حاورته: منار رشدي
هي الرواية الثالثة للكاتب “ممدوح رزق” بعد “سوبر ماريو” و”خلق الموتى”. تبدو “الفشل في النوم مع السيدة نون” كإعصار سردي من السخرية والجنس واللهو بكوابيس الذاكرة، يقتلع ويحطم كل ما يقابله في جميع الاتجاهات. عن الطبيب والمريض النفسي والسيدة نون كانت هذه المقابلة.
*رغم وجود أكثر من محاولة للتشكيك إلا أنني قرأت ما جاء على لسان شخصية المريض النفسي كنوع من الاعترافات التطهرية أو السيرة الذاتية الفضائحية؟
ـ ولم لا؟ .. ربما كان الغرض من محاولات زرع الشك هي أن تؤدي ـ كجزء من الدعابة ـ الغرض العكسي، أي تثبيت ما جاء على لسان الشخصية كحقيقة .. ربما كان هدفها أيضاً تمرير احتمال بأن أحد الجوانب الجوهرية لما يسمى بالاعترافات، أوالفضح الذاتي هو اللعب بالأكاذيب، والمبالغات .. كل قراءة قد تخلق إذن ما يمكن أن يُطلق عليه واقع مختلف أو وهم مختلف، أو تخلق التباساً مختلفاً.
*رأيت الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً أو أي شخصية أخرى محتملة كما ذكرت في عنوان كل هامش كوجه آخر للمريض النفسي. كأن الرواية تقوم على هذا الفصام، خصوصاً أن تحليلات الطبيب النفسي للتداعي الحر الخاص بالمريض تتناول الأسباب والأعراض المعروفة عن مرض اضطراب الشخصية المتعدد؟
ـ ربما كان هذا صحيحاً، وهو احتمال له مبرراته القوية في الرواية .. لكن (الفشل في النوم مع السيدة نون) لم تخضع لخبرات وتجارب التحليل النفسي بل استخدمتها لخلخلة ما يمكن أن تقدمه هذه الخبرات والتجارب كيقين أو كنتائج محسومة .. هذا ما يقودني بالضرورة للإشارة إلى أن الهاجس الأكثر جدارة في تصوري بالجدل هو أن حالة الفصام هذه ـ لو اعتبرناها كذلك ـ لا تمتد فقط بين المريض والطبيب بل ربما تحوّل كافة الذين ظهروا على مسرح الرواية إلى هويّات متصارعة داخل كل جسد حتى لو كان ظهورهم لم يكن سوى مرور عابر.
*الرواية لا تكتفي بجرأتها الجنسية بل تنتهك صراحة أجساد المحارم خاصة الأم. ما الذي كان يدور في ذهنك عند هذه المناطق من الكتابة تحديداً؟
ـ لا أفكر مطلقاً في شيء اسمه الجرأة، أنا أكتب ما أريده وحسب وليس هناك ما يمنعني من ذلك، هكذا ببساطة .. الأمر لا يتوقف عند حد الانتهاك بل أنني أردت اغتيال قدسية هذه الأجساد ليس لمجرد الرغبة في استعمالها للعب مثل أي شيء آخر بل لأن هذه القدسية ربما كانت صاحبة التأثير الأعنف في التاريخ الجسدي لشخصية المريض النفسي، وهو وصف مخادع طبعاً .. أنا الذي اخترت صورة غلاف الرواية، ولم أكن مطمئناً لما سينتج عن استخدامها، لكنني فوجئت بتصميم الفنان (عبد العزيز السماحي)؛ حيث وضعني أنا وأمي خارج البرواز، وهذا بالضبط ما كنت أقصده؛ الرواية تفكيك لسلطة اللقطة الفوتوغرافية التقليدية القديمة، التي تجمعني في الطفولة مع أمي.
*أريد أن أسألك عن أحد الأشكال المتعددة في لغة الرواية وهي الخاصة بفصول التداعي الحر. كيف قررت لها أن تتخذ هذه الطبيعة الأقرب إلى الكلامية؟
هي الطبيعة التي تناسب التداعي الحر لمريض يجلس في عيادة طبيب نفسي .. التي تتوافق مع حرية تدافع الذكريات دون قمع بقدر الإمكان .. هذا ما جعلني أكتب هذه الفصول بلغة تدمج بين الشفاهي والكتابي، محافظاً على ما تتسم منطقياً به من طيش وارتباك وأخطاء.
*من المؤكد وأنت تعلم هذا أن “الفشل في النوم مع السيدة نون” لا يمكنها أن تحظى بقبول القراء الذين يرفضون ما يعتبرونه بذاءة أو انحرافاً أخلاقياً. ما موقفك تجاه هذا الشكل من النقد؟
ـ استمتع به جداً، حتى أنني اتخيل في بعض الأوقات ما يمكن أن تكتبه هذه النوعية من القراء عن عملي وأضحك لأن هذا التخيل جزء عزيز من لذة الكتابة .. ردود الأفعال المصدومة، والغاضبة، والمرتبكة تُشعرني بالبهجة، وبالاعتزاز بالنفس ربما أكثر مما يُسببه الإعجاب أو الإشادة أحياناً .. قطعاً لا أعد نفسي خاسراً إذا لم أحصل عليها، ولكن هناك رغبة أصيلة عندي في إحداث التأثيرات المؤلمة لمن لديهم أحاسيس أخلاقية ودينية مرهفة.
*في الرواية هجوم عنيف وسخرية من المركزية القاهرية وشلل وسط البلد، وأعتقد أنها ليست المرة الأولى. إلى أي مدى أنت منشغل بهذه القضية؟
ـ ليست قضية، ولم يكن ما كتبته هجوماً .. كل ما في الأمر أنني بين حين وآخر أجد في نفسي رغبة للتسلية بالكتابة عن أعظم وأجمل مدينة على وجه الأرض، وعن النخب الأدبية التي تعيش فيها، وتعاني من الظلم لأنها لم تجد من يرفق بها أو يحنو عليها رغم أنهم أفضل كتّاب العالم .. بجد.
*”الفشل في النوم مع السيدة نون” من أكثر الروايات مبيعاً، كما رشحتها دار الحضارة لجائزة البوكر، هل أخبار كهذه تستحوذ على اهتمامك أو تجعلك سعيداً؟
ـ بالتأكيد تسعدني رغم أنها لا تمثل متعتي الأساسية .. ما يشبعني بحق لا علاقة له بنسبة التوزيع أو بالترشح لجائزة .. لكن على جانب آخر حتى لو لم تصل الرواية إلى القائمة الطويلة فيكفيني فعلاً اختيار الناشر المحترم (إلهامي بولس) لها من ضمن الروايات الكثيرة التي أصدرتها الدار، وبالمناسبة أنا أعتز جداً بتجربتي الأولى مع دار الحضارة، وتشرفت بالتعامل مع هذا الإنسان الراقي والمهذب، الذي لا زلت أكرر بأنني لا أصدق أنه ناشر مصري.
*هذا السؤال قد لا يكون “أدبياً” ولكنني عرفت الشخصيتين الحقيقيتين للسيدة نون وللروائي الشاب الذي مات بالسرطان بسهولة. ما الذي وراء إصرارك على أن تكون تفاصيلهما واضحة إلى هذه الدرجة؟
ـ لا أعرف ما هو استنتاجِك، ولا يعنيني صراحة .. لكن عموماً (الشخصيات) تتوقف عن أن تكون (حقيقية) في الكتابة مهما بلغ وضوح ملامحها الحقيقية .. هذه إجابة دبلوماسية طبعاُ لأنني في الواقع فقدت تدريجياً كل شيء، ولم تعد لدي حياة كي أعيشها ـ من قرأ (الفشل في النوم مع السيدة نون) قد يفهم ما أقصده ـ ولهذا منذ زمن طويل ـ ربما عكس ما يقوم به غيري من الكتّاب الذين يحوّلون الحياة إلى كتابة ـ قررت تحويل الكتابة إلى حياة انتقامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.