حامد موسى
رجل عجوز يتهادى بخطوات واهنة نحو المكان المطلّ على القناة. يمتدّ المكان كمشرفة في الماء، تطل عليه من بعيد. كانت السفن الضخمة تمرق عباب القناة قادمة من الشمال، فيما واصلت المعديات ذهابها ومجيئها بين ضفتي القناة، تنقل الناس بين المدينتين، تشيّعها طيور النوارس البيضاء.
المكان منير بأضواء أعمدة الميناء والسفن العابرة والمعدّات، فيما راح عدد من الناس ينتشرون على المقاعد الموزعة داخل الحديقة المطلة، يتحدثون، يضحكون، ويرقبون الأضواء المتلألئة.
الأطفال يتقافزون في وسط المكان، وعلى الحواف المنيعة بالحواجز الحديدية.
كان غريبًا أن يأتي الرجل العجوز بمفرده، محنيّ الظهر، يسير كمن يتتبع ظلًا مفقودًا.
جلس على مقعد رخامي يواجه المياه مباشرة، أسند ظهره واستراح. خلفه، كانت ثمة شابة تجلس في ظهر المقعد المشترك بينهما، لكنها تطلّ في الاتجاه الآخر، منشغلة تمامًا بهاتفها المحمول.
رمقه بعض الجالسين بنظرات عابرة، ثم عاد كلٌّ منهم إلى حديثه، كان النسيم الرطب القادم من جوف القناة.يداعب وجوههم
بدا كأنه غريبٌ عن المكان، عن الضوء والحركة، عن الأطفال والضحك.
عندما جلس على المقعد ،أطرق برأسه نحو الأرض، كأنه معزول عمّا حوله.
بعد فترة، اقترب منه شاب يافع، وجلس بجواره.
بدا الفارق بينهما صارخًا: الزمن ذاته يجلس بوجهين على المقعد.
قال الشاب بعد لحظة صمت: – بتحب تيجي هنا كتير؟
لم يرد العجوز فورًا. كان صوته حين نطق، أشبه بصدى بعيد:
– كنت باجي… معاها.
سكت قليلًا، ثم أردف:
– بنتي.
نظر الشاب نحوه، مستفسرًا دون أن يقاطعه.
– كانت بتحب المكان ده… كانت تشتغل في المستشفى اللي قريب من الميناء. كلّ ما تخلص شغلها نتمشّى هنا، تقولي: “الضوء اللي بينعكس على الميّه بيروّقلي روحي”.
كان ضحكها… يشبه النوارس وهي تطير.
صمت.
ثم قال فجأة:
– ماتت.
شعر الشاب كأن شيئًا باردًا مرّ على جلده.
– آسف، ربنا يرحمها.
هزّ العجوز رأسه، ثم قال بصوت مبلّل:
– من يومها، بقيت أجي لوحدي… مش علشان أفتكر، لأ… علشان ما أنساش.
قال الشاب بعد لحظة:
– حضرتك عندك أولاد تانيين؟
– ما كانش فيه غيرها… وما فضلش حاجة بعدها.
أطرق الشاب رأسه. ثم رفع نظره ناحية السفن العابرة، وقال:
– غريبة… الناس ساعات بتبقى حوالينا كتير، بس الوِحدة بتبقى في القلب.
ابتسم العجوز ابتسامة خفيفة، متكسّرة، ثم قال:
– لما اللي كنت بتيجي عشانه يختفي… بتبقى الأماكن زَيّ الوجوه… مليانة ناس بس فاضية.
ساد صمت طويل، لا يقطعه سوى صوت النسيم في الحواجز، وأزيز باخرة تمرق ببطء في قلب الليل.
ثم، عند عبور إحدى المعديات، همس العجوز، كأنه يخاطب الغياب:
– شوفيهم… لسه بيعدّوا… ولسه أنا هنا، مستنيكِ.
لكنّ الشاب انتبه فجأة إلى أمرٍ غريب.
المعديّة التي كانت تقترب ببطء، لا تحمل ركّابًا. كانت فارغة تمامًا، تسير وحدها في صمت، يتقدّمها نور باهت، خافت، كأنها مركب لا يسير بالديزل، بل بالذكرى.
وحين مرّت بمحاذاتهم، خُيّل للشاب — للحظة خاطفة — أن ظلّ امرأة وحيدة واقفة عند الدرابزين، تلوّح بيدٍ ممدودة، بينما شعرها يرفرف في الهواء… ثم اختفى كلّ شيء.
التفت نحو العجوز، لكنه لم يجده.
كان المقعد فارغًا تمامًا، إلا من بعض دفءٍ باقٍ، ووشاح صغير مطويّ بعناية.
في السماء، ارتفعت صرخة نورس… ثم عمّ الصمت.