د. نعيمة عبد الجواد
انفتح باب الغرفة، وإذ به يندفع كالسهم نحو سيدَّته القابعة على كرسيها الهزاز تنتظره بفارغ صبر، عندما التقت عيناهما، لم يشعر بنفسه إلا وقد ارتمىفي أحضانها، وأخذ يعانقها بلهفة قائلًا:
– وحشتيني، وحشتيني أوي.
– شهر ما أشوفكش! كنت هتجنن!
– إنتي روحي، ولا لحظة فارقتي خيالي. بس اعمل إيه؟! غصب عني!
أخذت الدموع تندفع من مآقيهما كزخات مطر شديدة انطلقت؛ لتروي بساتين ما يشعران به من شوق كلٍّ تجاه الآخر.
نظر في عينيها باسماً وهو يخرج من جيبه علبة صغيرة، وكشف عن ساقها، ووضع قدرًا من محتوى هذا الحنجور عليها، ثم أخذ يدهن به ساقها بيد خبيرة تفيض بالرقة والحنان.
– معلش هدية على أد حالي.
– دي عندي أغلى هدية. تعرف جت في وقتها.
لم ترغب سيدته الكريمة أن يشعر ولو لوهلة بالانكسار، كفاه ما يتحمله من مآسي الدنيا.
ولما رأى دمعة تتلألأ في عينيها، أسرع في تقبيل قدميها، واحتضانهما، ثم وضع رأسه عليهما وأغمض عينيه وهو يقول بصوت متهدج:
– الجنة هنا! أنا حاسس إني في الجنة.
بقدر سعادتها بحبه لها، لكنها لم ترغب في أن ترى ولدها جالساً على الأرض خشية أن تكون غير مريحة، فطلبت منه أن ينهض؛ ليجلس على المقعد المجاور لها، فتنعم بقربه وبحديثه الشيِّق.
أخذ يحكي لها دون أن يأخذ نفسه أنه قد انتهى توًا من عمله الذي سافر من أجله طوال الشهر الماضي، وأول شخص بالتأكيد أراد أن يمتع ناظريه به هو أمه الحبيبة. ومن ثمَّ هرع إليها ناسيًا ما بلى جسده من تعب؛ لأن رؤيتها بلسم الروح. وأخذ يحكي لها كيف كان يجلس بالساعات في الشمس الحارقة التي جعلت لون بشرته الأبيض يتحول إلى البرونزي. لكن كلما كان يشتد عليه التعب، كان يتخيل صورتها وصوتها الحنون فيشحذ عزمه بالجَلَد.
كانت تستمع له وهي سعيدة بحبه العارم لها، وإصراره أن يأتي لها بهدية كلما زارها. بالنسبة لها، كانت جميع هداياه قيِّمة بالرغم من رخص ثمنها؛ لأنه كان يفكر بعناية فيما يشتريه لها. . . لم تكن حزينة أن ولدها يزورها مرة كل أسبوعين أو حتى شهر لمدة ساعة واحدة؛ لأنها كانت تتذكر حنانه طوال فترة غيابه، ويكفيه ما يقاسيه من ضيق الحال بسبب حنانه الذي يدفعه ألا يجعل أبناءه وزوجته ينقصهم شىء. كان في نظرها مثالًا للرجل المحب الحنون.
بينما كان يودعها، لم تنسَ أن تدس في يده رزمة مالية، فيأخذها وهو مطأطئ الرأس شاكرًا، وهكذا يفعل في كل مرة.. توجه نحو باب الحجرة وهو يرسل لها بحنان قُبلة في الهواء.
لما أشاح بوجهه منصرفًا، كانت أخته تنتظره، وقبل أن تهم بفتح فيها، باغتها بقوله:
– نتكلم بعدين، أنا بجد مرهق دلوقت.
– بسس…
– بعدين، بعدين.
وانطلق مسرعًا، ثم أدار محرك سيارته صوب منزله.
عندما فتح باب شقته، كانت زوجه تنتظره بابتسامة صفراء.
– شوفتها؟!
– مالك يا ستي!
– إوعى تكون أختك قالتلك خدها تاني.
– ما إدتهاش فرصة.
– آه، أنا مش عاوزة نكد. المصيف بتاع الأسبوع اللي فات مش كفاية، أنا عاوزة أقضي وقت أطول.
– يا قلبي! أنا خلاص هخليكي في مصيف طول الصيف. اشتريت شاليه النهاردة أحلى من اللي كان نفسك فيه.
ابتسمت له ابتسامة ذات مغزى، وانطلقت تعد لهما العشاء. أما هو فكان يتحسس بسعادة رزمة الأوراق المالية التي اغتنمها؛ فهي النواة لمخطط استبدال سيارته بأخرى جديدة.