رزان نعيم المغربي
المنصوري يتحرر من المعتقل .. 1939
وأخيرًا دخلت سيَّارتان، واحدةٌ منهما كانت بلا غطاءٍ يحميها، توقَّفت قريبًا من تجمهرٍ كبيرٍ أحاط بها رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ، رفعوا أيديهم بالتَّحيَّة، والكولونيل يقف على مقعد السيَّارة ليستطلع من الأعلى هذه الحشود الملتفَّة حوله، لدرجة أنَّهم يلامسون هيكل سيَّارته، رفع يده وأسدل قبَّعته إلى منتصف جبينه، بسبب سطوع الشمس هذا النهار، ممَّا ينبئ عن طقسٍ شديد الحرارة، مع هبوبٍ خفيفٍ للرِّمال، ولم يكن في أحسن أحواله، صارت ذرَّات الغبار تطير بخفَّةٍ حتى قبل أن تصبح عاصفةً رمليَّةً، وجدت نفسي أنسلُّ بين الحشود قريبًا من السيَّارة حتى لامست يدي معدنها الصقيل، عندما قرَّر أن يترجَّل منها كانت يدي تعبث بمقبض الباب، نظر إليَّ فوجدت نفسي أصرخ بصوتٍ عالٍ:
لديك ثلاثة حلولٍ من أجلنا… ساد صمتٌ مفاجئٌ، وشعرت بقبضة يد رجلٍ خلفي يحاول سحبي إلى الوراء، ولكنَّه توقَّف بأمرٍ من الكولونيل، وبإيماءةٍ من يده طلب منه أن أستمرَّ… فقلت:
سيِّدي، إمَّا أن تطعمونا أو تقتلونا أو تطلقوا سراحنا.
ورائي أصواتٌ مؤنِّبةٌ وأخرى تشتم تربيتي السيِّئة، لكنَّ الكولونيل طلب منِّي الذهاب إلى خيمتنا والانتظار هناك بعد ساعتين من التجوال وتفقُّد المعسكر، كانت خيمتنا قد أصبحت موئلًا لجمعٍ كبيرٍ من الناس يتحرَّكون داخل بيتنا المصنوع من قماشٍ مهترئٍ، يفد أحدهم ليلقي باللَّوم على أمِّي ثمَّ يخرج غاضبًا، بعضهم اتَّهمني بأنَّني سأكون سببًا في قتلهم جميعًا، فهذا أسهل الحلول للطِّليان، وآخرون اقترحوا طلب العفو والمغفرة، والتذلُّل للكولونيل والادِّعاء بأنِّي مجنونٌ، لكنَّ كلَّ اللَّوم في النهاية يقع على تربية أمِّي السيِّئة لي، وهي تذرف الدمع ولا تجيب أحدًا منهم.
حتى حانت اللَّحظة التي لم يدرك أحدٌ منَّا مصيري فيها، تقدَّم اثنان من الجنود، وطلبوا أن أرحل معهم، سمعت شهقاتها ونشيجها، نظرت إلى وجهها تغسله الدموع، ثمَّ صرخت وبكت بصوتٍ عالٍ، كانت تمسك بيدي، لكنَّ أحدهما سحبني بقوَّةٍ ودفعني إلى الأمام، كدت أطير من قوَّة تلك اللَّكمة على ظهري!
أمر الكولونيل أن أصعد إلى السيَّارة المرافقة له، وكانت ذات سطحٍ مغلقٍ، وانطلقنا لا أدري إلى أين، كنت في المقعد الخلفيِّ قريبًا من النافذة، أفكِّر كيف أغادر هذا المكان الذي لا أعرف غيره ولم أرَ سواه، إلى مكانٍ مجهولٍ، بعد أن توارت أسوار المعكسر، لم أعد أنظر إلى ما يحيط بنا من مساحةٍ شاسعةٍ بلونٍ أصفرَ باهتٍ ومغبرٍّ حيث مكثت هناك، ما كنت أرى ألوانًا أخرى إلَّا عندما يزورنا بائع القماش اليهوديُّ (بو حليقة)، كان يسمح له بالدُّخول، وفي مرَّاتٍ كثيرةٍ يكون كريمًا للغاية، ويوزِّع بعض الأقمشة مجَّانًا للنِّساء الفتيات، وتُلقى الأسئلة عن هذا الكرم المفاجئ، ليبقى سرًّا، لكنَّه مصدر بهجةٍ وسط تلك الحياة، التي تقتصر أفراحها على ألَّا يحدث جوعٌ يمزِّق الأمعاء، أو تأتي رياحٌ قويَّةٌ تعصف بالخيام، أو بردٌ شديدٌ، فلا نجد ما يكفي من أغطيةٍ تدفِّئ عظامنا.
كنت مستسلمًا غارقًا في صور اضطهادنا حينما وصلنا إلى طريقٍ معبَّدٍ، بدا مثل أفعى سوداءَ، تأمَّلت الطريق على يميني، بدت الرمال الصفراء بعيدةً، وقد كان يجلس بجانبي جنديٌّ له قوامٌ نحيلٌ أسند رأسه إلى الوراء وأغمض جفنيه، أخذت أسترق النظر من تلك الثغرة بين جسده، التي سمحت لي برؤية الجانب الأيسر، دقَّقت النظر وأخذت حدقتي تتَّسع لمزيدٍ من التحقُّق ممَّا أشاهده، أفقٌ واسعٌ يمتدُّ بعيدًا، دون تخطيطٍ أو تفكيرٍ، همهمت بصوتٍ خفيضٍ مرتجفٍ، مشيرًا بيدي نحو لونٍ أزرقَ قريبٍ منَّا، هل التصقت السماء بالأرض فجأةً؟! لكنَّ أحدًا منهم لم يهتمَّ!
في تلك اللَّحظة هبَّت رياحٌ قويَّةٌ، كنت أراقب سيَّارة الكولونيل التي تسبقنا بمسافةٍ مرئيَّةٍ، كان رفقة السائق يحاولان التشبُّث بقبَّعتهما، وفي سيَّارتنا أغلقت النافذة بعد أن سمحت لموجة رمالٍ بالطَّيران فوقنا وفي كلِّ اتِّجاهٍ، أحدِّق نحو اليمين وأقول لنفسي ها هي ذي رمال الصحراء مرسلةٌ زوابعَ صغيرةً تلتفُّ نحو الأعلى، ستجبرهم على التوقُّف، وهذا ما حصل، فتوقَّفنا، لم يطل الانتظار حتى تحرَّك بعضهم وسحب غطاءً يشبه الخيمة لحماية سيَّارة الكولونيل، وأتى بنفسه متَّجهًا حتى انزوى، وفتح الباب وصعِد وجلس في المقعد بجانب السائق متأفِّفًا يتساءل: متى تنتهي هذه العاصفة؟!
لم يكن يسألني ولم يتوقَّع أن أجيبه، وجدت نفسي معنيًّا بالأمر، فهذه أرضنا وطقسنا الذي عرفته وفهمته وخبرته على حداثة سنِّي، لكن كان أحد مشاغلنا في المعسكر معرفة الأنواء، واتِّجاهات الريح وأسماء الهبوب ومواسمها وشدَّتها وتموضع النجوم…
……………………………………………
تمثال نبع الحياة مقابل سرقة الحياة
ربيع 2011
عدت إلى البيت سيرًا على الأقدام، كانت المسافة طويلةً، ولكن برفقة ليديا وثرثرتنا طوال الطريق لا نشعر بها، غالبًا ما أقطع المسافة من بيتي إلى محطَّة المترو التي تبعد نحو ثلاثة كيلومتراتٍ، وذلك عندما أخرج في الصباح الباكر، وفي معظم المرَّات أتوقَّف لدقائقَ عندما أصل إلى جداريَّة النساء وأتأمَّل هذه المنحوتة الفنِّيَّة، إنِّي أعتبرها هديَّة القدر؛ لأنَّها في نفس الشارع الذي أقطنه، تقع قبيل الميدان الذي تنتصب فيه الكنيسة الصغيرة، جداريَّةٌ تتعانق فيها أجساد النساء الملتوية، في تشكيلٍ يبهرني كلَّ مرَّةٍ، ولا أستطيع إحصاء مرَّات توقُّفي لتأمُّل المشهد، ليس بغريبٍ على الفنِّ الإيطاليِّ دقَّة التشريح في التماثيل، ولا سلاسة نحت المرمر بين أيديهم وهم يشكِّلون الزخارف والمنحنيات، كلُّ انحناءةٍ وانعطافةٍ تحاكي حركةً في الطبيعة نراها كلَّ لحظةٍ ولا تلفت انتباهنا؛ لأنَّها بشريَّةٌ لها خالقٌ لا ندركه، أما وقد قام الفنَّان بفعل المحاكاة، فإنَّه جعلنا نعتقد للحظةٍ بتدفُّق الحياة غير المرئيَّة في نسيج المرمر الصُّلب، حتى ليكاد المرء المتأمِّل يسمع صوت أنفاسها، ولنتخلَّص من الآثام، آثام محاكاة الخلق، التي ندعوها البعد الرابع في العمل الفنِّيِّ؛ لأنَّه يخرجه من مادَّته الصُّلبة الصمَّاء، والتفاصيل المنحوتة ذات الجمال الآخَّاذ، لتحدث اللِّقاء العاطفيَّ أو النفسيَّ المتبادل بينها وبيننا، نحن المفتونين بما بذله الفنَّان من رؤيةٍ تجسَّدت في أعماقه، وخرجت من بين أنفاسه رغباتٍ مجنونةً، وتشكَّلت بين يديه طينًا ليِّنًا، وأعادها مرارًا وتكرارًا لروحه، حتى ما عاد يطيق احتمالًا في جوفه، فأطلقها مجسِّدةً كلَّ شهواته بالبوح عمَّا اعتمل في داخله، وبعد كلِّ ذلك لا يعلم أوَصلت إلينا بنفس القوَّة والجمال أم بقيت حبيسة عقله؟! لهذا يستمرُّ في النحت والتشكيل مرَّةً إثرَ مرَّةٍ، إلى ما لا نهاية.
هذه الجداريَّة البسيطة في الشارع، مع اعتيادي رؤيتها وتكرار قراءتي للشِّعر الذي دوَّنه (ألدوميرينو) على الخلفيَّة الرخاميَّة السوداء، لتبرز بياض المرمر: (لجميع النساء فنُّ الشارع)، لم أستطع أن أتجاوزها لمرَّةٍ واحدةٍ دون توقُّف حتى لدقيقةٍ، كنت أتماهى في كلِّ وقوفٍ مع ما أراده، كلُّ مشاهدةٍ بالنِّسبة لي اكتشاف معنًى جديدٍ وراء الخطِّ والاستدارة، معنًى مخبوءٍ يظهر بغتةً ويختفي إذا ما حاولت استذكاره في مرَّةٍ مقبلةٍ، وتمنحني تلك اللَّحظة متعةً مختلفةً، وأعطي نفسي مهلة الوقت الذي تستحقُّه تلك التحفة لمشاهدتها إلى ما لا نهاية.
كنت برفقة ليديا المتخصِّصة في ترميم الجداريَّات، بنت بلاد الفنِّ، تظهر ردَّة فعلها أقلَّ انبهارًا منِّي، ربَّما لأنَّها تنظر إلى هذه الأعمال بطريقةٍ تقنيَّةٍ بحتةٍ… وعندما وصلنا إلى جداريَّة النساء أخذت تراوغني للعبور وتجاوزها، وتحاول جذبي بكلامٍ عمَّا تراه في الطرف الآخر من الشارع…
– ليديا، توقَّفي عن العبث معي، لن أطيل الوقوف، دقيقةً فقط، تحيَّةٌ سريعةٌ!
– مجنونةٌ يا سلمى! أتفهَّم جريك وراء جداريَّة الرسَّام الإنكليزيِّ، لن تُشفَي إلَّا بكشف أسرارها، لكن هذه قريبةٌ من بيتك، تشاهدينها في الذهاب والإياب، كفِّي عن العبث!
– هل تعلمين أنَّ هناك غرامًا آخرَ لا تدرين عنه شيئًا؟! لحظةً، سأعترف لك باختصارٍ… قاطعتني:
إذًا نسير وتحكين قصَّة غرامٍ مدفونٍ هنا… ولمست بسبَّابتها رأسي ومضينا.
– عندما كنت أدرس في طرابلس وقرَّرت تعلُّم الإيطاليَّة في المركز الثقافيِّ، كان بمنطقة الضهرة، وفي معظم الأحيان كنت أعود سيرًا على الأقدام إلى البيت في بن عاشور، كان والدي مشغولًا، وبنفس الوقت مطمئنًّا، أتذكَّر أوَّل مرَّةٍ اكتشفت فيها ميدان الغزالة، تمثال الحسناء العارية، منتصبًا في وسط ميدانٍ تحيط به أشجار النخيل بكثافةٍ، ظلال سعف النخل وبناء قاعدةٍ حديثةٍ مرتفعةٍ للتِّمثال، وإضافة مرشَّات مياهٍ ناعمةٍ تنطلق من أسفل إلى أعلى، تخفي كثيرًا من تفاصيل المنحوتة التي تتمثَّل بجسد امرأةٍ عاريةٍ ترفع أحد ذراعيها إلى أعلى، ملتفَّةً تحتضن بها غزالةً، أتذكَّر أنِّي رأيتها مثل ضوءٍ لمع فجأةً وسط عتمةٍ مخيفةٍ، لحظة الانبهار والدهشة الأولى التي لا تشبهها عاطفةٌ أخرى، لهذا نعبِّر عنها بشهقةٍ لجمالها، ودهشةً من اعتياد الناس المرور بمحاذاتها دون أن يلتفتوا إليها، لا أحد مهتمٌّ! وكأنَّها قطعةٌ برونزيَّةٌ مصمتةٌ، ثمَّ إنَّ رشَّاش الماء الناعم لم يفكِّر فيه النحَّات الإيطاليُّ (أنجلو فانتيني)، ولا حتى المارشال (إيتاليوبالبو)، الذي أشرف على تنصيب عدَّة أعمالٍ فنِّيَّةٍ افتتاحًا لمشاريعَ عمرانيَّةٍ؛ لأنَّهما أبناء بلد الفنِّ.
– هل تعلمين أنَّ لنفس المنحوتة في المتحف هنا في روما تمثالًا مصغَّرًا؟ أعتذر؛ قاطعتك يا سلمى، أريد أن أعرف إلى أيِّ حدٍ وصل جنونك؟! قالتها وهي تضحك!
– من شدَّة تعلُّقي برؤية التمثال كنت أتعمَّد المرور اليوميَّ والتوقُّف طبعًا قريبًا منه، أقف على الرصيف المقابل تمامًا؛ بسبب حركة مرور السيَّارات من حوله، وعندما كانت قريبةٌ لنا تأتي بعض الأحيان بسيَّارتها لتقلَّني إلى البيت، كنت أتحايل عليها كلَّ مرَّةٍ للمرور من ميدان الغزالة، فكان أن استجابت لرغبتي في إحدى الأمسيات والطريق شبه خاليةٍ، ولكن بطريقةٍ مجنونةٍ فعلت ذلك، أخذت تدور بالسيَّارة حول التمثال وكأنَّه طوافٌ، تقود السيَّارة بشكلٍ دائريٍّ، تلفُّ حوله وتصيح وتضحك: ارتحتِ الآن يا سلَّومة؟ ها نحن أولاء نطوف حوله!… حتى مرَّت سيَّارةٌ مسرعةٌ في لحظة الهبال تلك، ونحن ندور عكس اتِّجاه السيَّارة، فما هي إلَّا ثوانٍ فقط حتى وجدت أنَّ باب السيَّارة بجانبي قد التصق بالسيَّارة القادمة من جهة السائق، فتحطَّمت المرايا، وتطاحنت الأبواب، واجتاحتنا خضَّةٌ من الرعب، من قمَّة الضحك والمرح إلى صوت الاصطدام المخيف، فتنهَّدت وسكتت فجأةً!
– من المؤكَّد أنَّها استسلمت بعد وصلة الرعب – قالتها ليديا ضاحكةً وكنَّا قد وصلنا إلى وِجهتنا – مع أنَّ في القصَّة شيئًا تحاولين أخفاءه عنِّي! لا بأس، أسامحك الآن حتى ألحق بموعد خروج ابنتي من معهد الموسيقا، توقَّفت برهةً قبل أن تتابع سيرها ملوِّحة بيدها، وتتوعَّدني بأنَّها ستعرف تتمَّة القصَّة يومًا ما.
ربَّما من غير اللَّائق أن أحكي لها عن ردَّة فعل جدَّتي سدِّينة في تلك الأمسية، عندما علمت بما حدث، نعتتنا غاضبةً بالفجور! وتفهَّمت مشاعرها، لقد كانت نتيجةً طبيعيَّةً لخوفها على سلامتنا، غير أنَّها قالت: “هذا فجورٌ؛ أن تفرحا بالأصنام التي غرسها الطليان، وقد سمَّوا هذه بالذَّات نبع الحياة، وأخفوا اللِّيـبـيِّين في جزرٍ منفيِّـين، وأوَّلهم خوي سيدي المبروك، ثمَّ إنَّ جنودهم الفاشيست قد اغتالوا حياة اللِّيـبـيِّين”… وأجشهت بالبكاء، فاقتربت منها وحدَّثتها عن الفنِّ والحرب والفرق بينهما، فقالت لي بعد أن هدأت:
“تحسابيني ما نفهمش الفرق؟ نعرف أن في طليان فاشيست قتلونا، وفي طليان مساكين، وحتى الفنانين مساكين، غير الواحد منا لما يحس الحرقة من الظلم يجمع الكل الشين مع الزين”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية ليبية . الرواية تصدر قريبًا عن منشورات ضفاف