حاورها: أسامة فاروق
“حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر! حسنا. فلتكن الكتابة حفرا على آماق الابصار، فلتكن طريقا لعماء يعمق الرؤية!”. هكذا تفتتح منصورة عز الدين روايتها “جبل الزمرد” وتلخص رؤيتها للكتابة فى آن معا.
في شهادة عن الكتابة، قالت منصورة إن الكتابة الجيدة هي تلك التي تطرح أسئلة شائكة وتكون على تماس مع المسكوت عنه بمعناه الواسع. هي التي تهدف لإقلاق القارئ واستفزازه، وهز يقينه الثابت. وهو بالضبط ما تفعله، ففي كل أعمالها منذ مجموعتها القصصية الأولى “ضوء مهتز” ورواياتها “متاهة مريم” و”وراء الفردوس” وحتى أعملها الأخيرة “نحو الجنون” و”جبل الزمرد” هناك دائما مساحة واسعة للتأويل، هناك ما هو خلف السطور الواضحة، والحكايات الغرائبية. نصوصها خاصة القصصية دائما ما تتطلب إعادة القراءة مرات ومرات ليس فقط لاستحلاب المتعة لكن لاستخلاص الفكرة القابعة خلف السطور. مؤخرا فازت روايتها “جبل الزمرد” بجائزة أفضل رواية بمعرض الشارقة. هنا تتحدث منصورة عن الرواية والكتابة والجوائز وأشياء أخرى.
– مبروك حصول “جبل الزمرد” على جائزة أفضل رواية بمعرض الشارقة. ماذا تعني لك الجوائز؟
شكراً جزيلاً.. لاحظت مؤخراً أن الجوائز أصبحت تزيد من مقروئية الأعمال وتوسع دائرة انتشارها، وهذا لم يكن موجوداً قبل سنوات، لا أعرف أسباب التغير، لكن من الجيد أن يؤدي شيء ما إلى لفت انتباه القراء إلى الأعمال الأدبية خاصة في ظل سوق نشر لا يهتم كثيراً بآليات التوزيع الحديثة.
لكن ككاتبة، ورغم أني بدأت النشر منذ كنت طالبة بعد فوزي بجائزة على مستوى الجامعات المصرية، أرى أن الجوائز بمفردها لا تصنع كاتباً، والانشغال بتجويد الكتابة والإخلاص لها، بغض النظر عن التلقي، هما الأساس.
– تشتبك الرواية مع “ألف ليلة وليلة” بل تقولين أنها الحكاية الناقصة من الليالي ألم تخافي من سطوة النص الشهير وصعوبة تحديه؟
في ما يخص الكتابة عموماً، أجدني مترددة جداً، وسواسي القهري يدفعني لمواصلة التنقيح والمراجعة. ركنت “جبل الزمرد” في الدرج لأكثر من سنة، ونقحت المخطوط كثيراً، كان من المفترض أن تصدر في يونيو 2013، لكني طلبت من الناشر تأجيل النشر لرغبتي في إلقاء نظرة أخيرة على العمل.
ربما نبع هذا التردد من الاقتراب من عمل مهم وملهم كالليالي، لكن من جهة أخرى، يمكنني القول إن اشتباكي مع الليالي جاء كرغبة مني في اللعب معها وعليها بشروطي الخاصة، وبعيداً من الصور النمطية المنتشرة عنها عربياً وغربياً. الخيال في الرواية في معظمه مختلف عن خيال الليالي رغم استلهام عدد من تيماتها خاصة من حكايات: الحسن البصري، رحلات السندباد. اللغة كذلك مختلفة.
اللجوء الى اللّيالي كان حيلة فنية، للاقتراب من أفكار خاصة بالتحريف وعلاقة الشفاهي بالكتابي.. حكاية زمردة ليست الحكاية الناقصة، بل بالأحرى الحكاية المُحرَّفة والمطرودة من جنة الليالي.
لم أرغب في إضافة حكاية جديدة إلى ألف ليلة، ولم أطمح للتشبه بشهرزاد، بقدر ما أردت مناقشة أفكار تشغلني بشكل روائي، وفي حالة انشغال الكاتب بأفكار تخصه وقراءته للتراث بعيون نقدية، يتحرر تلقائياً من سطوته.
– رغم هذا الاشتباك فإن هناك إصراراً على أن تكون “هدير” الحداثية هي بطلة العمل؟
الخيط الأساسي في العمل معاصر، وزمن الرواية الغالب هو عام 2011، ورغم وجود خيط سردي يدور في زمن بالغ القدم، إلّا أنه يلتئم بعد منتصف الرواية مع الخيط المعاصر. وكما قلت لك لم أرغب في محاكاة لغة الليالي أو أجوائها بقدر ما أحببت اللعب معها، وهو لعب يبلغ حد التضاد أحياناً.
– كيف تحددين طبيعة العمل إن كان قصة أم رواية؟
هناك أفكار وشخصيات تكون واعدة منذ بالبداية بعالم أوسع ونسيج متشابك، في هذه الحالة أعرف أنني بصدد كتابة رواية، لكن حدث أكثر من مرة أن كتبت قصة قصيرة ونشرتها كقصة مكتملة ومكتفية بنفسها، وثم بعد فترة اشتغلت عليها مرة أخرى لتصبح جزءاً من رواية. على سبيل المثال، شخصية إيليا في “جبل الزمرد” قادمة من قصتي القصيرة “ليل قوطي” المنشورة في مجموعة “نحو الجنون” والتي تُرجِمت للإنكليزية ونُشِرت في مجلة غرانتا البريطانية، كما سوف تُنشَر خلال أسابيع ضمن أنطولوجيا أميركية تضم مختارات من القصص الغرائبية تمتد من منتصف القرن الـ19 حتى الآن.
والرواية التي أعمل عليها حالياً، بدأت كنص قصير كُتِب للنشر في دورية “البوابة التاسعة” اللبنانية، وما أن انتهيت من المشهد الأول، حتى أدركت أن ما أكتبه مشروع رواية وليس نصاً قصيراً.
– كتاباتك القصصية دائما ما تكون محملة أكثر بالأفكار وأكثر طرحا للأسئلة. هل هي طبيعة الجنس الأدبي التي تفرض ذلك أم أن هناك أسباباً أخرى؟
لست متأكدة من اتفاقي معك في هذه النقطة، لكن يمكنني تفهم كلامك، إذا كان المقصود به أن قصصي القصيرة أكثر نخبوية وغموضاً. أعتقد أن القصة بطبيعتها تتيح حرية أكبر في الاستغراق في الإبهام والغرائبية، لا أقصد أن الغموض غاية في حد ذاته، لكن ما أعنيه هو الإبهام الفني المناقض للمباشرة التي تقتل تعدد التأويل أو تحد منه.
وأتذكر هنا المآخذ التي أخذها بورخيس على الرواية كفن مثل أن التفاصيل غير الضرورية تثقل على حبكتها، وأن الرواية لا يمكنها أن تخلص نفسها من آثار الواقع مهما كانت هذه الآثار طفيفة، وهذه المآخذ مفهومة في إطار رفض بورخيس الواقعية والنظر إلى الفن باعتباره محاكاة للواقع، وأنا وإن كنت أتفق معه في رفض النظر إلى الفن باعتباره مرآة للواقع ومحاكاة له، لا أوافقه في موقفه المعادي لفن الرواية.
شخصياً، أحب ما تتيحه لي الرواية أثناء كتابتها، من مساحة للتركيب واللعب ومراكمة التفاصيل كأنما أنسج نسيجاً معقداً لا يكشف لي عن وجهه إلا قرب النهاية، كما أن لجوئي للغرائبي والفانتازي ككاتبة، لا ينبع من رغبة في الهرب من الواقع، بل من رغبة في فهمه على نحو أعمق.
– لديك خبرة في عالم الأزهار والنباتات وربما الزراعة بشكل عام، تظهر كثيراً أعمالك، من أين جاءت هذه الخبرة؟
– الاهتمام بالنباتات ولع شخصي منذ الطفولة، نشأت في بيئة زراعية وكنت أهتم بحديقة المنزل منذ صغري، وبالتالي كوَّنت خبرة عملية في هذا المجال، ومن الطبيعي أن تظهر هذه الخبرة في الكتابة بشكل تلقائي، لكنني أيضاً مؤمنة بدور البحث، البحث في الكتابة الروائية وعدم الاكتفاء بالخبرات الشخصية، فإذا كنت أكتب عن شخصية روائية مهتمة بالحيوانات مثلاً، أو بالعمارة أو أي مجال آخر، أجمع مادة كافية عن هذا المجال.
– تربطك أيضا علاقة خاصة بالمدينة التي قد لا تصلح كمكان للعيش، فهل لا تزال القاهرة صالحة للكتابة (فيها وعنها)؟
القاهرة، رغم كل مشاكلها أو ربما بسببها، مدينة ملهمة جداً وبالغة الحيوية، وشأنها شأن المدن العريقة هي مدن عديدة في مدينة واحدة. وطبعاً لا تزال صالحة للكتابة عنها.
علاقتي بها مركبة ومتغيرة، في البداية، قاهرتي كانت قاهرة المهمشين والغرباء، قاهرة البنسيونات وبيوت المغتربات، والأشخاص الباحثين عن عمل ممن يخرجون صباحاً من حجرات ضيقة مستأجرة وهم لا يعرفون إلى أين سيذهبون، يتسكعون طويلاً حتى تجرحهم نظرات أصحاب المحال والمارة الآخرين، فيجلسون بالساعات فى محطة الأتوبيس قبل أن يركبوا أتوبيساً دون السؤال عن الاتجاه الذي يقصده، لأن المعرفة لن تغير شيئاً من برنامجهم اليومي غير المحدد أساساً.
مع الوقت اختلفت علاقتي بالمدينة، إلّا أنني لم أتخل أبداً عن النظر إليها بعين الغريب، لإيماني بأن الألفة والاعتياد يعيقان الرؤية.
أما بخصوص الكتابة في القاهرة، فأعتقد أنها بزحامها وفوضاها، مرهقة نفسياً وخانقة للإبداع، وطريقتي الوحيدة للكتابة فيها هي العزلة شبه التامة، وساعدني على هذا انتقالي مؤخراً للعيش في ضاحية بعيدة نسبياً، أكثر هدوءاً وأقل تلوثاً.
– الكاتبة والصحفية… من منهما يعطل الآخر؟
الصحافة معطلة بدرجة كبيرة لأنها مهنة متطلبة وتقتل الوقت، لذا من الصعب التوفيق بينها وبين مهنة أكثر تطلباً مثل الكتابة الإبداعية.
– انت متزوجه من الكاتب ياسر عبد الحافظ. أن يعيش كاتبان فى مكان واحد وعمل واحد كيف تتعاملان مع هذا الوضع وكيف يؤثر على كتابتك؟
أعتقد أن التجربة، في العموم، مشوقة وملهِمة. منذ البداية حرصنا على أن يكون لكل منا درجة كبيرة من الاستقلالية عن الآخر، عوالمنا الإبداعية مختلفة تماماً عن بعضها البعض، هناك احترام متبادل للاختلافات بيننا، وأعتقد أننا مدينان بنجاح علاقتنا لهذه الاختلافات.
أحب كتابة ياسر عبد الحافظ كثيراً، وأرى أن روايته “كتاب الأمان” من أفضل الأعمال التي قرأتها خلال السنوات الأخيرة، قرأتها مخطوطة، بطبيعة الحال، كما كان هو من أول من قرأوا مخطوط “جبل الزمرد”، لكن أثناء الكتابة نفسها لا نتناقش إطلاقاً حول ما نكتبه أو حول المشكلات والتحديات التي تواجهنا خلال الكتابه.
– لديك معرفة كبيرة بسوق النشر في مصر كما أنك بحكم عملك على اطلاع بحركة النشر في كثير من دول العالم. في رأيك ما أبرز مشاكل النشر في مصر؟
هناك مسافة كبيرة تفصل بين النشر عندنا والنشر في أسواق الكتاب الكبرى في العالم. درجة الاحترافية في قطاع النشر المصري أقل، ومعظم دور النشر مشاريع عائلية، كما أنه في كثير من الحالات تنقطع علاقة الناشر بالكتاب بمجرد إصداره له، كأن دوره محصور في أن يكون مجرد وسيط بين الكاتب والمطبعة.
حكى لي ناشر ألماني، كيف أنه قراره بنشر عمل ما يتوقف على عوامل عديدة وأسباب لا تعود له وحده، بل تشاركه فيها أحياناً المكتبات الموجودة في البلاد الناطقة بالألمانية (سويسرا، النمسا وألمانيا)، إذ يرسل للمسؤولين عن هذه المكتبات العناوين الموجودة في قائمته مع نبذة عنها وعن مؤلفيها، وبناءً على درجة حماس المكتبات للأعمال يرتب أولوياته في النشر.
لا أقول إن هذه طريقة مثالية في الاختيار، إذ قد لا تكون الجودة الفنية هي المعيار المؤثر، لكنها طريقة تكشف عن وجود آليات محددة ومعايير واضحة تسبق الاختيار، بينما في مصر نرى أن العشوائية هي الغالبة.
لكن من ناحية أخرى يعاني الناشرون المصريون من مشاكل كثيرة من بينها شيوع القرصنة وتزوير الكتب الرائجة، وأيضاً ارتفاع الضرائب والجمارك على المواد الداخلة في الطباعة.
– من خلال متابعتك هل يمكن القول أن هناك جيلاً جديداً من الكتاب في مصر أم أن موجات الرعب والكتابة الساخرة… الخ مجرد ظواهر وستختفي؟
لو تقصد بالجيل الجديد، موجة كتاب أدب الرعب والبِست سيللر خلال السنوات القليلة الماضية، فالأمر يحتاج إلى قراءة موسعة لأعمالهم، وللأسف لم أقرأ لهم بعد. لكن بشكل عام انتشار الروايات الخفيفة ظاهرة موجودة في العالم كله، فكتاب الروايات البوليسية والغرامية الخفيفة مقروئيتهم أضعاف مقروئية الأعمال الأدبية الأكثر تركيباً وفنية.
– ترجمت أعمالك لعدة لغات كيف تقيمين استقبال الجمهور الغربي لأعمالك وللأدب العربي بشكل عام؟
من السابق لأوانه الحديث عن “استقبال الجمهور الغربي لأعمالي”، فترجمة روايتين لثلاث لغات أمر لا يكفي للحكم، حتى لو كانت الترجمة الإيطالية لـ”وراء الفردوس” مثلاً قد وزعت قرابة 10 آلاف نسخة.
ردود الأفعال التي تصلني على نصوصي المترجمة، تكون في الغالب، من كُتَّاب ومتخصصين أُعجبوا بها وبحثوا عن وسيلة للاتصال بي لإبلاغي برأيهم، أو كتبوا هذا الرأي ووصلني بالصدفة.
لكن بشكل عام الأدب العربي بدأ يحظى بمساحة أكبر عالمياً، سواءً لجهة كثرة العناوين المترجمة مقارنةً بالماضي، أو زيادة عدد اللغات التي يتم الترجمة إليها، لكن في كثير من الأحيان، تتم الترجمة للأسباب الخطأ، فحتى لو كانت الأعمال المختارة جيدة، فكثيراً ما يكون الاختيار لأسباب غير أدبية، مثل أن يكون الكاتب من بلد يمر بكارثة ما أو بحدث استثنائي كثورة، أو أن يكون موضوع الكتاب مثيراً للقارئ الغربي.
اعتبارات القيمة الأدبية الخالصة موجودة طبعاً، لكنها ليست الغالبة.
– تكتبين على فترات متباعدة نصوصاً جميلة عن بلاد زرتها هل فكرت في كتاب يضم هذه النصوص؟
لم أفكر في هذا من قبل، لكن ربما يحدث هذا مستقبلاً. بغض النظر عن إمكانية جمعها في كتاب من عدمه، أظن أن هذه الرحلات كانت ملهمة جداً إبداعياً، حتى لو لم يظهر هذا الإلهام بشكل مباشر. وأعتقد أني استفدت منها أثناء كتابتي “جبل الزمرد”. فباستثناء شيراز وتورنتو، كل المدن الحقيقية الواردة في الرواية زرتها فعلاً.
– هل من الوارد أن تكتبي عن الثورة الآن.. وكيف تقيمين الأعمال التى تناولتها؟
قد يحدث هذا بعد فترة كافية تتيح لي مسافة وجدانية وزمانية بيني وبين الحدث، مسافة تمكنني من مقاربته بشروطي وبدرجة من التجريبية واللعب، إذ أتحفظ ككاتبة على الكتابة الواقعية المباشرة.
معظم الأعمال الإبداعية عن الثورات العربية وليس الثورة المصرية فقط، كُتِبت بدافع “الرصد والتوثيق” المباشرين، وهذا وإن كان دافعاً حسن النية، إلّا أن حسن النوايا لا يكفي في حالة الإبداع.
الرصد والتوثيق يلائمان أكثر اليوميات والمذكرات أو الأجناس غير التخييلية عموماً، أما الرواية ففن بالغ التطلب، وأهم متطلباتها – من وجهة نظري- التخييل الجامح.