محمد أبوالدهب
… كلاب وقطط وحشية بعيون فوسفورية تلمع في الظلام، مطاردات عنيفة في شتاء مظلم غارق في الوحدة، شبح مصوِّر عجوز مات في حادث يظهر في الندوة الأدبية له عينان مدفونتان في محجرين يشبهان مدخل بيت مظلم، أصوات قتلة وقتلى كل ليلة على سلّم البيت، هياكل عظمية تسعى في الطُّرقات، صبيّ يجرُّ جثة ضخمة في الشارع، مخالب حدأة تنغرس في اللحم ونارها تحرق قشرة المخ، قصر قديم معزول مهجور (ومسكون بالطبع في عقيدة مُجاوريه!) ابتلع لصًّا وأبقى فقط على ملابسه الممزقة، جسد يغوص معظمه في أسفلت الطريق ليصير الرأس في مهب عجلات السيارات المارقة، رحلة بالميكروباص في يومٍ عاصف وممطر مصحوبة بتساقط الأشجار وتشوُّش الرؤية وضياع الطريق، صرخات مدوّية في الليل مع مفارقة الكوابيس، وُحوش تختبئ وراء الأبواب، قطاع طرق في سكّة المقابر…
تلك بعض حواشي العالم الذي أدخلنا إليه القاص فكري عمر في مجموعته القصصية (مقهى الشجرة الزرقاء) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسلة إبداعات قصصية. لم يكن فكري عمر يتعمد إيقاظ مخاوفنا وحبس أنفاسنا واقتيادنا على عمَى إلى واقع مرعب متوسِّلا بالطريقة التي ستبدو للوهلة الأولى هي الأكثر إثارة إذ يحفن من الرعب المتلوّن لهذا الواقع ويُلقي في أغوار دواخل ذواتنا لتستفيق دفاعاتنا على الأرجح لا لنُصاب بالذعر، فنقبل طواعية كوْنَ الخوف والتوجّس واستشعار الخطر مكوّنات ضرورية وفاعلة في تشكيل سيرورة علاقتنا بوجودنا.. فمعظم شخصيات قصصه مسالمة نازعة إلى البساطة والتعايش والبحث الحُلمي عن حيز منطقي وعادل للتواصل والحضور.. والعدائية الوجودية التي تُلاقي نفسها مدفوعة إلى مكابدتها تأتي دائما من الجانب الآخر (مهما تغيّر توصيف هذا الجانب) إما مصادفةً كالتورّط من قبيل سوء الحظ وإما في صورة خواطر مخيفة أقرب إلى القرين تُلازمها أصوات استغاثات وطلب دائم للنجدة من المجهول أو أحلام يقظة غريبة كنتائج لمقدّمات.. لتتأرجح هذه الشخصيات بين مواجهة مخاوفها والاستسلام لها، بين امتلاك الشجاعة لتحويل وهم الرعب وهاجس اللاأمان إلى يقين معاند دافع إلى التجاوز والمواصلة من جهة وابتعاث كل الوحوش الكامنة بالمغالاة في الخوف منها ومن ثم الدفن أحياء في قبور ذواتهم من جهة أخرى (أحيانا هلاوس وضلالات تُوقِع من قريبٍ أو بعيد في فخّ المرض العقليّ).. يمكن الرجوع في ذلك إلى قصص (برج المراقبة.. ذلك الصوت.. السور.. القطار يحترق.. أجراس العربة الكارو.. النافذة.. اللعبة).. استدعَى هذا التأرجُح من ذاكرتي القرائيّة مجموعة (الخوف) لجي دي موباسان خاصة قصة (فوق صفحة الماء) التي تأرجَح فيها أيضا على نحوٍ أكثر مباشرة: “حاولتُ أن أتعقّل وشعرت بإرادة قوية تحثني على عدم الخوف، ولكن كان بداخلي شيء آخر غير هذه الإرادة، شيء ما كان خائفًا، وساءلت نفسي عما يمكنني أن أخشى، وأخذتْ ذاتي الشُّجاعة تسخر من ذاتي الوجلة، وبحياتي لم أكن قد أدركت -قبل ذلك اليوم- هذا الكَمّ من التناقض بين الذاتين اللتين يحملهما كل منا بداخله”
إنتاج لحظات الرعب أو بالأقل محاولة مكاشفتها في (مقهى الشجرة الزرقاء) لفكري عمر يجري في اتجاه معكوس عنه في (الخوف) لموباسان، فالذات الوجلة هنا هي التي تسخر من الذات الشجاعة، تقودها وتزيِّن لها شجاعتها ثم تتبرّأ منها وتتركها مخدوعة دون بارقة أمان.. ولعل قصة (ذلك الصوت) هي النموذج الأنسب للتدليل على هذا الطَّرْح مع أن قصصًا أخرى بالمجموعة يوافقها ذلك أيضا، ذكرتُ بعضها سابقًا وأضيف إليها (جولات أحمد عثمان الليلية.. ملاك في المئذنة.. غناء.. فوق الماء، تحت الماء.. الطريق بين البحر والسماء).
“منذ أسبوع كان قد تراءى له تصوُّر مخيف ومزعج: ثمة قبضة حديدية لمجهول تهوي على جسد سمين ومكتنز من الخلف، فيترنّح المضروب كالسكير بين الدرابزين والحائط…”
علائق الخوف والانزعاج أفرزها التّوهُّم، والاستنامة له نقشت داخل وعي الخائف المنزعج التفاصيلَ التي كَمنَ سرُّها في تحديد معيارية جديدة للاتصال بالواقع الذى هو حتى اللحظة منتَج تخييلي لدى (محمود) المسرود عنه في الفقرة، قد يتحول إلى معاينة تقطع الشك باليقين إذا فُتح الباب مثلا وشوهدت الجثة، أو لوحظت آثار دماء على الحائط أو الدرابزين، لكن ذلك لا يحدث لمدة أسبوع لأن الذات الوجلة أسهمت في تفجير وهم أشدّ رعبًا لا يزال ينافح الذات الشجاعة.
“يندهش لمجرد تصور جريمة تحدث داخل تلك العمارة التي تسكنها ستُّ أُسَر ولم ينوِّه بها أحد منهم……….. قرر أن يجلس يومًا خلف الباب مباشرة، ليقطع الشكوك التي تهزم طمأنينته. أعدّ عدته: عصا خيزرانية تنتهي بقبضة مكوّرة، وسكين مشحوذة”
الإشارات الدلالية في النص تضعنا على ثقة من أن اندهاش محمود ليس موجّها إلى جيرانه في العمارة لأن أحدًا منهم لم يأتِ على سيرة جريمة قتل بافتراض أنها حدثت بالفعل، وإنما هو موجّهٌ إلى مجرد تصوّر حدوث جريمة قتل على الإطلاق.. الإشارات نفسها التي تؤكّد معرفتنا بأنه لا يمكن أن يستحيل قاتلا حتى لو دفعه الصراع بين وَجَله وشجاعته أو بالأحرى التناقض بينهما إلى أن يعدّ العدّة ويتربّص خلف الباب بأسلحته البدائية الكافية لأداء المهمة على أية حال.. خاصة أنه فكّر جادّا في الذهاب إلى طبيب أمراض عقلية ليفكّ عنده عقدة هذا التناقض وفكّر أيضا في ترك مسكنه (ساحة الصراع) والعودة إلى الريف.
“وفي اللحظة المحسوبة حين يستدير عبداللطيف صاعدًا، تلك الاستدارة التي رُسمت من قبل مئة مرة، يهوي محمود بكل غيظ على رأسه الكبير الملفوف باللاسة باليد الحديدية”
إذن فقد خدعتْنا الإيماءات الدلالية السابقة وذهبت توقّعاتنا هباءً! الآن يخطّط محمود لما بعد مرحلة التخلّص من نصفه الخائف، ما بعد الممارسة الفعلية لنفي مصدر القلق خارج إطار التصوّرات الحبيسة، ما بعد عملية القتل.. ويكتب ذهنيّا السيناريوهات المحتملة: يتصل بالشرطة ويعترف، يرمي الجثة في الترعة بعد أن يحملها في شنطة السيارة وينظف مكان القتل ثم يتصل بالشرطة كفاعل خير.. بل إنه يرغب في إيقاظ زوجته وأبنائه ليشاركوه سعادته بزوال الرعب وحلول الطمأنينة.. لكن إشارات السرد الدلالية، إياها، التي ينثرها فكري عمر هنا وهناك مخبوءةً ببواطن مجازاته اللغوية ما تزال تغوينا لندرك -ربما أتفادى قوْل “نتوقّع”- أن المسألة ليست بهذه البساطة رغم أنها كسرتْ توقّعاتنا في السابق!
“كانت الأصوات قد بدأت تهلّ عليه الآن عكس ما تصوّر………. وليتخلّص من حصارها اندفع بسيارته بأقصى سرعتها على طريق مهجور لا يحظى مستخدموه بأي أمان”
الذات المرتعبة لم تعد تكتفي بالسخرية، لقد أجهزت تماما على الأخرى المتطلِّعة إلى أمانٍ بدا أن التَّحصُّل عليه غير مستطاع. وانفتحت بلاغة مضمون النهاية على مصراعيها -سمة متكرّرة تميّز قصص فكري عمر- ابتداءً من إمكانية تأويل أن الأصوات كلها كانت جوّانية وأن جريمتَيْ القتل دبّرتهما ضلالات الوعي (كأن الأمر تخييل داخل التخييل) وليس انتهاءً بإعلان ذهاب محمود ليموت وحيدًا على الطريق المهجور لأن رعب الموت الميتافيزيقي هو المخلِّص الوحيد (بغموضه الذي بلا ضمانة) من رعبه الفيزيقي الذي يكابده قبل أكثر من أسبوع!
***
يكتب فكري عمر القصة بأصالة جديدة، تحافظ لغته على توازن عضوي بين الحقيقي والمجازي، لديه نزوع هادئ إلى تفتيت لحظته القصصية المنتقاة، وترويض الانفعالات التي تسبق وتُزامن عملية الكتابة، وفلترة التنازعات الذهنية في أثنائها، حتى أن قصصه تكتمل عائمةً في المنطقة الوافرة المشوِّقة بين واقعها وما وراءه، وحتى أن القصص التي تطول مساحتها السردية تبقى قابضةً على وجازتها وكثافتها.. تتوزَّع همومه بين المثقّفين الحالمين والمُتعَبين المعافرين والإنسان عموما في سؤاله الدائم عن معنى وجوده وعلّة موته.