شعيب حليفي
نظر يمينا وشمالا متفقدا انتظارنا، ثم تحوّل مُحدّقا بإمعان في أعلى كتفي الأيمن قبل أن ينتقل إلى كتفي الأيسر مبتسما وهو يهز رأسه إيجابا دون أن ينظر في عيني، فخمّنتُ أن الشيخ البرغوث يريد التمهيد لعمله بحركات غامضة وتحفيزية وهو الذي جرّبَ القدرُ في حياته القصيرة كلَّ الصدمات بضربة رُباعية ديْدنها المصير كله.. أما فحمة الليل فهي مجرد غطاء يخفي ما اقترفه النهار.
انتظرتُ أن ينظر في عينيّ، لكنه قام وتبعته خيرة الگناوية التي ما زالت بجلبابها ولثامها وقد أنزلته أسفل شفتيها… فجلسا أرضا على مخدتين صوفيتين أمامنا بنحو أربعة أمتار. رفع رأسه للأعلى، وكانت إلى جانبه أربع آلات، مدّ الگناوية بالتعريجة والبندير، وأبقى له الگنبري والكمنجة.
شرع ينقر على الأوتار الثلاثة للگنبري وهو ينظر دائما للأعلى، وفي لحظة يُصعِّد من إيقاع النقرات ويرفع صوته عاليا وهو يُغني أغنية ينشدها لنفسه، يحبُّ أن يفتتح بها، في كل سهراته، بابا يَصعدُ منه عاليا مستغفرا تائبا، قبل أن يعود إلى أرض السافلين وكلامهم كما يقول لأصدقائه: “نبدا بك يا ربي يا سيدي يا العالي.. يامُولْ الرْجَا والرحمة وأنتَ اللّي في بالي ..أنتَ يا العالم بي نشكي لك حالي..كريم يا الخالقني جُدْ وفاجيْ عليّا…” ويستمر مناشدا الله بأجمل الأسماء والصفات وأنه مظلوم ضاقت به وكثُرت أحزانه..وقد تعب من مناداة الزمان لكي يستجيب له، فقلبه عامر وعقله تالف يسير بلا ضوء…
مناجاة حزينة رافقتها خيرة الگناوية، من مكانها، صامتة خلفه بعينين مُغمضتين، تتلمس بحواسها الإيقاع بضربات على البندير، متباعدة أحيانا ومتقاربة أحيانا أخرى. وكانت سوسو مستغرقة في الإنصات بعينين مغمضتين، بدورها، وهي تُحاكي خيرة، ولعلَّ نفسها هفت لو كان لها لسان بشري لردّدت خلفهما، وهي التي فاضت حياتها بالتمنيات، لكنها تعي أنّ لغة فصيلتها من حرفين فقط، “عو”، وبإبدال وحيد لحرف العين هاءً، وتنغيم يعتمد التكرار والدرجة.
– حياتنا بسيطة وقصيرة، وكذلك المعاني التي نتداولها بصدق. حرفان فقط من لغة وحيدة يكفيان للتعبير عن كل حاجياتنا. قالت سوسو.
– أتتهمين كلامنا الكثير في كل اللغات بالثرثرة غير الصادقة.. يا سوسو !؟
– أنتم تحبّون التمدّد والتشعُب ! كلامكم أكثره متشابه ومنفصم وزائد ويحتمل المعنى ونقائضه، وستحتاجون إلى المزيد لحفر الأنفاق. قالت سوسو التي فتحت عينيها وعيني.
– التمدّد وحفر الأنفاق يا ويلتي ..وأنتِ يا سوسو من يقول هذا الكلام !! ربما نحتاج إلى لغة وحيدة وحرفين فقط لتدبير حياتنا بلا لغط كثير.
فتحت الگناوية عينيها بعدما التقطت أذناها الصغيرتان والمثقلتان بدوائر نحاسية كبيرة، حواري مع سوسو، فتبسمت وغمزت برمشة سريعة من عينها اليمنى لسوسو، ولا أعرف لماذا غَمرَتني سحابة صمت حينما أغفلتِ الغمزَ لي.
نظرتُ إليها بعينين كُحلهما الحزن الطارئ وفحمة الليل، ولأول مرة نظرتْ الگناوية في عيني فارتبكتُ، أو الأصح أني استعذبته ليكون المشهد صادقا ولا تلومني سوسو بعد ذلك، وهي التي تعشق القصص الرومانسية المباشرة، كما أن الارتباك كان قريبا مني يتراقص مع اليعاسيب المجنحة الصغيرة التي تختفي نهارا وتستفيق بالليل، تشاركنا سهرتنا وهي حول ضوء المصباح تطوف.
لم ترمش ولم تَحِدْ نظرتها عني وهي تُغيّر من الإيقاع برفع البندير عاليا، فلم ينتبه الشيخ البرغوث الذي استمر في نقراته السابقة ورأسه المتدلي. انتبهَتْ ثم لامسته بمرفقها فرفع رأسه وعاد إلى السطر الذي رفعت إيقاعه وبدأت تُغني وقد تحوّل صوتها عمّا كان من قبل وهي تغنّي بنفس النظرات: يا اللّي علميني نسهر، علمني كيفاش نّام، لا تهجر ولا تغذر ، لا تخليني للأيام.
تمدّدَ كلامها بتعبيرات قوية وساخنة في اللوم وهي تُخاطب حبيبها.. وتقول له إذا كنتَ قد استطعتَ أن تُعلمني السهر فلا تبخل عليّ بتعليمي كيف أنام. وأناشدك ألا تهجرني ولا تغدر بي ولا تتركني للزمن، فحبُّك انغرس في قلبي وبات هواك يسقي عظامي.
وضع الشيخ البرغوث الگنبري جانبا، والتفتَ يتفرج، مثل الجميع، وهي جالسة تُعيد نفس الأغنية على ضربات البندير بتنويع في التنغيم والإيقاع، ولم تترك الگناوية فرصة للوجود الصغير المحيط بنا، فعاد الصرّار طيّاب العنب إلى نشيده الوحيد، وواصلت اليعاسيب الصغيرة والمتوسطة بأجنحتها الشفافة الطواف حول النور الأبيض الخافت، أما سوسو فلم تقطع استغراقها إلا ريح أسرعت ثم أبطأت فتحركت أغصان التوت والزيتون والتين والرّمان، وتعالت رائحة الخزامى ومسك الليل بطيئة، وفي تلك اللحظة علا نباح الگرطيط، فاقد الذيل، وهو يدنو.
عاد الشيخ البرغوث رافعا رأسه ينظر إلى السقف متوهما أنه سيخترقه بنظراته ليرى حياته في أربع صفحات كُتبت بمداد شديد السواد.
الضربة الأولى ليست هي الأخيرة دائما
في التاسعة عشرة من عمره، كان “البشير”، والذي سيصبح اسمه لاحقا الشيخ البرغوث، راعيا لدى الحاج الشرقي، وتعوَّدَ التوجّه كل مساء إلى المدينة مشيًا على قدميه، متجولا ومتفرجا على الناس والحياة ثم العودة مع هبوط الظلام، وصادف أنه يعبُرُ، يوميا، حيّا شعبيا أبصر فيه فتاة رائقة في سنه أو أصغر، فلم يستشر أحدا، وتوجّه إلى خِطبتها ففرحوا به وعجّلوا، بعد ثلاثة أسابيع فقط، كتابة العقد ثم تلته الدُّخلة في نفس الليلة، وكان شرطهم الوحيد، في كل لقاء قبل الليلة الغامضة، أن يسكن مع زوجته في غرفتها بالسطح، فاعتبر ذلك نعمة من السماء ليس على أحد العلم بها خوف الحسد. كتبَ العدلان العقد، ثم أخذه أخو العروس إلى الخلاء على دراجة نارية، وجعله يسكر سُكرا بيِّنا ليعود به بعد منتصف الليل وهو سعيد بلحظة الدخلة التي أوصاه أخوها أن يستعد لها استعداد المحارب الشجاع. ولما دخل الغرفة الفوقانية، صرخ صرخة ما زال صداها يتردد مثل الوباء في دروب المكر الكثيرة. لم يجد زوجته التي تمناها وحَلُم بها، وإنما تزوّج أختها من ذوات الاحتياجات الخاصة والكثيرة، والتي لم يرها أحد ولن يراها.
همَّ بالاحتجاج فكانوا له بالمرصاد وأشبعوه ضربا مُبرحا إلى أن أغميَ عليه وقيدوه، ولما استفاق هدّدوه بالقتل لأن الأمر يتعلق بالشرف، ثم خاطبوه بأن ابنتهم ملاك خلقها الله بذلك الشكل، وتحتاج التذوق من نِعَمه في الحلال، والأجر عند الله بلا حساب. بعد ذلك ربطوا الاتصال مع مُشغله الحاج الشرقي الذي كان على علم بمثل هذه الحكايات، وأن مواجهتها هي المشقة الكبرى، فأقنع البشير بالصبر إلى أن يأذن الله بزوال الغمّة، لأنه فَعلها دون استشارة أحد، وزواج ليلة تدبيره عام أو أعوام، ثم ساق له عشرات الأمثلة التي جعلته يلتزم الصمت مُكرها.
اتفقوا على التطليق بعد أربع سنوات، ولا أحد علمَ أو يعلمُ شكل زوجته أو كيف قضى السنوات معها.
***
نباح لا منقطع للكلب الگرطيط الذي اقترب من الباب الكبير، خلفه كلاب مختلطة من غير أتباعه المألوفين. في نباحه حرفان يكررهما بتنويع غريب، جعل سوسو في حيرة وحرج وهي جالسة أمام الباب الزجاجي. تطوّع الرّاعي وسار إليه وحيدا يريد إبعاده، لكنه عاد سريعا وخائبا وهو يقول بأن فاقد الذيل ليس وحيدا، خلفه جيش من المرتزقة مستعدّون لكل الاحتمالات، ويرفض المغادرة ما لم يكلم سوسو.
سمعت سوسو كلام الراعي فاكتفت بِهزّ كتفيها.
***
لماذا يبحث الشيخ البرغوث عن تطويع الفيافي المهجورة داخل نفوسنا.. في ذهابه إلى أرشيف الأغاني المعتّقة لأعلام الطرب الشعبي في السهول والجبال، في الأودية والرمال، مرة في تمجيد الحياة كأننا مخلدون لنعيش أبدا، ومرة في التذكير بالممات كأننا ميِّتون غدا، ثم أنشد مقطعا للجذبة أسرعت كلماته في النفاذ إلى وجدان اعْلي المسكيني، فارتعدت فرائصه وأخفى عني ملامح وجهه الفضّاحة، ودون سابق مقدمات ضرورية للتمدّد والتشعُب الذي وقفت عليه سوسو في حياتنا. أشار بيده إلى عيسى، والشيخ ينقر على الأوتار في حالة لا تترك للزمن لحظة فراغ. جلس أمامه على رُكبتيه ورأسه قريبا منه بعدما أزال طربوشه ووضعه جانبا، فمدّ اعْلي يده وأعاد الطربوش إلى رأس عيسى، وقال له بتأثر:
– عوْوووووو !!
قال وهو يشير بيد مرتعشة نحوي دون أن يلتفت، ثم أخفى وجهه بيديه بعدما زلّت دموعه سريعا، فأشرتُ إلى عيسى، وهو مندهش، بالعودة إلى مكانه، واعتبرتُ ما قاله صاحبي ليس سوى مقطع من أغنية ملحمية تُنشد جماعيا في الساحات المفتوحة على السماء فقط، وأن التفاصيل الصغيرة واللامرئية هي الحاسمة دائما.
سمع الراعي ارتعاشة اعْلي فتحوّل وجهه إلى العُبوس وارتخى إلى الوراء متمددا على ظهره بعينين مغمضتين، بينما أشاحت سوسو بوجهها تخفي دمعة ساخنة.
المجد لليل وحده
وضعت خيرة الگناوية البندير وحملت التعريجة، فانتبهتُ إلى حمُرة الحنّاء في رسم على ظاهر يديها كأنه ثعبان صحراوي حيٌّ يتلوّى على بطن الليل. تنقرُ بتتالٍ من ظهر السبابة والوسطى بإحكام الإبهام، فنشعر جميعا كأن النقر في قلوبنا، تفتح فجأة عينيها في عينيّ مباشرة.
رشاقتها من رشاقة أنثى النمر، ولونها من لون الفرس الأدهم الشديد السواد. كل شيء فيها صغير من القدمين إلى الأنف والفم والأذنين، وفمها المدوّر، إلا العينان فهُما واسعتان امتلأتا عسلا تليدا زادهما الحاجبان الهلاليان عنفوانا، أما صدرها فمُزهر بالشموخ.
كانت زيرا هي من أمرت وأصرّت أن يأخذ زوجها الشيخ البرغوث خيرة في سهرته، وقد اشتهر بالعمل وحيدا دون فريق أو شريك، لا تصاحبه مغنية أو راقصة منذ امتهانه، بشكل دائم، الطرب الشعبي مُغنيا في الأعراس والسهرات الخاصة بالبادية أو بالمدينة أحيانا لدى من يحبون ألوانه الشعبية. أما العالمون بأسراره المتاحة فيُدركون أنه لو كان حرّا في القرار لقاد سهراته بثلاث فرق: الأولى من فُقراء المتصوفة يفتتح بها ويمشّيها، وفِرقتين يبقيهما معه من المغنيات ومن الراقصات، لكنّ زِيرَا، زوجُه وحارسته، هي من تقرر ولا يخالف لها أمرا، لاقتناعه أنها تتلقى إشارات من الغيب.
خيرة الگناوية هي الوحيدة التي ظفرت بها والدتها، الشهيرة باسم العرَّاگة، من زواج سريع استمر أربعة أسابيع من صائد أفاعي التقت به في جبل مگارطو، لما كانت تحفر عن جذور نباتات معلومة وتلتقط أعشابا مُسخِّنة تضيف إليها بعض التوابل لإعداد مسحوق المَسَاخن، بينما هو يتربص لاستخراج الأفاعي السّامة وبيعها لوسيط شركات الصيدلة. كانت دون العشرين من عمرها قوية وحيّة وجميلة تُخفي مفاتنها في جلالبيب ذكورية وأحذية عسكرية وهي تعمل مع جدّتها المقعدة، ولمّا صادفته حنّ لونها إلى لونه واعتبر علاقته بها صيدا ثمينا لأفعى سوداء نفثت سمها في كل عروقه فأحياه، في ما اعتبرته زيرا جِذرا ساخنا ستحتفظ بها لرحمها.
غادر في مهمة بحث عاجلة عن أفاعي مطلوبة، دون أن يعرف أن نطفة خيرة تنمو في بطنها، ووعدها بالعودة بعد أيام، وها هي سبعة عشر عاما مرّت دون أن يعود أو يسمع أحد بخبره.
تَعتَبرُ زيرا صديقتها العرَّاگة أختا بالرضاعة، وهما توأم بالأبيض والأسود في الرابعة والثلاثين.. كبُرتا معا وعاشتا وشربتا من نفس كأس الهمّ، واختارت زيرا أن تكون، في البداية، مُدلكة لأوجاع البطن وعِرْق النسا، وتزوجت، في نفس سنة زواج صديقتها، من العسكري الذي عاش معها سنتين قبل أن يتورّط في جريمة قتل ويدخل السجن، ثم ستتزوج البرغوث مرتين، وفي هذه المرحلة تحولت إلى عرّافة محلية وعشّابة تساعد النساء اللواتي استعصت عليهن الولادة.كما تشتركان في إقامة الليلة العيساوية للنساء فقط من الراغبات في الفكّ عن النفوس المعتقلة، ومن تلك الليالي عشقت خيرة الصغيرة الرقص والغناء وحفظ الكلام والأزجال والبراول من كل الألوان، وتمرّست في الليالي وسط النساء فقط، لكن زيرا رأت أن تدفع بها، في سهرة فدّان العنب، للمرة الأولى، خارج نطاقها الذي ألفته.
الله وحده من يعلم ما في رؤوس النساء، ورأس وقلب زيرا بالخصوص.
***
تواصَل الغناء متناوبا بين الشيخ وخيرة وسط صمت لا يَحتمل أي لغو، فنحن وسط ساعة نُرمِّمُ فيها الانكسارات القديمة، والليل مفتاح النهار، وكلمات الگناوية غار للنفاذ إلى فهم ترتيبات زيرا الغامضة، لذلك حينما يبدأ الغناء يخرس الصرّار طيّاب العنب وكذلك الكلاب، ويتلاشى أزيز الأجنحة الهشة لليعاسيب، وتواصل البطّات إغفاءتها الكاذبة.
رنّ هاتف وُلْد جوهرة صاحب آلة الحصاد الجوندير، ولمّا أنهى مكالمته اعتذر منا لطارئ وغادر وهو يتأسف، أمّا اعْلي المسكيني فقد استغرقه نوم طويل بعد صرخته.
انتهت وصلة أخرى، فاستأذنَت الگناوية بالإشارة وقامت إلى الغرفة الصغيرة تستبدل ملابسها..بينما عادت وصلة الصرّار وعلا نُباح الگرطيط ومن معه ونباح آخرين رفعوا عقيرتهم عاليا في جوف الليل كأنهم جنود يُزمِّرون إنذارا بخطر داهم.
قام الراعي وصاح في الجميع : عِباد الله.. قوموا وارفعوا الشّدود البيضاء والعمائم الصفراء للگناوية وسوسو..أمّا الگرطيط فاقد الذيل فقد تسربت الفُحمة إلى عقله.