكثر حيرة، أكثر تساؤلاً، تميل أفكاره إلى التجريد ويستعصي بعضها على الفهم لمن لا يعرفه، يحاول التوفيق بين غضب مخزون من أبيه وحزن لوفاته، يخيم موت أبيه الطازج على الكتاب، فيقول:

كان يمتلك دونية لم تجد لها قناعا سوى الحساسية المفرطة، سوى صفة “الفنانأو “الأخلاقي”، ولكي يحمي نفسه, ومحاولة أمي، وأنا معها، لإعادة الميزان إلى وضعه الطبيعي، بالتحمل والصبر والتضحية، كل منا بطريقته في الصبر وفي التحمل وفي التضحية، أما هو فلم يجد ما يضحي به، فلجأ إلى انتقامات اجتماعية خفية حتى عنه، وهي طريقته في الحياة، واختار حياة خارجية لم تكن شريكة فيها، هي فقط للبيت ولزيارة الأقارب، حتى مع أصدقائه هؤلاء كانت منفصلة، وكثيرا ما كان يرن الهاتف وعلى الخط الآخر زوجة لأحد أصدقائه، وما على أمي إلا أن تقفل السماعة مسرعة بعد ثوان لتبادل السلام، ويستمر حديثه معهن طويلا، يستهلك فيه أكثر من فنجان من القهوة، ويستهلك أكثر من مرور لي على الصالة.

أحب الإشارة إلى رواية علاء خالد الوحيدة (ألم خفيف كريشة طائر) كرحلة في الزمن في مقابل الرحلة في المكان إلى صحراء سيوة، يعود الكاتب للحديث عن أبيه في الرواية، فنرى مسافة لم تكن موجودة بينه وبين الألم الذي أصبح –باعترافه- أكثر خفة وإن ظل موجوداً ومؤثراً، في الرواية نرى وصفاً أقل قسوة للاب، نرى تخففاً من الغضب واللغة الحادة ، وتجعل المسافة خطوط الضعف في صورة أبيه أكثر وضوحاً، أحب أن أضع الكتابين متلاصقين في المكتبة، ويحلو لي أن أتخيل قدرتي الخرافية كقارئ أن أخلق منطقة مودة بين الكتابين، أسميها الرحلة.


[1]http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=66047

[2]http://www.alarabimag.com/Article.asp?ART=3853&ID=46

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم