هذا التناوش مابين الشاعرة ولغتها يسحبها الى مساحات اخرى من التمرد والنزق في البوح، او ربما الى اصطناع صور مكثفة تضيق فيها الاستعارة، وتتسع فيها التفاصيل المفتوحة للكثير من السرد الشعري، السرد الذي يجسّ عبر تراكب اصواته(صوت الانثى المتعدد) ماهو خبيء في الذات الانثوية المعزولة المنشطرة والباحثة عن اشباعات شائهة، تدفعها نحو تقصّي ماهو جامح وساخن في الذات.
الشاعرة تحتفي بالعالم من خلال احتفائها بالجسد، الاحتفاء غير المهادن، المشغول بالعزلة والتنكر والمزيد من التشهي المباح، والمزيد من التفاصيل التي تكشف عن قدرة الشاعرة في ان تضع نصها بمثابة الاعتراف الفاضح ازاء مايحوطها من ظلال عالية للعزلة، وصور تحتشد بكل مايدفعها للافراط بارتكاب لعبة القبض على الجسد لغويا.
هذه اللعبة تدفعها ايضا الى الايهام بملاحقة المعنى عبر الاستطراد الوصفي الحسي، وعبر كتابة مايمكن ان تستعيد به اللذة الغائبة، لذة الاشباع المجهض المسحوب من حيز هذا المعنى الى حيز الرؤيا المكشوف على لعبة التأمل وافراط الوصف ..
في مجموعتها الشعرية الجديدة(بالنقطة الحمراء تحت عينه اليسرى)الصادرة عن دار الغاوون/بيروت/2010 تبدو هذه الكتابة وكأنها رغبة عارمة لاستبطان التوغل العميق في الجسد، الجسد الذي يرى بنقطته الحمراء، الجسد الذي يتسع للاحتواء والاعتراف والتجاوز، مثلما يستع للطرد والخطيئة، اذ تلتقط منال الشيخ عبر شفرته الضيقة المشغولة(مايبدو تحت عينه اليسرى) كل مايجول في عوالمها من صخب حسي، تفتح له مساحات بوح شاسعة، تقف عنده مبلولة ومدفوعة للمزيد من الاعتراف، مأخوذة بما يتلاحق امامها من اندفاعات شرهة للتخيل عبر مايتبدى فيه من الاستعادة، والتشهي عبر مايدفعها لانتهاك كينونته.
هذا التلاحق الاستعادي، استعادة الجسد عبر الصورة اللغوية، تتبعه استعادات ثانوية، تلك التي تبدو وكأنها لعبة الشاعرة بامتياز، اذ تلامس فيها هواجسها، مسكوتها العميق.
بوجههِ المُثلّثي الصغير
بخطوطِ جبينهِ الأربعة المُتعرّجةِ
كأنها أمواج بحرٍ هاربٍ من تعاليمِ أب
بالنقطةِ الحمراء تحت عينهِ اليُسرى
بالشفاهِ التي بلّلها السكوت
نقرأ قصائد منال الشيخ فنتعرف على احتداماتها العميقة،ونتوه مع طراوة لغتها المسكونة بالتشهي والتفجع الى لحظات حميمة سخية في تدفقها. ففي قصائدها الاولى تبدو وكأنها تكتب لذتها الغائبة، اللذة الفتشية التي تنحلّ في شفرات غائمة(الجنرال، وجهه المثلثي الصغير، كابتن بلاك) والتي تؤشر بالمقابل عزلتها، عزلة الذات في المنفى والجسد والتسمية. والتي لاتتنكر لها الشاعرة، فهي تستيعيدها في اكثر من قصيدة، تتخفف بها احيانا من التوتر المفتون بالتذكرورثاء الاشياء المألوفة لكنها المفارقة في آن..
ومن الحُزن ما يكفي لأكونَ قُبلةً فارّة في الزحام
لديّ من الجوع ما يكفي لأُعلنَ حالة الإفلاس العضوي
وأعلِّقَ على بابِ خيمتي لافتةً مكتوبٌ عليها:
“هنا الأعضاءُ غير مناسبة للتناول البشري”
لديّ من الأمواج ما يكفي لإغراق سفنكَ الخارقةِ لقوانينِ الحياء
ومن الدماء ما يكفي لأحيضَ عوضاً عن نساءِ القريةِ لمئة سنةٍ قادمة
ومن العُزلة ما يكفي لأن أذُمَّ دائماً تلكَ الطَّرَقات على بابِ الجيران
والقصائد الاولى تنشغل ايضا بتوظيفها البنية الاسطورية في النص المقدس في الكتاب والحديث والرواية(في البدء كان الجنرال)و(في اليوم السابع عندما وضع القلم جانبا واستوى على العرش)و(رواه عابر)مثلما تنشغل بتوظيف المثيولوجيا الشعبية للايحاء الجنسي في الموروث العراقي(تقتل يهودي كل ليلة)وهذه ال وظائفية اسبغت على القصائد نوعا من الطراوة التي تجعل القصائد وكأنها احتفال سري بالجسد، ملامسة خفاياه، اسراره، خطيئاته في الغواية وفي الخروج عن حرائق المكان الى سحر اللغة ومخيالها العصي..
والقصائد الاخرى في المجموعة بدءا من قصيدتها الطويلة(على منصة جسدك المحموم) وانتهاء بقصائدها القصار لاتكتفي بالترجيع وتلمس جيشان مشاعرها ازاء عالم يصيبها بالذهول والنفي والفقدان، بل تندفع باتجاه مايجعلها اكثر شهوة في التأمل، وبما يمنح قصائدها الكثير من الانفعال والاحتجاج والتمرد دونما اية دعة، لان هذه الكتابة تختزن الكثير من مشاعر التوتر والسخط، وتتوق الى رغبة في القبض على الزمن، مثلما هي الرغبة في اباحة الجسد الحسي والجسد اللغوي الى لحاظاته الفارقة، واستعاراته الباذخة..
منال الشيخ تستدعينا في قصائدها الى نوبات عاتية من القراءة، والتماهي مع لذة هاربة لكنها تحوس تحت جلودنا الناتئة بالفضائح والهتافات..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر وناقد عراقي
خاص الكتابة