مقدمة رواية “أليس في بلاد الكَم”.. حكايةٌ خيالية في عالَم فيزياء الكَم

أليس في بلاد الكم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مقدمة المترجم: أحمد سمير سعد 

هل يمكنك تصور رواية أبطالها إلكترونات ونيوترونات وبروتونات وفوتونات وكواركات؟

في عام ١٨٦٥ كتب عالم الرياضيات تشارلز لوتويدج دودسون تحت اسمه المستعار لويس كارول روايته الكلاسيكية الشهيرة للغاية “أليس في بلاد العجائب”. فيها نجد أليس ترتاد بلادا خيالية وتشاهد عوالم ساحرة. لذلك ليس غريبا أن يأتي روبرت جيلمور الفيزيائي والرياضي خريج معهد ماساتشوستس والبروفيسور في جامعة جنوب فلوريدا ثم دريكسيل وصاحب المؤلفات العديدة في الفيزياء ويستلهم ذات شخصية أليس كي ترتحل في بلاد الكم التي لا تقل غرابة عن بلاد العجائب؛ ليكتب رائعته “أليس في بلاد الكم” عام ١٩٩٥ لتصدر بعد ذلك في نسختها العربية من ترجمتي مؤخرا عن مؤسسة هنداوي. من الجلي أن جيلمور قد رأى في عوالم نظرية الكم من العجائب والغرائب ما جعله يفكر في استدعاء أليس من أجل أن تزورها وأن تستجلي أسرارها التي تنافس في سحرها الخيال حتى الخيال شديد الاتساع للويس كارول نفسه.

في رواية أليس في بلاد الكم لا تكاد تمرر الصفحات الأولى حتى تجد أليس تحادث إلكترونا، كيف كان ذلك؟

صحيح أن هذه الجسيمات هي ركن أصيل في الفيزياء كما نعرفها الآن، لكنك لن تعدم أن تجد من يشكك في وجود هذه الجسيمات من الأصل.

إن التجارب يمكنها أن ترصد آثارها لكن هل ترصدها هي بالفعل، أم أن هذه تأثيرات لأشياء أخرى أعمق لا ندركها؟

ولو كنا بالفعل نرصد مثل هذه الجسيمات، فهل نملك التعرف عليها حقيقة، أم أن ما نملكه عنها مجرد بيانات بلا صورة للجوهر؟

رغم ذلك تمكن روبرت جيلمور من تشخيص الإلكترونات ورسمها في براعة منقطعة النظير بشكل لا يخل بأي من المعلومات التي نعرفها عنها.

في الفصل التاسع نجد أليس بطلة الرواية التي كانت قد سقطت في بلاد الكوانتم تشيد بفنانين نحتوا تماثيلا تتخذ هيئات الجسيمات المرموقة، تماثيل نحتت في براعة حتى تبدو أشكال الجسيمات رغم تعينها مشوشة، في الحقيقة جيلمور هو من يستحق هذه الإشادة، فقد شخص الإلكترون وغيره من الجسيمات في أذهاننا بطريقة غاية في البراعة والصحة العلمية، تجلت البراعة كثيرا مع تغييره لتلك الصورة من خلال تغير المنظور، فالإلكترون الذي رافقته أليس وهي تتنقل بين حالات مستويات الطاقة، أصبح ضخما جدا كسحابة مهيبة عندما باتت تنظر إليه من فوق سطح النواة، هذه التفاصيل هي ما تمثل روعة ذلك العمل. وذلك الوعي الشديد والإلحاح في أكثر من موضع على أن الكثير يتحدد بحسب المنظور الذي نتطلع منه كان لافتا وهاما جدا.

تعرف أليس الكثير عن عوالم نظرية الكم من خلال زيارتها التي دبرها لها جيلمور، نجدها تركب قطار إكسبريس الفوتون وترتاد بنك هايزنبرج لسلف الطاقة وتقابل التقنيين في معهد الميكانيكا وتشرف على إعداد الجسيمات للاطلاع بدورهم في العالم وتدريبهم عليه في معهد فيرمي – بوز وترى عبر أجهزة الواقع الافتراضي (التي لم تكن موجودة وقت كتابة الرواية في التسعينيات كما هي موجودة الآن) الجسيمات الافتراضية والفراغ النشط وتتمشى في مرافئ الذرات وتسافر إلى قلعة رذرفورد التي تقع في قلب النواة السري حيث تتشكل سياسات العالم وتذهب مدعوة إلى حفل تنكري ترقص فيه الجسيمات وتتصادم وترفع الأقنعة.

لا تكتفي أليس بذلك بل تحضر فصلا فلسفيا يناقش فلسفة الكم في مدرسة كوبنهاجن، ومدرسة كوبنهاجن التي سميت تيمنا بنيلز بور أحد رواد فيزياء الكم، هي حركة حقيقية تبنت تفسيرات فلسفية معينة لنظرية الكم، غير أن المثير للإعجاب فيما قام به جيلمور في هذا الفصل أنه قد لعب على كون الدنمارك كذلك هي مسقط رأس الروائي الشهير هانز كريستيان أندرسن كما هي مسقط رأس نيلز بور، ليجعل من الشخصيات التي تقدم أوراقها البحثية في المدرسة شخصيات قصص أندرسن الشهيرة مثل البطة القبيحة والفتاة الفقيرة بائعة الكبريت والإمبراطور العاري وملابسه الجديدة وعروس البحر. الأبرع أن جيلمور كان يربط بين أحداث قصصهم وأفكارهم وبين رؤى فلسفية تتعلق بعوالم الكم بشكل فعلي.

لا تقف ثقافة روبرت جيلمور الفيزيائي النابه الأدبية عند تلك الحدود، فنجده يصف محاسب البنك في بنك هايزنبرج بأنه يشبه واحدة من شخصيات تشارلز ديكينز في روايته ترنيمة عيد الميلاد وهو إبينيزار سكروج، ذلك الثري البخيل البائس.

لا ينفك بين الحين والآخر أن يربط بين الألسين، أليس بلاد العجائب وأليس بلاد الكوانتم فنجد أليس بلاد الكوانتم عندما حدثها مرافقها عن آبار الجهد، تتحدث عن آبار المياه وآبار البترول وكذلك بئر المولاس الذي ورد في رواية لويس كارول. حيث أخبر حيوان الزغبة أليس عن قصة إيلسي ولاسي وتيلي الذين يعيشون في بئر وعندما سألته أليس عما يأكلون من أجل معاشهم، فكر قليلا لدقيقة أو دقيقتين ثم أخبرها أنه كان بئر مولاس.

ورغم التفاصيل العلمية الكثيرة والثرية إلا أن جيلمور نجح ببراعة في التخييل وإثراء الشخصيات والأحداث بتفاصيل نابعة من حقائق تخصهم وهل أدل على ذلك من الكواركات كما رسمها؟!

إن الكواركات كائنات ذات شحنات ملونة، هذه الألوان جعلت جيلمور يصورها كمهرجين، يتلاعبون بالكلمات ولا يكفون عن التفكه والسخرية وعمل المقالب، عندما حاولت أليس أن تصافح أحدهم وجدت يدها تقبض على كرة مطاطية لبوق سيارة قديمة، ضغطت عليه فانطلقت منه صفارة.

استغل جيلمور التصاق الكواركات ببعضها وجعلها تماثل تويدل دوم وتويدل دي التوأم خفيف الظل الذي لا يكف عن الشجار، كانت أليس قد التقته في رائعة لويس كارول “أليس عبر المرآة”، وهو ما يكشف عن براعة جيلمور في خلقه لتلك التقاطعات الكثيرة وخلقه لمعادلات موضوعية تكسب عمله ديناميكية ودرامية عالية ومحببة.

هذه الطبيعة الساخرة والمتفكهة التي كتب بها جيلمور أجزاء غير قليلة من الرواية مثلت أحيانا صعوبة عند الترجمة خاصة وأنه كثيرا ما كان يلعب على مفردات اللغة نفسها وهو الأمر الذي مارسه لويس كارول كثيرا في الرواية الأصلية.

قد تبدو ألعاب اللغة هذه تزيدا لكنها ككل عناصر الرواية فهي هناك لسبب، لقد كان جيلمور يلح على أن اللغة هي  ما اصطلحنا عليه وهو السبب في أنه كثيرا ما تستخدم اصطلاحات في بلاد الكم بمعاني غير معانيها في بلادنا العادية وذلك ببساطة لأن أهل الكم قد اصطلحوا على ذلك.

مثل مصطلح التكامل complementarity الذي صكه نيلز بور كي يعبر عن حقيقة أنه من الممكن أن تكون هناك مفاهيم لا يمكن تحديدها بدقة معا في نفس الوقت، في حين أن الكلمة في عوالمنا العادية غير محملة بهذه المعاني.

وهل أدل على ذلك أيضا من شحنات الكواركات الحمراء والخضراء والزرقاء تلك الشحنات التي ليست لها أدنى علاقة بالألوان سوى أنه قد اتفق في عالم الكم على منحها هذا الأسماء.

هذه رواية لا تكتفي بسرد معلوماتي هو الغرض الأساسي منها لكنها تنتهج بناء دراميا أدبيا كذلك وهو بناء واع تفاصيله تخدم الغرض الرئيس من الرواية.

ربما تشبه هذه الرواية في غرضها نوعا ما رواية جوستيان جاردنر (عالم صوفي)، إلا أن جاردنر كان معنيا بشرح تاريخ الفلسفة والفلاسفة لصوفي بينما يرتب جيلمور لأليس ولنا رحلة إلى عوالم نظرية الكم، بخلاف الفارق في الموضوع إلا أن هناك فارقا رئيسيا في البناء فجاردنر كان قد اكتفى بمعلم شارح يقص على أذن صوفي قصة الفلسفة بينما عمد جيلمور هنا إلى اصطحاب أليس إلى عمق عالم الكم لتعاين وتختبر وتسأل بنفسها وتحتك، أليس التي تجولت في الذرة والنواة وصادقت الإلكترونات وشعرت بالأسى للفوتونات التي امتصت وذهبت في غمضة عين، وانتهت إلى معرض للفيزيائيين التجريبيين صادفت فيه أرسطو مرتديا ما يشبه برنس الحمام معلنا عن مقدرته على تحريك العالم بالرافعة فقط لو وجد سطحا ثابتا كي يقيم عليه رافعته تلك.

هذه رحلة ممتعة لا تقل متعة عن رحلة أليس في بلاد العجائب فليس هناك أعجب من بلاد الكم وهي رحلة لن تنهيها أبدا بذات الرؤية التي بدأت بها عن العالم، فقد نجح علماء الكم في تحريك العالم بالفعل على الأقل بالنسبة لوعينا بنا وبالعالم.

رابط تحميل النسخة العربية من رواية “أليس في بلاد الكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روائي ومترجم مصري 

 

مقالات من نفس القسم