منصورة عز الدين حضور ثقافى بارز

عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فى صيف 1998،وكنا عزمنا العقد على إقامة ندوة عن الروائى والكاتب الأردنى غالب هلسا بمناسبة إعادة إصدار روايته "الخماسين"، وكان غالب قدعاش فى مصر من 1953حتى 1976،عندما جاء إلى القاهرة لاجئا وهاربا من السلطات الأردنية التى حكمت عليه بالإعدام، ثم غادرها مطرودا من السلطات المصرية فى أعقاب الاحتجاج الذى أبداه بعض المثقفين الفلسطينيين والعرب على السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية.

وجهت الدعوة لعدد من الأصدقاء والذين كانوا قريبين من غالب هلسا مثل أحمد بهاء الدين شعبان،وعبد القادر ياسين ويوسف القعيد وفخرى لبيب، وبات فى يقينى أنها ستكون ندوة محدودة لنتذكر فيها صديقنا الراحل،وكان ذلك فى حرّ شهر أغسطس القاسى، وعند انعقاد الندوة فوجئت بحضور آخر ،وكان على رأس الحضور الكاتبة الأردنية نضال حمارنة التى تربطها بغالب صلة قرابة ما،ثم فاجأنى حضور آخر،وقد عرفتنى بنفسها فى ثبات لا يخطئه المرء بأنها منصورة عز الدين ،وهى معدّة فى القناة الثقافية،وكانت فى السنة الأخيرة من كلية الإعلام.

واعتقدت أنها جاءت لسبب صحافى أو تلفزيونى،ولكننى فوجئت بأنها بالفعل تعرف غالب هلسا،وكانت قد قرأت له نصوصا أدبية، رغم أننى كنت أعتقد أن غالب هلسا كاتب سرى ولا يعرفه سوى الخاصين جدا،ويقرأه جترفو القراءة،وبالفعل كان لقائى الأول بمنصورة عز الدين ساّرا ولافتا ولا ينسى.

كونك تقابل شابة فى العشرين من عمرها أو بعدها قليلا،وتعرف كاتبا يكاد يكون مجهولا ومركبا أو معقداوليس سلسا على الإطلاق، فأنت بالتأكيد أمام شخصية مثقفة،خاصة أنها أبدت شوقها لقراءة أعمال غالب هلسا الأخرى مثل روايات “السؤال”و”الروائيون”و”الضحك”، وغيرها من نصوص أخرى.

بعدها صرنا أصدقاء ،ولا أتذكر هل فى هذا اللقاء أو غيره أعطتنى بعض قصص قصيرة،وهذه كانت المفاجأة الثانية،فالقصص تعبر عن روح مشحونة بهواجس شبه غرائبية،روح مفعمة بالأحلام والألوان والأحداث،وتناقشنا بعدها فى عوالم هذه القصص،فكانت المفاجأة الثالثة ،لأننى اكتشفت أن منصورة تكتب منطلقة من وعى فنى ،ينم عن أنها تجرّب الكتابة وهى قد خبرت قراؤات فى مقولات الفن العديدة،وبالتالى فالكتابة لا تشوبها عفوية البدايات،وظلت هذه القصص عندى لسنوات بعيدة حتى استعادتها منصورة منذ سنوات قريبة.

بعد أن التحقت منصورة بصحيفة أخبار الأدب ،بدأت تتردد على ورشة الزيتون أكثر قليلا،وظهرت مساهماتها فى الجريدة بشكل متميز، وكنت أقرأ ماتكتبه فى الصحيفة،ليس كموضوع صحفى،بل كنص إبداعى،وربما كانت هذه هى السمة التى ميّزتها عن كثيرين،إذ أن الإبداع هو الذى ترك تأثيره على الصحافة،وليس العكس،وهذه من ملامح المبدعين الكبار فى مصر والعالم العربى والعالم عموما،مثلها مثل صلاح عبد الصبور الذى لم يسمح بأن تخترق إبداعه شبهة التصحيف،وكذلك عبد الحكيم قاسم الذى كان يكتب فى مجلة القاهرة وجريدة الشعب بعض المقالات،ثم ابراهيم أصلان الذى خلق تزاوجا فنيا فريدا بين النص الإبداعى ،و”النص” الصحفى ،إذا جاز التعبير، هكذا رأيت منصورة فى معية هؤلاء الكتاب الكبار،أضف إليهم من العرب أدونيس وسوسف الخال وأنسى الحاج أساتذة كتابة المقال الصحفى،وأضف إليهم ماركيز وهيمنجواى وغيرهم.

هكذا رأيت منصورة عز الدين بعد خبرة من المعرفة والحوار والمشاركة الثقافية الراقية،فرغم أن جمال الغيطانى كان يدعونى للكتابة فى صحيفة أخبار الأدب دون قيد أو شرط،من ناحية الأفكار أو المساحة، ولا يعطل لى أى كتابة نحتى لو كانت ستسبب له بعضا من الإزعاج لدى الآخرين،وأشهد أننى أعتز بكل ماكتبته فى هذه الصحيفة منذ نشأتها حتى الآن،وتغمرنى السعادة بشكل خاص عندما أطالع مقالاتى فيها، إلا أن دعوة منصورة لكى أشاركها بمقال شهرى فى ملف “بستان الكتب”،أسعدنى أيما سعادة،وأنجزت ما يزيد عن خمسين مقالا، وكنت أعتز بهذا المقال إلى حد بعيد،وكان الناشرون يهاتفوننى لجمع هذه المقالات لضمها فى كتاب،وهذا كله يعود فضله لمنصورة التى اكتشفت مساحة ما عندى وعند آخرين لإبراز كتابات خاصة،وهذا ماجعل هذا الملف الشهرى متميزه،ينتظره القاصى والدانى،ويثنى عليه كل الذين تابعوه،حتى خصوم الجريدة أنفسهم،وحاول آخرون أن يقلدوا هذا الملف ،لكن يبقى الأصل أجمل وأشمل.

ومازلت أعتبر أن صدور أى عمل لمنصورة عز الدين ،هو حدث ثقافى وإبداعى،وهذا القول يؤكده التنوع والتباين الذى تحفل به كتاباتها القصصية والروائية،وما تشير إليه الدراسات والمقالات التى تتابع صدور أى عمل تصدره منصورة عز الدين.

كذلك أسعدنى الحظ أن نكون معا فى رحلة ثقافية إلى العاصمة الجزائرية،وفى الطائرة حرصت منصورة أن تقرأ رواية “الخيول” لرشيد بوجدرة،والذى يعرف منصورة سيدرك أنها مثابرة،رغم القلق الشديد الذى ينتابها،فقبيل وصولنا،وقبل هبوط الطائرة فى مطار هوارى بومدين كانت منصورة قد أنهت قراءة الرواية،ودوّنت ملاحظاتها حولها،وهناك تعرفنا على عدد من الكتاب والمثقفين،الذين احتفوا بها بدرجة كبيرة،وكانت تجلس على المنصة فتثير زخما ثقافيا وأسئلة كثيرة ،ويظل هذا الزخم مهيمنا على الندوة ،رغم أننا كنا نعلم بموضوع الندوة فى المساء الذى يسبقها مباشرة،ولكنها كانت تسهر من أجل التحضير للندوة،حتى جاءت كل مشاركاتها على المستوى الذى يليق بكاتبة تحترم الثقافة والإبداع،وقبل كل ذلك تحترم نفسها بقدر كبير وعال،وهذا هو ما أهلّها لتكون كاتبة مرموقة ،ولا تكتب إلا نفسها ،وتعمل على تطوير ماتكتبه بشكل دائم،للدرجة التى أتخيل أن منصورة تلاحق حروفها بالتبديل والتغيير والقلق حتى تذهب إلى المطبعة، وربما يكون ذهاب نصها إلى المطبعة،هو الحلّ الوحيد الذى يفلت بعده النص إلى منصورة عز الدين التى أفخر بكوننا أصدقاء.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم