منتصر عامل نظافة في محطة مترو أنور السادات ( التحرير)، يعيش في إحدى العشوائيات مع زوجته حفيظة . منتصر الذي رأى تمهيدات الثورة قبلها بأعوام من خلال الاحتجاجات العديدة التي شهدتها الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق مبارك . تنتابه الشكوك حول مدى قدرة الشباب على أحداث التغيير . لكنه سرعان ما يثق فيهم و يتمنى لو يشاركهم ، و يتغلب على خوفه من الرصاص الطائش الذي يحصد العيون و القلوب ، فينكمش على ذاته داخل السلالم المؤدية للمترو، في إشارة لتخلي الجيل الذي يمثله منتصر عن دوره في أحداث التغيير .
لا ترصد الرواية زمن ثورة يناير فقط إنما ترجع للوراء إلى فترة بدايات حكم الرئيس جمال عبد الناصر و العدوان الثلاثي و هزيمة يونيو، لكن أهم مايُطالعهالقارئ فيها هو الحكايات المتناثرة عن والد منتصر الذي ظل يحلم بالولد فرزقه الله بمنتصر، الذي سماه تيمنا ً بزمن ملئ بالانتصارات له و لكل الغلابة ، لكنه يُباغت بالحقيقة أنه لم و لن ينتصر لأي شيء . الأب الحكاء المهووس بتدخين الجوزة، يحكي لولده عن زمن يعم فيه الخير، زمن هلت بشاراته بمولده ، لذا أسماه منتصر ، تبدو الأجزاء المعنية بوالد منتصر و حكاياته التي لا تنضبالأكثر دفئا ً و إنسانية و التي برع الكاتب في وصفها و الغوص فيها .
بداية الرواية مشوقة ، تجذب القارئ لمعرفة المزيد عن التحقيق الذي يجري ولا يظهر منه سوى إجابات منتصر ، مما يجعل القارئ يشحذ الذهن في استكشاف السؤال .
إضافة عناوين الصحف الصادرة في الثورة أو وقت الستينات ، أضافت للرواية جانبا ً توثيقيا ً ، مما يؤكد فكرة أن الكاتب أراد بروايته أن يسجل أحداث الثورة خشية تعرضها للاندثار أو التبدل مع مرور الزمن . و يذكرنا ذلك برواية ذات للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم و إن كان صنع الله قدمها بشكل أكبر . على الجانب الأخر جاء المقطع الخاص بتقرير الأمم المتحدة الإنمائي عن مصر وظاهرة التعذيب ثقيلا على النص ، صحيح أنه أضاء المشهد التالي الخاص بالتحقيق مع منتصر، لكنه أفقد القارئ مفاجأة الاكتشاف ، كقارئ أدركت المشهد التالي فور أن قرأت التقرير و قبل أن أقلب الصفحة .
بعين مُلتقطِة للتفاصيل يلتقط الكاتب حياة قطاع كبير من المصريين بعد الثورة ، فنجد جزء يريد أن يستكمل باقي مطالب الثورة مُمثلا ً في شيخ الجامع السلفي الذي يدعو الناس للنزول للميدان ، وقطاع أخر يرفض النزول و غير مقتنع أصلا بفكرة الثورة و نجد هذا الجزء في أغلب رفقاء منتصر المُنتظرين لمقاول يأتي و يلتقط من يصلح منهم للعمل .
يبدو الكاتب مُتحسرا ً على زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر و يتضح ذلك من خُطب الراحل المُتناثرة داخل السرد . يعقد الكاتب مقارنة بين جنازتي الرئيسين ناصر و السادات ، عبد الناصر الذي أتى منتصر خصيصا ً للقاهرة من أجل حضور جنازته . السادات الذيكانت وقتها لقمة العيش و البحث عنها أهم من حضور جنازته . ” عند اغتيال السادات لم يبك ولم يبال .. ربما فرق النضج ، ولكنه كان أكثر مشغولية في البحث عن لقمة العيش التي تأتي بطلوع الروح .. “
تستمر الرواية في قنص عيوب المجتمع التي لم تندثر مع الزمن ، وفي رصد المسكوت عنه في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين ، فنجد منتصر ينتفض أثر سماعه اسم صديقه مينا لاكتشافه أنه مسيحي ويود لو كان مسلما ً مثله . و أيضا ً حينما يناوله مينا ساندوتش فول ، ينظر له بريبة ، لكن شهوة الجوع تتغلب على حذره فيأكل الساندوتش بنهم . ” كنت هتقول ايهدلوقتي يابا لو عرفت إني هتعلم على إيد نصراني ؟ بس والله باين عليه طيب وابن حلال .. مايعيبوش بس غير دقة الصليب دي .. يلا أمر الله .. ربنا يهدي .. ما هو برضه ذنبه ايه ؟ ما هو اتولد لقى نفسه كدة .. ” .
و على الجانب الآخر نجد منتصر يطيل من لحيته و يحاول باستمرار أن يستجلب زبيبة الصلاة على جبهته ، للمنظرة و ليس أكثر ، و بذلك بهيئته الدينية يعوض ما ينقص عنده من مال أو ترقي في المراكز أو التعليم . لذا يقف في الصفوف الأولى أو يكون هو الإمام ليسبق الأطباء و المهندسين ، ويحقق حلم والده بأن بكون من علية القوم ، لكن هذا الحلم يُحققه لوقت معلوم و في مكان محدد وقت الصلاة و على سجادة الصلاة ، وفورأدائهالفريضةيرجع لمكانه الطبيعي .
حَلم منتصر أن يُرزق بولد ، وتمر السنوات ولا يمن الله عليه به ، ولا يتبقى له سوى صورة الطفل الصغير داخل البرواز المُعلق في المحطة ، يتأمله بحب و يتمنى لو يرزق بمثله ، الإشارة هنا واضحة ، فالأب أيضا ً رزق بالولد منتصر أثناء رئاسة ناصر في رمزية للعهد الجديد المرجو منه الخير . و بالتالي تتكرر الرمزية ولكن في عصر مُغاير أثناء ثورة يناير ، منتصر يتمنى أن يرزق بطفل في أشارة لجيل تالي يتولي المسئولية ، لكنه لا يُرزق به في إشارة إلى استمرار جدب الزمن و تعنته في الجود بمن يرث الخير .
أيضا ً حلم منتصر في استكمال تعليمه الذي هرب منه في صغره ، نجده يسعى لاستكمال حلمه بتعلم القراءة و الكتابة ، تلك المرة على يد مينا الذي بُوغت بالموت ، يسعى لبداية جديدة بمعونة الشباب ، لكن الشباب يموت ولا يبقى سوى الكهول .
يرتبط منتصر بمينا ، وتتولد لديه مشاعر أبوة ، لا يعبر عنها الكاتب صراحة إنما يستنبطها القارئ من خلال علاقة الصداقة بينهما . كأن منتصر يستكمل شعور الأبوة المنقوص عنده بمعرفته بمينا .
المشكلة الوحيدة في الرواية فيما أرى هي استخدام اللهجة العامية ، أتفهم تماما ً أن الحوار يجب أن يكون على نفس مستوى إدراك الشخصيات ، لكن هنا السرد أيضا ً بالعامية ، بالتأكيد سهل التلقي وجعل القراءة أسهل، لكن لو كان السرد بالفصحىكانسيضيف أكثر للنص.
منتصر الرواية الرابعة للروائي محمد زهران ، قدم فيها حالة يغوص القارئ فيها مُستمتعا ً بتفاصيلها ، ويسترجع فيها أزمانًا ولت نتمنى عودتها و استكشاف بواعث توهجها الدائم