منذر مصري.. شاعر البساطة النادرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مازن حلمي*

 “منذر مصري” واحد من أهم الأصوات الشعرية السورية والعربية، ابن محافظة اللاذقية المُخْلِص، لم يغادرها أبدًا، مدينة ذاكرته وتاريخه الشخصي والشعرى، تنهض عليها أركان بنيته الفنية، لذا لا يمكن حذفها، أو التعامل معها كجدران وأزقة وساحات في تجربته الإبداعية، بل ككائن حي. هو فنان تشكيلي متميز أيضًا، أقام معارض محلية ودولية للوحاته. يعتبر الرسم والشعر جناحيه اللذين يتشكّل منهما عالمه الإبداعي. قليلًا ما يُتاح  للمبدع  الجمع بين الموهبتين معًا. عربيًا كان  “جبران خليل جبران”، و”بابلو بيكاسو” عالميًا، لكن شئنا أم أبينا ستظلّ شعلة منهما أكثر توهجًا وإنارة من الأخرى. في حالة “مصري”  سبق الشعر الرسم بخطوات.

مؤخرًا صدرت الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر “منذر مصري” عن دار “أثر” بالمملكة العربية السعودية 2023م، تقع في ثلاثة أجزاء، تضم اثنتي عشرة مجموعة شعرية، مقتصرة على الشعر فقط دون أعماله النثرية الأخرى التي تتضمن مقالات نقدية وفكرية ومسرحية.

في السبعينات جاء ” مصري”، ليعلن ثورته البيضاء، يكتب قصيدة بسيطة من الكلام العادي لا من بطون المعاجم، لا يجد غضاضة في تضمين قصيدته بمفردات عامية؛ لكسر هيبة اللغة الشعرية. أمسك الشعر من ذراعه، وأخذه في نزهة، وأنزل القصيدة من أبراجها العالية إلى أوحال العتبة. تلقى قصيدته قبول القرّاء، وحفاوة النقاد. لا يمكن تصنيفها ضمن مدرسة أو تيّار شعرى بعينه، هي حالة شديدة الخصوصية، بنت مزاج وإحساس فنان مغاير، ولحظة تاريخية عابرة.

أنه يبحث عن الشعرى في الحيز الشخصي ، والذاتي للإنسان مديرًا ظهره للشعارات السياسية. لسان حاله يقول: لتذهب القضايا الكبرى إلى الجحيم، ما فائدة الحرية إذا كان المرء تعيسًا؟!

قصيدة المشاعر

قصيدة “منذر” تُبنى من الإحساس الداخلي، ما يعتمل بالنفس من مشاعر. لا ترجو تزويق أو زخرفة برَّانية، تدوس على البلاغة المعهودة، والصنع اللفظي، تودّع الاستعارات الغريبة، والدهشة العَرضية، والأبواب الحائلة لوصول المعنى للقارئ. أحد أسلحة قصيدته البساطة الظاهرية، والسهولة الخادعة التي توحى أن بإمكان أي شخص كتابتها، لكنها مثل كل فن عظيم؛ ظاهره بسيط، وكامنه عميق.

يقول في مقطع من قصيدة “رحلات شقائق النعمان”:

بعد قليل

سيخرج البدر وسيخسر كل منا فرصته أن يبقى

وحيدًا

وحاجته أن يندم.

/

بعد قليل سيخرج البدر

وسيخسر كل منا أكثر ما بحوزته

 من النجوم.

/

لكننا حينذاك

سنستطيع أن نرى شفاهنا

وهى تهمس

وأعيننا حين تلتقى

وكيف تزحف لتتلامس

نهايات أصابعنا الغامضة.

يرسم مشهدًا وصورة كلية عن لحظة خروج البدر، لكنّ الشاعر يعارض المخيّلة الشعبيّة،  فظهور القمر سيتبعه الشعور بالوحدة، وخسران الذات حضورها الخاص. وليس مناجاة الحبيب أو جلب طيفه وذكراها، فيما بعد  تفجّر المفارقة أهمية وجود البدر بتحول الحب الأفلاطوني  للّذة حسية. ما ينشده الشاعر وصف لحظة ولقاء الأيدي، لحظة تعادل  عنده حضور الوجود كله.

الفكاهة والسخرية

يؤمن  أن الشعر مكانه بين الناس، ليس للصفوة أو الغاوين، لذلك ثمة حسّ كوميدي يغلّف قصيدته، يُخرجها من طور الشكوى والشجن الأثير لدى الشعرية العربية إلى فضاء أكثر بهجة وانتشاء؛ ليغيّر مفهوم الشعر، وأغراضه التاريخية. تحضر الفكاهة مشتقة من تجاربه الشخصية، ووقائع يومياته إلى فضاء النص؛ ليرفعها إلى سماء الفن الرفيع؛ إذ باستطاعة الشعر أن يكون رئة للتنفس، ومقعدًا في طريق الحياة الطويل. يقول في قصيدة “في بيروت سبح كالإنكليز”:

 في بيروت سبح كالإنكليز

ولم يخجل

يقرص الفتاة من ظهرها

ويغطس

فتراه وتصيح:

“سرطعون سرطعون”

/

عمل ساقيًا فترة غير محددة

الأمريكية

وضعت يدها على …

ولم تطلب سوى كوكاكولا

والفرنسية القصيرة

فتحت له الباب

وهى عارية!

أنه ينقل الشعر إلى فضاء مختلف كليًا عن الذائقة المعتادة، مُشبّعًا بالبراءة والطرافة الآتية من صميم التجربة ، ممّا يعطى القصيدة مذاقًا شخصيًا، وبصمة ذاتية فريدة. يراهن على خصوصية تجاربه البسيطة، وبهجة الجمال الذى لا يلبس دومًا ثوب الحداد؛ بل يكمن في الأشياء العابرة، والأحداث اليومية السخيفة التي تتحول على يد الفنان إلى جمال خالص، على حين يتعالى الشعراء عليها بوصفها ابتذالًا، وموضوعات غير شعرية. مثلما يتخذ من السخرية أداة كاشفة للمفارقات اليومية، وإظهار جوانب متناقضة لدى الذات والآخرين، فهي ليست سخرية مريرة، وحزينة إنما تبعث على الفرح والضحك المكتوم، على هذا  النحو في قصيدة “روح دسمة”:                                                  

بمعدة مطبقة قصدت إليك

وبجوع دخلت بيتك.

/

وقد أولمت لي

على مائدة عامرة بأطباق الخواء

بدل الحساء البارد واللحوم المعلبة

وجبة سخية

من روحك الدسمة..

التأريخ الشخصي

تنحو ذات الشاعر لتسجيل اليوميّات جاعلة من تفاصيل الحياة اليومية مادة تنسج منها عالمها الشعرى . فأفراد أسرته يغدون أبطال قصائده، ثمة قصائد كاملة عن الجدة، وأخته “مرام”، والأخ المسافر. تتبدى علاقاته معهم، ويصف جوانب من شخصياتهم، متفهمًا برحابة تناقضاتها، وضعفها. إن قارئ ديوانه كأنه يتصفح البوم عائلي، أو صفحات من سيرة ذاتية شيقة.

ليس أكثر من عنوان ديوانه الأشهر (بشر وتواريخ وأمكنة) عام 1979م علامة على ذلك. تتجلى شعرية  “منذر” أكثر في المناطق الحميمة، والعلاقات الدافئة عبر سرد محكم، وحكائي مفعم بتفاصيل شخصيّة تقطر عذوبة وصفاء. يقول في قصيدة “جوّاب” واصفًا أخاه المسافر:

لك في كل مدينة

شوارع ومقاه

وفى كل سماء

نجوم وأقمار

ولك أن تباهى

وسعك بيتك

حين قطنت الكون

وإنك حين خسرت كل ما لديك

ربحت

روح كل شيء..

تأريخ جماعي

هو يذهب بالشعر من الشّخصنة المفرطة أحيانًا إلى رحابة الآخر عبر أرشفة الذاكرة الجماعية. ليس بإهداء، أو رثاء صديق في قصيدة واحدة مثلما يفعل بقيّة الشعراء، بل صياغة ديوان كامل. أنه يؤسس شعريّة أخويّة إنسانيّة. قد تبدو ذهنيّة وعمدية، لكنها لا تفقد حسّها الجمالي، وقدرتها على إثارة الدهشة، والعبور إلى أفاق جديدة للشعر مستفيدة من علاقاته الاجتماعية، وروحه الإنسانية العالية. هذا المقترح محاولة لقراءة الآخر شعريًا، والخروج من نفق الذاتي إلى المشترك الجماعي بالكتابة عن ملمح شخصي، أو موقف، أو رأى يخصّه عن الاصدقاء. إنه يأخذ تلك العلاقات البشرية الفانية لمتحف الإبداع الخالد. يقول في قصيدة “بدل العصفور سكين”:

قبل أن ألقاك

شاهدت طفلًا يحمل قفصًا

وفى داخل القفص

بدل العصفور

سكين

/

كتب عنك (عادل محمود) قصيدة

لا أذكر منها

سوى أن وجهك في الزنزانة

صار خاليًا من حَبّ الشباب.

/

سجانو الوادعة

إذا أعادوا لك الشوارع

من الذى يُعيد لك

المواعيد؟.

من ثلاثة مقاطع قصيرة فجّر حالة شعرية تتشح بالألم والعذاب النفسي، في المقطع الأول رسم مشهدًا تمهيديًا استعاريًا عن قتل البراءة وغياب الحرية، يستبق به الكلام عن الصديق المعتقل، يتبعه بجملة تقريرية تصف حال الصديق في الزنزانة، وينهى النص بسؤال عبثي، يبيّن مأساة المقهورين، وطبيعة العلاقات في الأنظمة المستبدة بين الفرد والسلطة بخطاب موارب رهيف.

البناء الدائري

غالبًا ما يقتنص جملة تمثل مفتاح القصيدة وتعبّر عن الفكرة، على حين تمثل بقيّة المقاطع تنويعات لذات الرؤية، أو يبدل المقطع الأخير بجملة مغايرة تصنع مفارقة وقفلة للقصيدة. ربما لأن الشاعر وصل لمرحلة يقين راسخة بثبات العالم، وعبثية الوجود، فاضطر أن يجلس بمقعد المتفرج اليائس لا سلاح بيده، ولا خلاص سوى الكتابة. في قصيدة “أتظن أنى أخاف الموت”:

أتطن أنى أخاف الموت

انظر

إنه يرتع في حديقتي

يقضم ورودي

ويلعق دم أشجاري

/

أتظنني أخاف الموت

الواقف على شفرة سطوري

في ضجيج حروقي

في سكون نقاطي.

/

انظر

ألا تراه يكمن لي

في البياض الذى

يحيط بكلماتي..

التشكيل البصرى

يعدّ التشكيل ملمحّا شديد البروز في قصيدة ” مصري”، يأتي من خبرته الطويلة بالرسم والألوان، والفضاءات المرئية. إنه يرسم بالكلمات مشاهد حياتية، ولوحات بصرية تنتفى فيها الصور البلاغية الجزئية لصالح المشاهد والتكوينات السينمائية. تقوم القصيدة بالأساس على المشهد، تقرأ بالعين أولًا متخذة نمطًا حداثيًا معبرًا عن عصر يموج  بالإشارات والصور اللانهائية. من مميزات هذا الملمح: الدقة العالية في الوصف. تكوين ذاكرة بصرية حية. انفتاح الشعرى على التشكيلي والسينمائي ممّا يحدث حالة من ذوبان الفنون وتجاورها. نستشعر ذلك في قصيدة “كتاب يتدلى نصفه”:

التحف الرخيصة

مازالت على الرف

الغبار نائم

الكنبات الثلاث تجلس صامتة

المرآة على الحائط تنظر

/

قلم وأوراق

وكتاب يتدلى نصفه

من حافة الطاولة

/

كل شيء في مكانه

لا شيء تبدل

كتفاصيل صورة شاحبة التقطت منذ زمن

لكن قلقًا تجمعت الأدلة ضده

يمشى فوق بلاط الغرفة

ذهابًا وإيابًا

حافي القدمين..

معارضات بصرية  

يسيطر على الشاعر هاجس التجريب والسير بالشعر في مسارات غير مطروقة، فمن لبنة الديوان الثاني  تشعبت الثيمات، و المقترحات، والمشاغل الشعرية. في سابقة جديدة يحيى “منذر” فن المعارضات على منوال الشاعر العربى القديم بأسلوب مبتكر، فيكتب قصيدة مشتركة، أو مقطع لشعراء من معاصريه أو الشباب في ديوانه (منذر مصري وشركاه) 2011م. رغم أهمية المقترح إلا أنه يقع في فخ الذهنية والتذاكي؛ لأن أسبقية الموضوع تتطلب الصنعة وتنفى عمل المخيّلة، وعنصر المفاجأة.

أما المعارضات البصرية إذا جاز التعبير عن طريق كتابة اللوحات التشكيلية بالشعر، في ديوان (تجارب ناقصة) 2019م تدعو لتوطيد العلاقة بين فنين قائمين على وسيلتن مختلفتين: اللون والكلمات، واستخلاص جمال البصرى عبر التشكيل بالحروف، وإقامة علاقات تزاوج وتلاقح بينهما. الإفادة من طرائق وثقافة التشكيلي أفرز للشعرية العربية قصائد مرئية. متحركة منفتحة على عالم الرسم المكتنز بالرؤى الصامتة وهي تضج بالتدفق والحيوية في آن واحد. في قصيدة “ثلاثة أرباع وجه بأذن مضمدة” يتماس مع اللوحة الشهيرة للفنان “فينست فان جوخ”:

 ليلة مكتظة بالنجوم

ووجوه مقرّبة لأخوتك

أزهار عباد الشمس

وأشجار زيتون بخضرتها الرمادية

وأخيرًا

ثلاثة أرباع وجه

بأذن مضمّدة

وحقل سنابل ذهبي

يحوّم فوقه

بارتفاع منخفض

سِرب من الغربان..

هذه بعض الإضاءات والملامح الفارقة في شعرية “منذر”، فالتجربة من التنوع والثراء إذ تستدعى إعادة القراءة، والفعل النقدي، وعمل مقاربات مُوسّعة؛ لاستخراج الجوهري والهامشي في محترف إبداعي عمره نصف قرن.

…………………………

*شاعر وناقد مصرى

مقالات من نفس القسم