بسام حجار
1
“طقس برلين، هذه الأيام، قاسٍ”، قال لنا صديقنا آرنيم هايْنَمِن، الباحث في المعهد الألماني للدراسات الشرقيّة، ومدير الشقّ البيروتي من مشروع ورشة العمل الأدبية المشتركة بين شعراء لبنانيين وألمان. وكان يقصد أن نعدّ أنفسنا، عبّاس بيضون وصباح خرّاط زوين وكاتب هذه السطور، للانتقال من مناخ حار، نسبياً، لم يغادره الصيف بعدُ وقد شارفنا على نهاية الخريف، إلى مناخٍ بارد، لا بل شديد البرودة في مثل هذه الأيام من السنة.
قلنا في سرّنا إن العلم بالطقس وجهة نظر.
غادرنا بيروت قلقينَ إذ نخلّفها وراءنا في غمرة شقاقٍ محيّر، فتُشعرنا بأنّ قلبها بارد. كانت بيروت برغم الحرّ عاصمة باردة.
ونزلنا في برلين الباردة، فألفينا قلبها دافئاً.
الفندق أولاً ثمّ ساعات للراحة قبل لقاء العشاء.
كان اليوم الأوّل اغتسالاً من مشقّة السفر والانتظار في المطارات. كان يوماً لتعوّد الانتقالِ بين مكانين مختلفَين، وزمنين أشدّ اختلافاً. انتقال من لغةٍ إلى أخرى نجهلها.
لا أحد منّا، نحن الضيوف، يُجيد الألمانية. فكان آرنيم، ومن ثمّ “نادير”، صديقنا، وسيطنا للتفاهم مع الآخرين، وتدبير الشؤون الأولى لإقامتنا القصيرة في برلين.
برلين القاسية في الظاهر، الخجولة في الباطن، المحتجبة في جزءٍ منها وراء أبوابها. كانت مكاناً ممتداً على اتساعٍ حائرٍ بين مدينةٍ بقيت أسيرة لذكرى قسمتها مدينتين، كأنّها، أي الذكرى، في روعها، جرح عميق الغور، وبين مدينة أخرى أضحت هي العاصمة على غفلةٍ منها. كأنّ في جنبات نواحيها حدائق لشتاء منسيّ ما زالت قائمة بين تقاطعات الطرق وداخل أسوار البيوت. حدائق خريفيّة استبدلت خضرتها بلون معدن غريبٍ، هو شقيق اليباس لكنّه يباسٌ آخر. لا أدري ما هو. لا أحد يدري حقاً ما جنس يباس حدائق برلين في الشتاء.
كان عبّاس مسحوراً بتلك الواحات النابتة كهلةً بين متاهات الشوارع وبين البيوت. وحين نمشي مغادرين الفندق أو عائدين إليه يقف فجأة تحت مطر غزير متأملاً. فالمطر ليس جزءاً من حياة برلين في الشتاء، بل ضيفها الدائم، فيما كنّا نحن ضيوفها الموقتين. بلى، لطالما كانت برلين في ذهني شخصاً. تاريخ ثقيل. وتجربة. واختبار البقاء.
غير أني لم أدرك أنني سألتقيه.
شخص برلين.
2
“كان هذا معمل بيرة “. قال نادير الهارب حديثاً من مدارس وجامعات الجزائر إلى ألمانيا ليدرس علوم الأنثربولوجيا، طبعاً بعد أشهر يقضيها في تعلّم الألمانية.
ليس نادر ولا نذير. لأنّه من منطقة القبائل. وثمة ما يدعوه إلى عدم الثقة باللغة العربية. يتكلّم الفرنسيّة والإنكليزية. ومنذ أربعة أشهر فقط بات يتكلّم الألمانية، غير الأدبية، كما يقول.
“كان هذا معمل بيرة. بناء قديم جداً (حسبنا نحن أنّه في يوم ما كان قصراً). أصبح الآن “معمل ثقافة” أو هذا ما تقوله الأحرف الضخمة المثبتة على واجهته العريضة: 7-7- كولتور براوري”.
لم ندر إذا كانت تلك وجهتنا أم أنّ نادير، كما يحب أن نناديه، قرّر في اللحظة الأخيرة أن يمنحنا جولة سياحيّة، سيراً على الأقدام، في نواحي برلين المنبسطة.
حين وصلنا كان ما يشبه السوق الجوّال دائراً داخل الأسوار التي ندخلها من أبواب حديد عريضة.
كانون الأول. موسم الميلاد. وداخل سور الـ “ليتراتور فيرك شتات”، معمل البيرة سابقاً، تجري حياة الناس في ما يشبه الكرنفال الميلادي بين المباني العتيقة المخصّصة لعروض السينما والمسرح والحفلات الموسيقيّة، وورشة الأدب، وورشة للعمل المعلوماتي (أنترنت) جعلت من بين طموحاتها أن يكون الشعر جانباً مهمّاً من موقعها على الأنترنت.
“كان هذا معمل بيرة” قال نادير. وحسبنا أنها جولة سياحية.
3
لستّة أيام في برلين، ومثلها في بيروت، اتسعت لنا اللغة بيتاً للضيافة. الألمانية والعربيّة. وعندما أطلعنا توماس فولفهارت، للمرّة الأولى، على تفاصيل مشروعه، في برلين، بدا لنا الأمر، لو فهمنا الشرح جيّداً، ضرباً من ضروبِ اللهو، إذا كان اللهو هو الاسم الآخر للاستحالة. إذ كيف لواحدنا أن يكتب، أن يعاود كتابة نصّ، انطلاقاً من لغةٍ يجهلها ؟
لم يكن أي من الإجابات الممكنة مقنعاً في البداية. وكان ينبغي، وفق مشروع “من بيت إلى بيت” (بيت الشعر وبيت الإنسان) أن نعمل في ثلاث فرق عمل صغيرة، قوام كلّ واحدة ثلاثة: شاعر ألماني، وشاعر لبناني، ومترجم، هو الوسيط الأوحد، يجيد اللغتين أو إحدى اللغتين ولغة ثالثة مشتركة بين أعضاء الفريق الواحد.
وكان على الشاعرين والوسيط (المترجم) أن يعملوا على عدد من القصائد القصيرة (أو مقاطع قصيرة من قصائد طويلة) بالألمانية وبالعربية، لكي يتفق الشاعران على صيغة (مقنعة) لها في إحدى اللغتين (الألمانية للقصائد العربية والعربية للقصائد الألمانية). أمّا الاتفاق على الصيغة فيتمّ عبر نقاش مترجم. ما يعني أنّ الترجمة من اللغة الأصل إلى اللغة المضيفة تتمّ عبر سجال مترجم. ما يجعل الترجمة هنا مضاعفة: إذ يُترجم النص في البداية مقول الشاعر بلغته الأمّ، ثمّ يفسّر عبر حوار مترجم، ثمّ يُنقل إلى لغةٍ ثانية، هي اللغة المضيفة، استناداً إلى تفاهمٍ مترجم.
تبدو المهمّة شاقة، وهي كذلك، قبل أن تؤتى ثمارها. وإذ تؤتى الثمار تبدو نصّاً آخر هو مزيج من لغة الشاعرين المعنيين، وأقرب إلى اللغة المضيفة منها إلى اللغة الأصل. قصيدة ضدّ لغتها الأمّ، كما ينبغي ربّما أن تكون عليه كتابة الشعر، وضدّ اللغة المضيفة لأنّها تنطق بأفكار أو أحاسيس أو رؤىً مغايرة ليست من حقلِ دلالاتها الخاصّة.
لغة هجينة، لتعبير هجين.
لغة فيما وراء الهوية القومية والانتماء.
4
الشاعر والروائي والمؤلف المسرحي والسينمائي ميخائيل روس، كان مضيفي الألماني، كما كنت مضيفه اللبناني. لم أكن قد سمعتُ عنه أو قرأت له من قبل. كما لم يكن قد سمع عني أو قرأ لي من قبل. ولعلّه صاحب الشخصيّة المناقضة تماماً، هو الذي لا يخفي توتّره حتّى في طريقة إلقائه القصائد، كما لا يخفي ميلَه المعلَن لاستفزاز القارئ تدريجاً في تصعيده الذهني (شبه) الدراميّ للتناقضِ المذهل في الطبيعة البشرية. مثقّف. مُرهَف. منحه عمله السينمائي قدرةً على تجسيد أكثر الأفكار تجريداً. كما أكسبته تجربته الطويلة في اليمن، وفي بعض البلدان العربيّة، قدرةً خاصّة على التقاط الحساسيّات العربيّة، وإن كان لا يتقن لغتها.
لو قيض لي أن أقرأ ميخائيل روس من دون أن أعرفه، وبوساطة ترجمةٍ تتجه من الأصل إلى اللغة المضيفة مباشرةً، مهما بلغت من الاتقان والبراعة، لكان احتمال أن أفهم شعره، لا بل أن يستهويني هذا الشعر ذو الحساسية الخاصّة، أقلّ بما لا يُقاس. ولاعترف هنا أن آخر من أدمنت قراءته، مترجماً إلى الفرنسيّة، من الشعراء الألمان هو جورج تراكل. في حين أنّ جورج تراكل يبدو الأبعد عن حساسيّات الكتابة الشعرية الألمانية الراهنة، لا بل قد يكون شاعراً منسياً لديهم.
كان كلّ شيء في البداية يشير بوضوح إلى اختلاف في ثقافتينا وعالمينا، والأهم من ذلك كلّه، في فهمنا للشعر وأسلوبينا المختلفين تماماً في كتابته. وكان ينبغي ان نعمل سوياً بتوسّط الكاتبة والمترجمة العراقية إقبال القزويني المقيمة في ألمانيا منذ ما يزيد على العشرين عاماً، وانطلاقاً من ترجماتٍ أولية، حرفية، لقصائدنا كلّ بلغة الآخر.
كانت ورشة العمل إذاً لا تقتصر على الشاعرين بل على الجهد الذي يبذله المترجم الوسيط في تذليل عقبات سوء الفهم، أو سوء التأويل، ما يجعل النصّ عرضةً للاستبدال بآخر هو نص المترجم. إذ يبقى الشاغل، في فكرة ورشة العمل، أن تبقى القصيدة قصيدة صاحبها على أن تُكتَب ثانية بحساسيّة اللغة المضيفة.
ولعلّ تجربة ميشائيل روس في اليمن، ومعرفته بالعالم العربي إجمالاً، كانت عاملاً مساعداً على فهمِ التباينات العميقة بين ثقافتينا وأدوات التعبير عن هذا التباين.
مبدأ ورشة العمل الأدبية، كما اقترحها هاينمن وفولفهارت، وكما رافقها وأسهم فيها، في مرحلتها البيروتية، الدكتور أسعد خير الله وآخرون، يقوم على الفكرة القائلة إنّ الشاعر يجب أن يُترجَم من قبل شاعر، وإنّ حاجز اللغة بين الشاعرين ليس عائقاً دون النجاح في ذلك، لأنّ ما يفترضه الأدب، والشعر بخاصة، اليوم، هو أنّه تجربة تتجاوز نطاق لغة الهوية والقومية والجماعة بعينها، توقاً إلى تخاطبٍ إنساني أشمل.
كانت الترجمة طوال المدّة التي استغرقتها ورشة العمل تقوم على نقاشٍ مستفيض للسياق أولاً، وللتفاصيل الهامشيّة ثانياً، ثمّ الانتقال في اقتراح الصياغة إلى نقاش في اللغة نفسها، ومخزون مفرداتها الدلالية، وتفرّعات الاشتقاق فيها. هنا كان المترجم الوسيط يقرّب، عبر الشرح والتفسير المستفيضين، المفردة المختارة أو يستبعدها، خشية أن تتطابق إلى درجة الحَرفِ أو تتنافر إلى درجة الخيانة. وكنّا في الأثناء نطرح أسئلة ونهتدي، في السياق، إلى أخرى. ولم يخشَ أحد منّا الحذفَ إذا بدا الحذف، في اللغة المضيفة، ضرورياً.
عندما قرأت نصوص ميخائيل روس مترجمة حرفياً إلى العربية، فهمتُ معنى العبارات. ولم أفهم الشعر. والمؤكّد أن ميخائيل حين قرأ قصائدي بترجمتها الحرفية الأولية لم يفهم منها شيئاً، ولم يخف هذا الأمر عنّي. وقبل أن نتبادل الرأي فيما قرأنا، اقترح عليّ أن نعمل أولاً. ثمّ مَن يدري ؟
وكان محقاً.
كنّا بين العاشرة صباحاً والسادسة مساءً (وأحياناً إلى ما بعد ذلك) ننصرف بصحبة المترجم الوسيط إلى نبشِ المعنى أولاً، بحسب وروده في سياق القصيدة. وكان ميخائيل يعينني على اكتشاف النبرة المُضمَرة، وتتبّع إيقاع العبارة الذي في اختياره مفردات بعينها أراد أن يكون هو إيقاع القصيدة، لا بل نبْضها. وكان عليّ مثلاً أن أهتدي إلى إيقاعٍ مواز بمفردات العربية ومعانيها. كذلك الأمر حين كان ميخائيل ينكبّ على ترجمة قصيدتي.
في الفريقين الآخرين كانت الأمور على المنوال نفسِه.
عبّاس بيضون من لبنان وفرانتس هودياك من ألمانيا بوساطة المترجم غونتر أورف.
صبّاح خرّاط زوين من لبنان وبريغيتّه أوليشنسكي من ألمانيا بوساطة المترجمة ليلى شمّاع.
كانت القصيدة تحتاج كلّ مرّة إلى شاعرين مترجمين وإلى مترجم شاعر.
5
شخص برلين كما تخيّلته أو تخيّلتها.
قديم مثلها. قديمة مثله. لكنّه لا يقيم فيها. ومع ذلك كأنّه ظلّ لترجّحها، وانكفائها إلى داخل مضمر، مكتوم.
سبعينيّ فتيّ قدم من رومانيا إلى ألمانيا عام 1992 وأقام فيها، فجعلته المدن الألمانية شاعرها.
سمّى فرانتس هودياك شاعر المدن. لا أمير الشعراء ولا فحلهم ولا ملكهم ولا رئيسهم.
شاعر المدن.
صامت. لا يجيد لغة غير الألمانية (على ما قيل لنا). لذا حسبنا جميعاً أن التواصل معه صعب. عبّاس بيضون، بمضي أربعة أيام، صار يقرأ قصائد هودياك بلغته وصوته (لغة عباس بيضون وصوته) وبمضيّ الفترة نفسها صار هودياك يقرأ قصائد عبّاس بيضون بلغته وصوته (لغة هودياك وصوته).
ثمّ أدركنا أنّ اللغة مع هودياك ليست هي المدخل إليه، ليست هي النافذة البدهية إلى روحِه. بل عيناه. يدخّن كثيراً ولا يتكلّم إلاّ فيما ندر. هودياك الساخر بصمته من ذاته ومنّا. هودياك الحكيم. نظراته خضراء هي النافذة إلى روحه. هي الجسر إلينا.كأنّه لشدّة ما يقيم محصّناً داخل أسوار ذاته، يذهله أن يُبصر كلّ مرّة ما فاته أن يبصره من قبل. فرانتس، القاسي المظهر، الغفل في الجلسات الخاصّة، الصامت، المتوحّد، الرقيق، ربّما ولِد كهلاً لكنّه يبصر العالم جديداً كلّ يوم.
6
كان هذا معمل بيرة، قال نادير.
وأنا كنتُ شاعراً! قلت لنادير.